انقاذ النزعة الانسانية في الدين د.عبدالجبارالرفاعي
انقاذ النزعة الانسانية في الدين
د.عبدالجبارالرفاعي
ظل نصيب التأليف في الاخلاق هو الأقل مقارنة بغيره من المعارف والفنون في تراثنا المدون بالعربية, فحين نراجع ((الفهرست)) لابن النديم وماتلاه من فهرستات ومراجع ببليوغرافية, اهتمت باستقراء وتصنيف الكتب, نجد التفسير وعلوم القرآن والحديث والشريعة واللغة العربية وآدابها وعلم الكلام والفلسفة والمنطق وغيرها, احتلت حيزا واسعا من عناوين المؤلفات المذكورة في تلك المراجع, بينما لانعثر على مدونات مستقلة تعالج البحث النظري في الاخلاق او الفلسفة الاخلاقية في الفترة المبكرة من عصر التدوين. وان انبثقت مفاهيم كلامية تتصل بالاخلاق في فضاء التفكير الكلامي, وترتبط بالتأمل في نصوص الكتاب والسنة, وتنامي الجدل بين الفرق والمذاهب المتنوعة. ثم بدأت تتسرب بالتدريج الآراء الأخلاقية اليونانية والرواقية والاسكندرانية الى المسلمين, منذ ان تعرفوا على تراث اثينا والاسكندرية من خلال الترجمة . وأفضت تأثيرات هذه الآراء فيما بعد الى ان يؤلف المؤرخ والفيلسوف المعروف مسكويه في القرن الرابع الهجري كتابه ((تهذيب الاخلاق)) الذي دشن أرضية تأسيس علم جديد بموازاة العلوم والمعارف الاخرى في المجال الاسلامي. فقد رفع مسكويه الاخلاق أو البحث فيها الى مرتبة العلم الكامل (وفرض بذلك في المجال الاسلامي اختصاصا فكريا موازيا لذلك الاختصاص الذي فرضه أرسطو في اليونان الكلاسيكية, عندما كتب ((رسالة في الاخلاق الى نيكاماخوس)). والواقع ان كتاب ((التهذيب)) يستعيد جوهر نظرية أرسطو)[1].وجرى استدعاء المواضيع الأساسية لكتاب مسكويه في آثار لاحقة, بعد ان تم (دمج الجانب الفلسفي بالجانب الديني والصوفي)[2], وخلعت عليها صبغة اسلامية في ((ميزان العمل)) للغزالي, و((أدب الدنيا والدين)) للماوردي, و((الاخلاق والسير)) لابن حزم.
اما المحاولات الحديثة والمعاصرة في هذا الاتجاه, فلما تزل محدودة وضئيلة مقارنة بالمتطلبات الاخلاقية الملحة لمجتمعاتنا, التي تجتاحها أعاصير وموجات تقوض بناها التقليدية وتسوقها نحو فوضى شاملة ومصائر مجهولة.
ولعل أبرز هذه المحاولات هي رسالة قدمها محمد عبد الله دراز لجامعة السوربون بباريس سنة 1947 بعنوان Lamorala du koran ((اخلاق القرآن )) لنيل شهادة الدكتوراه, وترجمت الى العربية باسم((دستور الاخلاق في القرآن)). وقد تحكمت في رؤيته لـ ((أخلاق القرآن)) قضايا مرجعيتها الاخلاق الكانتية, والتي محورها: فكرة((الواجب)) أو ((الالزام الاخلاقي)) أو ((القانون الاخلاقي)). وبذلك لاتغدو هذه الرسالة سوى مسعى لمعيار القضايا الاخلاقية/ الحقوقية المعاصرة للمؤلف في ضوء القرآن, وليست مسعى لصياغة ((اخلاق القرآن))[3] .
وفي سنة 2000 أصدر الدكتور طه عبد الرحمن ((سؤال الأخلاق)). وهو كما يتحدث عنوانه الشارح((مساهمة في النقد الاخلاقي للحداثة الغربية)). وبالرغم من استعانة المؤلف بمعطيات الفكر الغربي وتوظيفه لأدواته المنهاجية, مثلما يفعل في جميع اعماله, غير انه يتسلح برؤية ايديولوجية سلفية متحيزة, تستعير خطاب تيارات مابعد الحداثة المناهضة للعقلانية والتنوير, وتحرص على اصطناع صورة ممسوخة مجتزأة زائفة للحداثة,وتحاول تنزيه الذات ، وتبجيل الماضي بتمامه، ورؤية التراث من منظور رومانسي حالم، واعتبار كل شئ فيه جميلا منزها, ومضيئا ساطعا .
الانسان كائن متدين :
الدين ظاهرة واكبت تاريخ البشرية منذ وجودها على سطح الارض, والانسان كائن متدين, وان تباينت تعبيراته عن تدينه, واختلفت تجليات ومظاهر الدين في حياته. ومع ان طائفة من الفلاسفة والمفكرين تنبأوا بانحسار تأثير الدين كعامل محرك للحياة, وربما زواله نهائيا بعد دخول الانسان عصر العلم, واكتشافه للكثير من قوانين الطبيعة, وتفسيره لما كان يحسبه أسرارا وألغازا تستعصي على العقل, الا اننا نشاهد عودة للمقدس, اوإنتقاما لله لنفسه, وانبعاثا للعامل الديني، في المجتمعات الصناعية التي دخلت عصر العلم منذ فترة طويلة . كذلك لم يتراجع تأثير الدين في مجتمعاتنا, بل انطلق عاصفا ليجتاح كافة مجالات الحياة التي لبث شيء منها مدة طويلة بمنأى عنه. وحتى اولئك الذين يعلنون رفضهم واقلاعهم من كل فكرة أوشعور ديني, لايستطيعون الافلات التام من ترسبات الدين الغاطسة في لاوعيهم, والموروثة من سلالاتهم العريقة والاجيال المنحدرين منها. يكتب مرسيا الياد: (الانسان غير الديني ينحدر من سلالة الانسان الديني, وهو صنيعته ايضا, اراد ذلك أم لم يرد, وقد تكوّن انطلاقا من أوضاع اتخذها اسلافه... ان الانسان الدنيوي, أراد ذلك أم لم يرد, لم يزل يحتفظ بآثار من سلوك الانسان الديني, لكنها خالية من المعاني الدينية. مهما فعل فهو وارث, لايستطيع ان يلغي ماضيه نهائيا مادام هو نفسه نتاجا لهذا الماضي ... الغالبية العظمى من الذين لادين لهم ليسوا متحررين تماما من المسلك الديني, من اللاهوت والميثولوجيا, فهم احيانا مثقلون بكل((لخبطة)) سحرية ـــ دينية, لكنها منحطة الى درجة الكاريكاتور, ولهذا كان من الصعب التعرف عليها)[4] .
ان حياة مفرغة من أية مشاعر دينية, أو مستغنية بشكل تام عن المتطلبات المعنوية للانسان, ولاتصبو للمتعالي, ولاتتوق للامتناهي, ولاتسعى لقول ما لايمكن قوله, او التعبير عن ما لايمكن التعبير عنه, أو تصور ما لايمكن تصوره, ان مثل هذه الحياة لاتتسع لها ارضنا, ذلك انه حتى في أحرص المجتمعات على العلمنة, واشدها اصرارا على نبذ الرموز الدينية, يمكن لرجل اعمال مثلا أو سياسي ان يقبل بإخلاص قواعد الحياة العائلية التي يشرعنها الدين, بينما يسير اعماله في الوقت نفسه في الدائرة العمومية من دون الرجوع لأية قيم دينية مهما كانت, بل ان انتشار العلمنة وشيوعها في الحياة اليومية, لم يمنع من حضور رموز دينية مرتبطة بمؤسسات الدولة والاسرة, فمثلا حيث يقبل جميع الناس ان لايتخطى الدين ابواب الكنيسة, يمكن ان يقبلوا وبالطريقة نفسها ان لاتخاض حرب ولايُقدم على زواج دون اللجوء الى الرموز الدينية التقليدية[5] .
ان حاجة الانسان الى الدين تنبثق من اعماقه, وحتى لو اجتاحت بعض المجتمعات جائحة تناهض الدين ومايتصل به, فانها سرعان ما تضمحل وتعاود الظواهر الدينية حضورها الأبدي من جديد, وربما بفاعلية وضراوة. ففي القرن التاسع عشر تحدث فويرباخ, وماركس, ونيتشه, ...وغيرهم, عن غياب الاله, أو ((موت الله)) حسب تعبير نيتشه, غير ان الله انتقم لنفسه, فعاد الايمان به يتسع بمرور الايام, وتحقق ماقاله اندريه مالرو:(ان القرن الحادي والعشرين سوف يكون روحيا أودينيا, أو انه لن يكون)[6] . صحيح انه قد مات نمط التصور القروسطي للإله, وتشكلت صورة بديلة عنه. اما الله تعالى فإنه حي لايموت, وهو ظاهر ماغاب قط, وان كانت أنحاء تصورات الانسان عنه تموت وتغيب, لتحل بدلا عنها تصورات اخرى.
ومادامت حياة الانسان تفضي الى الموت, والانسان كائن يتوق للخلود وينشد الابدية بطبيعته, فلا يمكن ان يصل الى اليوم الذي يستغني فيه عن الدين, ذلك (ان كل مجتمع بشري يمثل في نهاية التحليل جمعية أُناس يتحالفون معا تجاه الموت, وتكون قوة الدين رهينة لمصداقية الرايات التي يضعها بين أيدي البشر عندما يواجهون الموت, أو على الأصح بينما يتسابقون نحوه)[7] .
الدين هو المشروع البشري الذي يخلق كونا مقدسا, وان يضع الانسان نفسه في موضعها الصحيح بالنسبة الى العالم المقدس معناه حمايتها من تهديدات الفوضى الكابوسية, وان الخروج من ذلك الموضع يعنى الانزلاق نحو حافة الهاوية. ويذهب بيرجر الى (ان الدين أدى دورا فريدا في مشروع بناء عالم بشري. الدين هو الذي يسمح بفرض دلالاته الخاصة على الواقع بأكثر نجاعة, وعلى الوجه الاكمل. والدين يقتضي ان يسقط النظام البشري على مجموع الكون. وبعبارة اخرى, فالدين هو أجرأ محاولة في تصور الكون كله ذات دلالة بشرية)[8] .
ومعنى ان يعيش الفرد في كنف دين خاص هو افتراض ان يعيش في سياق اجتماعي خاص, يمكن لهذا العالم الديني داخله ان يضمن مصداقيته, وحيث يكون ناموس الحياة الفكرية متماشيا في كثير أو قليل مع هذا العالم الديني يمثل الانفصال عن هذا العالم تهديدا باللاناموس[9].
ان مايجتاح الحياة البشرية من جراحات ورضوض, وما يستبد بها من قلق, وكل ما ينتجه هذا القلق من كوابيس وتوترات واضطراب, ليس بوسع الانسان الخلاص منه بالوفرة المادية والرفاه وارتفاع المستوى المعاشي, لان كل ذلك لاينتج طمأنينة انطولوجية, وأملا مفعما بالغبطة, وسكينة, واحلاما متسامية, وانسجاما مع الكون والعالم الذي يعيش فيه البشر. بيد ان الدين, وبما يخلعه على العالم من نظام رمزي, يصيره شفافا جميلا, يتساكن معه الانسان. اذ ان النظام الرمزي يمنح القيمة لمختلف المعاني التي تنطوي عليها التجليات المقدسة. وعندئذ يتبدى العالم مشبعا بالمعنى. وتعزز رمزية العالم من قيمته, عبر تراكم دلالات اضافية, من دون ان تنال من قيمته الخاصة. وهكذا تكشف كل فعاليات الانسان ونشاطاته عن معنى, ولاتعود كثيفة ومرهقة, فيما تبدو الاعمال الفيزيولوجية المجردة عن النظام الرمزي للعالم, عارية عن المضمون الروحي, وتغدو كثيفة ومرهقة, وربما ليست ذات جدوى[10]. واذا كان ( اصل الدين هو الشعور بالتبعية )[11] حسب شلاير ماخر, فان الدين يحررنا من الاغتراب الكوني, باعتباره نافذة نحو المتعالي, ووصال دائمي معه, وبالتالي إرتباط بوشيجة عضوية انطولوجية بالعالم.
تدين ضد الدين :
في اللحظات التي أكتب فيها هذه الأسطر_ يوم الثلاثاء 24/4/2006_ هاتفني ولدي محمد حسين الذي يدرس تكنولوجيا المعلومات في الجامعة المستنصرية ببغداد, فأخبرني بأن سيارتين مفخختين انفجرتا عند بوابة جامعتهم ظهر هذا اليوم_ لحظة دخوله_ فغرق وزملاؤه في حالة فزع وذهول مفجعة, بعد ان تناثرت اشلاء رفاقهم عند البوابة, وفاضت ارواحهم الزكية، لترسم دماؤهم على احجار الممرات المؤدية الى الفناء الداخلي لمباني الجامعة صورة أبدية، تكشف ما يتعمد التستر عليه ذلك النموذج اللانساني للتدين. لقد حفرت أشلاء اولئك الفتية احتجاجا مدويا، يخاطب الأجيال الآتية في بلدنا الذبيح, فهؤلاء الفتية يكتبون التاريخ بدمائهم, ويصرخون بشهادة تجسد عويلا لايصمت, يفضح ذلك النمط من التدين الفاشي الهمجي الذي خدع آلاف الناشئة وأغواهم بوعود خلاصية وفردوس خلاب, ثمنه تفجير أنفسهم وقتل الآخرين بأساليب بشعة, وحرق كل شيء لايكون نسخة مكررة عنهم.
وحسبما اوردته تقارير صحفية قبل أيام, فقد تجاوز عدد السيارات المفخخة التي فجرها انتحاريون في العراق منذ سقوط صدام سبعة آلاف سيارة, مما يعني ان آلاف الانتحاريين جرى اعدادهم وتصنيعهم من خلال غسيل أدمغتهم, وتعبئتهم بمفاهيم دينية زائفة, مسخت الروح التطهرية التنزيهية الرقيقة للدين, فاستحال التدين الى اعصار عاصف يجتاح الحياة, ويحطم كافة المكاسب التمدينية والحضارية والمعرفية للبشرية. انه سادية وجدانية ومعرفية, تتلذذ بقتل الضحية واستباحته.
ان تاريخنا ليس منزها وبريئا, وانما هو، كما يقول الدكتور محمد الطالبي
( كالتاريخ الانساني عموما, مليء بالانزلاقات والخروج عن الروح القرآني, وهو خروج قد يصل أحيانا الى أبشع ما تكون عليه الانحرافات: حروب, وإراقة دماء, وظلم بكل أنواعه, وتعذيب, ورد السيئة لا بالحسنة بل بأسوأ وأشنع منها... ان العنف ونتائج العنف كلها غير مفيدة للانسان, لأنها مراهنات غير رابحة, ولهذا عادة ما يخرج المؤرخ من دراساته التاريخية منكرا للعنف, لأنه إجهاض للحضارة الانسانية. ان العنف هو الذي قتل الحضارة الاسلامية)[12] .
ولاريب ان التعصب والعدوانية والاستغلال ظواهر متفشية في الاجتماع البشري عبر التاريخ, كما ان عنف الانسان ضد أخيه الانسان ليس طارئا في الحياة, بل هو سلوك بيولوجي, وسياسي, واجتماعي, وديني, وثقافي مترسخ في دنيا الانسان. وان رسالة الأديان ومقاصدها الكلية تتلخص في إشاعة السلم والتراحم والمحبة بين الناس, والسعي لتجفيف منابع العنف والعدوانية والتعصب , كما سنشير الى ذلك لاحقا, ولكن طالما تم طمس تلك الرسالة ونقضها, بنشوء جماعات وفرق لاتقتصر على إعلان انتمائها للدين, وانما تصر على احتكار تمثيله, وتحرص على مخاصمة أية جماعة غيرها تقدم فهما مختلفا للدين. وتهتم تلك الجماعات بتطوير أساليبها الدعوية باستمرار, وتسعى للهيمنة على الدين والدنيا, وتكريس الانغلاق على الذات, ومطاردة أية محاولة تهدف الى نقدها, وإهدار دم الاشخاص الذين يصوبون مفاهيمها, ويفضحون انتهاكاتها لانسانية الانسان, وتزييفها لأهداف الدين, وإهدارها للقيم الروحية.
وعادة ماتصدر هذه الجماعات عن قراءة حرفية مغلقة للنصوص المقدسة, لاتكاد تتجاوز المدلول اللغوي الساذج, وتشيع تفسيرا قمعيا للنصوص, تقبع خلفياته وقبلياته النفسية والثقافية في الصحراء والمحيط البدوي المغلق على العالم, كما وتحارب بلا هوادة كافة القراءات التي تتخطى المعنى السطحي, وتغور في الأعماق, مستلهمة المضامين الروحية الغنية في النص, ومستوحية رؤيته الرمزية , مثلما فعل المتصوفة والعرفاء والفلاسفة الاشراقيون, وغيرهم. مضافا الى تنكر هذه الجماعات للاسلام الحضاري, وتعبيراته التمدينية, والثقافية, والروحية, والجمالية, واعتبارها هرطقة, وبدعة, وزيغ وضلال. اما الاسلام المستقيم الصحيح في نظرهم, فيختزل في اسلام العصر التدشيني, أي اسلام جيل الصحابة خاصة, بينما تخضع المعطيات المتنوعة للاسلام في المراحل اللاحقة, لاستراتيجية صناعة النسيان ومحو الذاكرة, وكأنها لم تعد موجودة.
كما ان الفنون الجميلة, من رسم ونحت وموسيقى وغيرها, جميعها محرمة, وتعاطيها محضور بأي شكل كان, ولابد من ان ينطفىء الحس الجمالي, ويتبلد الذوق الفني, ويشمل ذلك ايضا الجسد وتعبيراته الجمالية, ولغته والفضاءات الحافة به. ويشطب على الميراث الثقافي الهائل الخاص بالسماع والالحان والترانيم والمواجيد.
والعلامة الفارقة لخطابات هذه الجماعات, هو تشديدها على ضرورة تبني آراء السلف ومواقفهم بتمامها, وهروبها دائما الى الماضي, وارتيابها من كل ما من شأنه ان يطل على المستقبل, أو يتعاطى مع الواقع بعقلانية نقدية مستنيرة. وسعيها المتواصل لتبجيل الذات, وعدم الكف عن امتداحها, واصطناع صورة رومانسية مثالية لها, تعلي من شأنها, وتدافع عن اخطائها, ونكساتها, وتتجاهل مايحفل به تاريخها من ثغرات, واستبداد, ومظالم, ومايسود حاضرها من تخلف وجهل وأمية وفقر ... فيما تصطنع صورة للآخر ليست بريئة, يصبح فيها كل ما يمت اليه من معارف ورؤى ومفاهيم وقيم... رجسا مدنسا, تجب مناهضته, واعداد التدابير الوقائية اللازمة لاغلاق مساربه وقنواته في مجتمعاتنا. وتتفنن هذه الجماعات في تجييش المهمشين والمحرومين, وتتخذهم مادة لبناء ثقافة خاصة بالانتحار وتمجيد الموت, يكون احد روافدها صورة الآخر المشوهة التي تصير منبعا لكراهيته والغضب المتقد عليه.
لقد اتسع نفوذ هذه الجماعات في عصرنا, وحاولت الافادة من تكنولوجيا المعلومات, وتوظيف التقنيات الراهنة في الاتصالات, لنشر افكارها, فتغلغلت مقولاتها في مختلف المناطق, واستقطبت عددا ليس بالقليل من الشباب والفتيان, وحرصت على صياغة وعيهم في ضوء توجهاتها. واخشى ان يلبث الدين لسنوات عديدة مختطفا من قبل تلك الجماعات.
انقاذ النزعة الانسانية في الدين :
ماالسبيل الى تحرير الدين من الفهم المتوحش, الذي يمسخه فيحيله الى منبع للعدوان والتعصب والكراهية؟
لعل السبيل الأمثل لبيان هشاشة هذا النوع من الفهم يكمن في السعي الحثيث للكشف عن النزعة الانسانية العميقة في الدين, واضاءة الحقول المنسية في النصوص المقدسة, والتنبيه الى الجهل, أو التجاهل, والاصرار على تغييب مساحة واسعة من تلك النصوص, تغتني بالجوانب التنزيهية السامية, التي تصطفي الانسان, وترفع مكانته, وتعتبره أكرم موجود خلقه الله في العالم, بل خلق كل شيء مسخرا من أجله, وجعل حياته أغلى رأسمال في الوجود, فهي مناط الخلافة, وموطن المسؤولية والأمانة الالهية.
وقد أنكر بعض المفكرين والباحثين والدارسين وجود نزعة انسانية في الدين, بالاعتماد على ما ورد في النصوص, من الأمر بالقتال, والحث على العنف, أو بالعودة الى التمثل السلبي للدين في الاجتماع البشري, واستثماره في الصراعات الدموية والحروب المقدسة في التاريخ, والاستعانة به للتحريض على الموت, وتعبئة اتباعه في معارك تنتهك كافة الحرمات, وتحيل كل شيء الى رماد.
ويؤكد طائفة من المفكرين على ان النزعة الانسانية عادة ما تنبثق في سياقات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية محددة, تشكل اطارا اجتماعيا معرفيا مناسبا لتبلورها, ولم يتشكل هذا الاطار الا في القرن الثامن عشر في اوروبا, بعد القطيعة الكاملة مع لاهوت القرون الوسطى, فهم يعتقدون بعدم امكانية انبثاق نزعة انسانية تتمحور حول مركزية الهية, وانما لاتولد هذه النزعة الا بعد التمحور حول الانسان, واحلاله في مركز الإله, وهو ما لم يحدث في الماضي, وانما حصل في العصر الحديث.
لكن جماعة من المفكرين برهنوا على تجذر النزعة الانسانية في الدين الاسلامي, امثال: جورج مقدسي[13] , ومحمد اركون[14] , وجويل كريمر[15] , كما دلل جاك ماريتان على أولوية العامل الروحي, وشدد على رسوخ النزعة الانسانية في المسيحية.[16]
ومما لاشك فيه ان الاجتماع الانساني طالما تعرض للانتهاك بذرائع دينية مختلفة, والكثير من الجنايات والمظالم والاغتصابات ارتكبت في التاريخ باسم الذود عن الدين, والدفاع عن ((شعب الله المختار)). ومازالت القراءة الفاشية للنصوص تنتج أعدادا لاحصر لها من الانتحاريين, الذين يفجرون أنفسهم, لقتل المصلين في المساجد والكنائس وبيوت العبادة، بغية الفوز برضوان الله ودخول الجنة!
غير ان مراجعة نقدية للتاريخ, وقراءة تحليلية للنصوص, وتقويم للموروث من منظور مختلف, يمكن ان تفتح لنا نافذة على البؤر المضيئة والثراء والتنوع في النصوص, ويمكننا في ضوء هذا النمط من التعاطي مع النص والتراث ادراك ماهو تاريخي, يعبر عن حالة معينة, ولحظة زمانية محددة, وواقع مضى, وظرف خاص, لايمكن تعميمه لكافة الوقائع والاحوال والازمان. والتعرف على المنطلقات الأساسية, والأهداف العامة, والمقاصد الكلية, وهي ما تفصح عن الروح الانسانية فيها, ومايشي بالوجه المطموس للدين, الذي غيبه ركام الموروث, مضافا الى مادة وفيرة من تفسيرات متوحشة للنصوص, تحكي عن اسقاطات لايديولوجيا اقصائية ومعتقدات قمعية. وفي كل مرة يستغل السلطان المستبد هذا النمط من التفسيرات لتكريس نفوذه, وبسط هيمنته على حياة الناس, ويوظفها بأساليب بشعة لمراقبة الضمائر وتفتيش العقائد. اذ ان اولئك المستبدين يعلمون بأن احياء النزعة الانسانية في الدين يسارع في تقويض عروشهم, ويفضح المشروعيات الزائفة التي يسوغون بها طغيانهم. وهذا يعني انه متى تغيب الحرية تذبل النزعة الانسانية, ومتى تعم الديمقراطية وتسود قيم التعددية وحق الاختلاف, تزدهر النزعة الانسانية, وتسود قيمها واخلاقياتها ومفهوماتها التمدينية في المجتمع.
ولاريب في ان اللاهوت التقليدي لايسمح بانبعاث النزعة الانسانية في الدين, ذلك ان مثل هذا اللاهوت يصدر عن رؤية احادية وذهنية مغلقة, لاتسمح باستيعاب القيم الانسانية المنفتحة.
من هنا ينبغي تجاوز اللاهوت الكلاسيكي, وبناء لاهوت عقلاني مستنير, لو أردنا ان نجني ثمرات النزعة الانسانية في الدين, وحاولنا الخلاص من التفسيرات المتعسفة القمعية للنصوص. وتحديث اللاهوت يتطلب تساؤلات جديدة, تفضي الى التحرر من الصورة النمطية للإله, التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية, والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب, والسعي لترسيخ صورة للإله, تستلهم مايتحلى به من صفاته الجمالية, واسمائه الحسنى (الرحمن, الرحيم, القدوس, السلام, المؤمن, العزيز, البارىء, المصور, الغفار, الوهاب, الرزاق, البصير, الحكم, العدل, اللطيف, الحليم, الشكور, الحفيظ, الكريم, المجيب, الواسع, الحكيم, الودود, الحق, المحيي, البر, التواب, العفو, الغفور, الرؤوف, مالك الملك, الغني, النور, الهادي, الرشيد, الصبور...الخ) وبالتالي انقاذ الحقول التطهرية والجمالية والرمزية للدين.[17]
ان مراجعة عاجلة لنموذج من الادبيات السلفية, سترينا بوضوح كيف ان هذه الادبيات بقدر ما تتحدث عن مناهضة الآخر, وانحصار اسلوب التعاطي معه بالقتل والابادة, فانها تتكتم على مساحة شاسعة في النص، تتحدث عن الرأفة والرفق والعفو والعدالة والرحمة وغيرها, حتى يخيل لمن يستمع الى منابر هذه الجماعات, او يقرأ بياناتها, انها تتحدث عن دين خاص تنحته, وتعيد تشكيله في اطار وعيها, وخلفياتها ومسبقاتها وقبلياتها ومفروضاتها الذهنية, ولا علاقة لـه بالنص المؤسس. انه دين مشبع بالاكراهات, ينفي الروح التنزيهية للدين, ويمسخ ما يختزنه من معان سامية, ويفرغه من محتواه الانساني, ويحيله الى مجموعة من المقولات والشعارات المغلقة,التي تستنزف الطاقة الحيوية الابداعية لرسالة الدين, وتفقره، وتمسخه، وتستبدله بمفهومات وافكار مقطوعة الجذور عن روح الدين وجوهره، وتصيره عبئا ينوء الناس بحمله, ويعطل دينامية التطور في الاجتماع البشري, ويستدعي القيم الرديئة للبداوة, فيبعثها من جديد, ويتبناها, ويدافع عنها, ويسقط عليها قناعا اسلاميا, بوصفها تمثل الهوية والخصوصية والاصالة, فيما هي ليست الا تمثلات وتعبيرات وتقاليد, لبيئة محلية صحراوية قاسية غليظة, رفضها القرآن, ونعتها بتسميات قدحية, وجعلها النقيض لروح الدين ومقاصده الأخلاقية، وأهدافه الانسانية[18].
احياء التجارب الايمانية الشفافة :
تعرضت النزعة الانسانية في الغرب الحديث لمراجعات نقدية جادة ومتواصلة, من قبل الكثير من المفكرين المدافعين عن انسانية الانسان, باعتبار مواقفها حيال الآخر المختلف غالبا ماتتسم بالاهمال والتجاهل, فما تضج به بلادنا من بؤس وشقاء, وانتهاكات شنيعة لكرامة الكائن البشري, واهدار لحقوقه, وبطش بإنسانيته. يرتكبها حكامنا وأجهزتهم القمعية, لايدعو معظم المؤسسات والمنتديات والاحزاب الغربية للتضامن مع جراحاتنا وشقائنا الدائم, بالرغم من تبني هذه المؤسسات لمبادىء حقوق الانسان, ودفاعها الباسل عما يلحق أي مواطن في بلدانهم من أذى.
واثر ذلك وصف بعض المفكرين الغربيين هذا الشكل من الانسانية (بالأنسنة الشكلية الأدبية Humanisme formel et litteraire , وهي الأنسنة التي تكتفي بالتلاعب اللفظي في الصالونات الأدبية المنفصلة عن الحياة اليومية للطبقات الكادحة والمهمشة والمستعبدة, الى الدرجة التي نعرفها في عهد الثورات البروليتارية. ووصل هذا النقد والرفض للأنسنة الشكلانية الى حد الاعلان عن ((موت الانسان)). لماذا؟ لانهم اعتبروا ان الأنسنة الشكلانية ليست إلاّ مفهوما مجردا أو تجريديا منفصلا عن واقع الوجود) [19]. وكان الفيلسوف ميشيل فوكو قد اعلن في الستينيات شعاره الشهير((موت الانسان)) بعد تفشي الممارسات الوحشية الشنيعة للاستعمار في البلاد المستعمرة, من استباحة ونهب لثرواتها, وقتل وإبادة لسكانها, وتدمير ثقافاتها, وتمزيقها وتفتيتها جغرافيا, وأثار شعار فوكو عددا غير قليل من الباحثين والدارسين, الذين كتبوا حوله موضوعات متنوعة.
ان البشرية اليوم بأمس الحاجة الى تعزيز النزعة الانسانية, عبر استيعاب الحياة الروحية الخصبة في الدين, وإحياء التجارب الايمانية المتنوعة, تلك التجارب التي تمنح اصحابها رؤيا, يصبح فيها العالم ساطعا, شفيفا, ممتلأً بالمعنى. يتخلق فيه الانسان بأخلاق الله, وتغدو صفات الله مؤشرات وغايات عظمى لمخلوقاته, يجب ان يكدح الجميع للتماهي معها, والانخراط في مدياتها الرحبة. بل يسعى العرفاء والمتصوفة, الذين تطغى في وجدانهم أشواق الروح, للاتحاد بها, ويرى تور آندريه[20]، بأن هذا الاتحاد ليست له علاقة بتحول ميتافيزيقي, انما بتحول ديني أخلاقي, فالاتحاد بالله يعني ان مشيئة الله تصير مشيئة الانسان, وان الانسان يحل في صورة الله, بالمعنى الاخلاقي, أي انه يتقمص, كما يقال, سجايا الله، فمثلا ((المحبة)) تعني كما يقول الجنيد: (دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب)[21] . ويخبرنا الداراني عن ماهية هذه الصفات التي يمنحها الله الى أصفيائه ويمن بها عليهم, فيقول: (جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيهم خصالا باقية: الكرم, والحلم, والعلم, والحكمة, والرحمة, والرأفة, والفصل, والصفح, والاحسان, والعطف, والبر, واللطف)[22]. ومن هنا فإن (معاشرة العارف كمعاشرة الله يحتملك ويحلم عنك تخلقا بأخلاق الله الجميلة)[23]. ومعنى هذا ان من تجسد به هذا المثل الأعلى هو الذي نال الاتحاد بالله. وهذا هو في الواقع المحتوى الحقيقي للفناء الذي قارنه البعض من دون حرج وإمعان نظر بالنرفانا البوذية... ان اختفاء الذات لايعني, من حيث المبدأ, بالنسبة للصوفي, شيئا آخر غير الذي يعنيه بالنسبة لبولص حينما قال: (مع المسيح صلبت, فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ)[24]. ويطلق التصوف الاسلامي على الحياة الجديدة مع الله التي ستحل مكان الوجود الذاتي الأناني مصطلح البقاء، وبهذا المعنى يكون (الفناء هو التلاشي بالحق, والبقاء هوالحضور مع الحق)[25].
اما الاسماء الالهية فهي منبع الالهام والتأمل بالنسبة لأصحاب التجارب الروحية المتسامية, وهي تفهم لديهم بمعنى أخلاقي, فمثلا الحق سبحانه وتعالى سمى نفسه ((البصير)) ليمنع الانسان من الذنب, أو ((السميع)) لكي لايفتح الانسان فاه بكلام معيب ومنفر, وهكذا بقية الاسماء, فهي تعمل في الانسان بمثابة نماذج للتحذير والتنبيه, فمثلا عندما يريد الانسان ان يجتنب غضب الله, عليه أن يتخلص أولا من غضبه هو, لأن الانسان مدعو الى ان (يُخلّق نفسه بأخلاق الله)[26] . ويوضح الحديث المعروف بحديث النوافل, كيف يطوي المخلوق في مدارج السالكين المنازل الى الرحمن, فانه بمجرد ان يتوجه ويسعى للاقتراب منه تعالى, يقبل عليه الرحمن فيجتذبه الى عالم الملكوت. (عندما يقترب عبدي مني بالنوافل أقترب منه, فإذا تقدّم شبرا تقدمت ذراعا, واذا أتى ماشيا أتيت جاريا, ثم أُصبح اليدَ التي بها يُمسك, والعين التي بها يرى, والاذن التي بها يسمع...)[27] . وبالتخلص من الخطايا والاخلاق الذميمة (يستطيع الانسان ان يصل الى الفناء في الارادة الالهية, والفناء أساسا مفهوم أخلاقي)[28] .
ونجد عدة نصوص تصرح, بأن الله هو ((رب العالمين)) ولم يسمح ربنا لأي شخص أو جماعة باحتكاره أو تمثيله دون سواها, وهو ليس الها خاصا ببني اسرائيل أو العرب أو العجم, وانما هو إله كل الناس, رحيم بهم جميعا, و(الناس كلهم عيال الله, وأقربكم الى الله أنفعكم لعياله), كما ورد في حديث من أرسله الرحمن ((رحمة للعالمين))[29]. وما أرق تعبير النبي الكريم حين يوضح المرامي والاهداف الانسانية لبعثته, فقد قيل له:(يارسول الله, ادع الله تعالى على المشركين. فقال: انما بعثت رحمة, ولم أبعث عذابا)[30]. ويحلو للمتألهين ان يرسموا صورة للنبي, يكون فيها (الكيمياء من أجل الانسان), فيما يصير الناس كالنحاس الردىء, لكن نوره يحوّلهم الى ذهب. ومن طريف كنايات جلال الدين الرومي توصيفه للنبي, بأنه (مطر الرحمة). باعتباره المعشوق الذي يعيد الحياة الى الأرض العطشى للأرواح بحلوله.[31]
ويقرن ابن عربي في كتابه((فصوص الحكم)) اسم سليمان النبي بالحكمة الرحمانية في عنوان الفص الخاص به, حينما يضع هذا العنوان ((فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية)), ويشير الى ان سليمان(أتى بالرحمتين, رحمة الامتنان, ورحمة الوجوب, اللتان هما الرحمن الرحيم, فامتحن بالرحمن وأوجب بالرحيم. وهذا الوجوب من الامتنان, فدخل الرحيم في الرحمن دخول تضمن. فإنه كتب على نفسه الرحمة سبحانه, ليكون ذلك للعبد بما ذكره الحق من الاعمال التي يأتي بها العبد, حقا على الله تعالى أوجبه له على نفسه, يستحق بها هذه الرحمة , أعني رحمة الوجوب)[32].
ويكتب الدكتور أبوالعلا عفيفي تعليقا عند ذكر ابن عربي للاسمين الالهيين ((الرحمن الرحيم))في الفص السليماني: على هذين الاسمين الالهيين, الرحمن والرحيم, الوارد ذكرهما في كتاب سليمان الى بلقيس, والوارد أيضا في فاتحة كل سورة من سور القرآن الكريم, بنى ابن عربي فكرة فلسفية من أخصب الأفكار في مذهبه. وليس بين الاسمين من الناحية اللغوية كبير فرق, ولكنهما يستعملان في اصطلاحه الخاص للدلالة على ((الحق)) باعتبارين مختلفين تمام الاختلاف, فالرحمن هو واهب رحمة الامتنان, والرحيم هو واهب رحمة الوجوب. ورحمة الامتنان هي الرحمة العامة الشاملة لجميع الخلق, وليست إلا منح كل موجود وجوده على النحو الذي هو عليه في غير مقابلة أو عوض. فهي الرحمة التي أشار اليها في قوله: ((ورحمتي وسعت كل شيء)). هي مرادفة للوجود, أو لمنح الوجود على سبيل المنة, وليس لها أي صلة بمعاني الشفقة أو العطف أو العفو... اما رحمة الوجوب فهي التي أوجبها الحق على نفسه في قوله((كتب ربكم على نفسه الرحمة))...دخل الاسم الرحيم في الاسم الرحمن دخول تضمن كما يقول, وكان الاسم الرحمن هو الواهب الرحمة, أي واهب الوجود اطلاقا, سواء أكان الوجود محض امتنان من الحق للخلق, أو حقا عليه لهم.
ويبدو التخلق بأخلاق الرحمن بنحو أجلى لدى ابن عربي, في موضع آخر عندما يذكر سمة مميزة للربانيين من أهل الكشف, ممن (يسألون رحمة الله ان تقوم بهم حسب تعبيره), بمعنى ان يتحققوا بصفة الرحمة التي هي من صفات الله, فيصبحوا راحمين لامرحومين, أو يندمجان في الشخص ذاته, ولايكون هناك فرق بين الراحم والمرحوم, فالحق سبحانه اذا رحم شخصا, يعني انه أوجد فيه الرحمة, أو جعل الرحمة تقوم به, بحيث يصبح قادرا على ان يرحم غيره من المخلوقات, وبذلك يصبح المرحوم راحما. أي ان الحق لايوجد الرحمة في المرحوم ليرحمه بها, بل ليكسبه الصفة الالهية التي بها يرحم غيره. وهو في نظر ابن عربي لايتحقق الا للكاملين من العارفين [33] .
و ينفرد القرآن الكريم من بين الكتب المقدسة ، في ان سوره تبدأ بــ «البسملة». والتي تحتسب آية من كل سورة، حسبما ذهب جماعة من المفسرين والفقهاء, وتشتمل البسملة على صياغة بليغة لبيان مفهوم الرحمة, أوهي تكثيف دلالي لمنطق الرحمة الذي يسود الكتاب.
ويرى بعض المفسرين ان كل بسملة هي آية، لها معنى معين،يخص كل سورة تتصدرها, أي انها آية تختص بتلك السورة, ومعناها يتنوع بتنوع السور, وغرضها لا يخرج عن غرض السورة, وما يتحصل من غاياتها. وبعبارة اخرى ان افتتاح كل سورة بالبسملة يعني ان الرحمة المشبعة بالبسملة حاكمة ومهيمنة على مضمون السورة واغراضها, فان كان المضمون اخلاقيا ينبغي ان يكون متقوما بالرحمة, وهكذا لو كان المضمون عقائديا أو غيره. فتقديم نص كل سورة بما تشتمل عليه البسملة من رحمة, يشي بأن كافة المضامين المسوقة في آيات القرآن تتأطر بمضمون البسملة, وهي بمثابة البوصلة التي تحدد وجهتها، وتصوغ الفضاء الروحي القيمي للسورة وللقرآن بمجموعه.
لقد لاحظت ان كلمة«الرحمة» ومشتقاتها تكررت في القرآن اكثر من 330 مرة, ما خلا ما ورد من تكرار البسملة في السور114مرة, وبناء على القول بأن البسملة آية من كل سورة، وورود «الرحمن الرحيم» في كل بسملة، يفوق عدد مرات ذكر الرحمة ومشتقاتها في القرآن 550 مرة. وهي ظاهرة دلالية تستحق العناية والتدبر. حتى وصف القرآن الكريم النبي محمد بأنه رحمة, وذكر بصراحة ان هذه الرحمة عامة, لاتختص بفرقة أوجماعة, وانما هي شاملة لكل العالمين «وماأرسلناك الا رحمة للعالمين». [34]
ومن أجلى مصاديق التخلق بأخلاق الله هو تدريب النفس على حب الآخرين, وتمني الخير لهم. ويعتبر الحب منبع الهام الحياة الروحية, ومصدر الانجذاب الى الحق تعالى, فان المتألهين في وجد لاينقضي لشهود نور جمال الحق, وشوقهم لاينضب, وظمأهم حارق لا ينطفئ, ولعل فيما ينسب الى أبي يزيد البسطامي اشارة الى ذلك[35] :
شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب ومارويت
وعبر ابو يزيد عن اشواقه وعواطفه حيال الناس بما تمناه لهم في اليوم الآخر ، اذ يقول: (وددت ان قامت القيامة حتى انصب خيمتي على باب جهنم ، فسأله رجل: ولم ذاك يا ابا يزيد؟ فقال اني اعلم ان جهنم اذا رأتني تخمد، فأكون رحمة للخلق)[36].
وقد فسرت رابعة العدوية عدم كراهيتها لأي شيء باعتبار حبها لله شغلها وملأ وجدانها, حتى أضحى صبغة لها, فنزهها من كراهية احط مخلوق, وهو الشيطان, فقالت:(ان حبي لله قد منعني من الاشتغال بكراهية الشيطان)[37] .
والحب كالرحمة عند ابن عربي, فكما يصير المرحوم راحما, كذلك لابد ان يتعالى ويتسامى المحب الى محبوبه لا ان يهبط ويتسافل, اذ يقول: (فالمحب الصادق من انتقل الى صفة المحبوب, لا من انزل المحبوب الى صفته)[38].
وبذلك يمكن ان يطهر حب الله الذين يسكرون به من أية روح عدوانية, ويجعلهم يفيضون رأفة وعطفا على جميع الكائنات, لانهم يتشبهون بصفات من يحبونه تعالى, وهو ((أرحم الراحمين)), وربما غامروا براحتهم وتحملوا الكثير من المشاق والمتاعب من أجل سعادة الآخرين, وكأنهم يجسدون ماقاله القديس اوغسطين في بيانه لحقيقة السعادة: ( السعادة هي ان نسعد الآخرين).
ويتعاظم احساس جلال الدين الرومي بالحب والعشق, فيصبح لديه القوة المحركة للحياة الروحية, وهو الكيمياء السحرية التي تتحول بواسطتها مادة العناصر الخسيسة الى مادة نفيسة ثمينة, ينشد الرومي في المثنوي:
بالمحبة تصير الأشياء المرة حلوة.
وبالمحبة تصير الأشياء النحاسية ذهبية الصفات.
وبالمحبة تصير الأشياء العكرة صافية.
وبالمحبة تصير الآلام شفاء.
بالمحبة يحيا الميت.
ويستعيد مولانا الرومي الروح الانسانية الشفافة لرابعة العدوية, ولكن بأحاسيس أبعد مدى, عندما ينظر الى الشيطان بمشاعر عاشق, فيقول:
لو صار الشيطان عاشقا لاختطف كُرة السبق,
ولصار مثل جبريل وماتت فيه تلك الصفات الشيطانية[39]
ويرى المتألهون ان الله والانسان يتبادلان الحب ( يحبهم ويحبونه) المائدة، 54. وان كان حب الله يسبق حب الانسان.
ولو راجعنا النصوص التأسيسية للأديان نراها تتفق جميعا بتوجيه اتباعها نحو حب الخير للغير، مثلما يحبه المرء لنفسه, وفيما يلي نماذج لتعاليم أبرز الأديان في العالم حيال الآخر:
ـــ ((هذا مجمل الواجبات: لا تعامل الغير بما إذا عوملت به آلمك)) (البراهمانية، مهبهراتا، 5: 1517).
ــ ((لا تؤذ الغير بسلوك تجده أنت بنفسك مؤذياً لو سلك معك)). (البوذية، أوداناــ فارقا، 5: 18).
ــ ((هذا حقاً مثل المحبة اللطيفة: لا تعامل الغير بما لا تريد ان يعاملوك به)). (الكونفوشوسية، ديوان، 15: 23).
ــ ((الشيء الذي تبغضه، لا تعامل به صحبك، هذا مجمل الناموس، وكل ما تبقى شروح)) (اليهودية، التلمود، شباط: 31أ).
ـــ ((سمعتُم أنّه قيل تُحبُ قريبك وتبغض عدوَّك. وأمّا أنا فأقول لكم أَحبّوا أعداءكَم باركوا لاعنيكم. أحسنوا الى مُبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يُسيئون اليكم ويطردونكم. (انجيل متي, 5: 43).
ــ ((فكل ما تريدون ان يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا انتم أيضاً بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء)) (المسيحية، إنجيل متى، 7: 12).
]وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[ ( الاسلام، القرآن , فصلت:34 ـــ 35).
ــ ((لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). (الإسلام، حديث نبوي شهير).[40]
ان السبيل للتخلق بأخلاق الرحمن انما يتحقق عبرانقاذ النزعة الانسانية في الدين، و اضاءة ابعاده الاخلاقية والمعنوية والرمزية والجمالية ، وتطهير التدين من كافة اشكال الكراهية والاكراهات .
ولا ريب في ان ذلك لا يعني اختزال الانسان في مجموعة مفاهيم وقيم مثالية ، تتعالى على بشريته، وتصيره كائنا سماويا مجردا ، منسلخا عن عالمه الارضي، مثلما تريد بعض الاتجاهات الصوفية والدعوات الرهبانية، بل يعني انقاذ النزعة الانسانية ايجاد حالة من التوازن والانسجام بين متطلبات جسده من حيث هو كائن بشري، وامكانية غرس وتنمية روح التصالح مع العالم ، والتناغم مع ايقاع الكون، وتكريس حالة الانتماء للوجود، والتعاطف مع كافة الكائنات الحية والشفقة عليها، وتعزيز اخلاقية المحبة ، وتدريب المشاعر والاحاسيس والعواطف على القيم النبيلة، والسعي لاكتشاف روافد ومنابع الهام الطاقة الحيوية الايجابية في هذا العالم، والتواصل العضوي معها. وهذا يعني استيحاء صفات الرحمة والمحبة والسلام ونحوها من الرحمن ، وليس صفات الموت والانتقام ونحوها من الله تعالى.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـــ د. محمد اركون. من فيصل التفرقة الى فصل المقال... اين هو الفكر الاسلامي المعاصر . ترجمة وتعليق:د. هاشم صالح. بيروت: دار الساقي, ط2, 1995, ص182.
[2] ـــ د.ماجد فخري. الفكر الاخلاقي العربي. نصوص اختارها وقدم لها. بيروت: العلمية للنشر والتوزيع, 1978, ج1: ص12-13.
[3] ـــ د. محمد عابد الجابري. العقل الاخلاقي العربي. بيروت: مركزدراسات الوحدة العربية, ط1, 2001, ص14-15.
[4] ـــ مرسيا إلياد. المقدس والدنيوي: رمزية الطقس والاسطورة. ترجمة: نهاد خياطة. دمشق: دار العربي, 1987, ص189.
[5] ـــ بيتر, ل. برجر. القرص المقدس: عناصر نظرية سوسيولوجية في الدين. تعريب: مجموعة من الأساتذة. قدمه وأشرف عليه: د. عبد المجيد الشرفي. تونس: مركز النشر الجامعي, 2003, ص227, 234.
[6] ــ هاشم صالح. مدخل الى التنوير الاوروبي. بيروت: دار الطليعة, 2005, ص246.
[7] ــ بيترل. بيرجر. مصدر سابق. ص99.
[8] ـــ المصدر السابق. ص55ـــ 59.
[9] ــ المصدر السابق. ص95ــ 96.
[10] ــ مرسيا إلياد. مصدر سابق. ص158, 162, 196.
[11] ـــ أجناس جولدتسيهر. العقيدة والشريعة في الاسلام. ترجمة: محمد يوسف موسى وصاحباه. القاهرة: دار الكتاب المصري, 1946, ص4.
[12] ـــ د. محمد الطالبي. عيال الله: أفكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه وبالآخرين. انجاز: منصف وناس, شكري مبخوت, وحسن بن عثمان. تونس: دار سراس للنشر, 1992, ص102, 178ـــ 179.
[13] ـــ جورج مقدسي. سيطرة الفلسفة الانسانية في فترة الاسلام الكلاسيكي والغرب المسيحي. مع ذكر خاص للسكولاستيكية أو المدرسانية التكرارية. مطبوعات جامعة أدنبرة, 1990.The Rule of Humanism in Classical Islam and the Christian West ,with special reference to scholasticism. Edinburoh University Press, 1990.
[14] ـــ عالج الدكتور محمد اركون النزعة الانسانية في الاسلام الكلاسيكي في اطروحته للدكتوراه: نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي. ترجمة: هاشم صالح. بيروت: دار الساقي, 1997. وكتابه الآخر: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الاسلامية. ترجمة: هاشم صالح. بيروت: دار الساقي, 2001.
[15] ـــ جويل كريمر. دور الفلسفة الانسانية في نهضة الاسلام, الانبعاث الثقافي خلال العصر البويهي. ليدن: بريل, 1986.Joel Kramer : Humanism in the Renaissance of Islam. The Cultural Revival during the Buyid Age , Leiden, Brill, 1986.
[16] ـــ جاك ماريتان (Jacques MARITAIN) ألف عدة كتب من بينها، في الفلسفة المسيحية (1933), أو النزعة الانسانية الكاملة (1936) L Humanisme integral, أو مبادىء سياسة انسانية(1944).
[17] ـــ د عبد الجبار الرفاعي. مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد. بيروت: مركز دراسات فلسفة الدين, ودار الهادي, 2005, ص11-54.
[18] ـــ المصدرنفسه. ص99.
[19] ـــ د. محمد اركون. معارك من اجل الانسنة في السياقات الاسلامية. ص9.
[20] ـــ تور آندريه. التصوف الاسلامي. ترجمة: د. عدنان عباس علي. المانياــ كولونيا: منشورات الجمل, 2003, ص241ـــ 243.
[21] ـــ شهاب الدين السهروردي. عواطف المعارف. مطبوع على هامش كتاب ((إحياء علوم الدين)), ج4: ص345.
[22] ـــ ابو نعيم الاصفهاني. حلية الأولياء. القاهرة: 1351هـ , ج9: ص266.
[23] ـــ المصدر السابق. ج9: ص376.
[24] ــــ الانجيل, رسالة بولس الى أهل غلاطية, الاصحاح الثاني: 20.
[25] ـــ شهاب الدين السهروردي. مصدر سابق. ج4: ص381.
[26] ـــ أنّيماري شيمل. الشمس المنتصرة: دراسة آثار الشاعر الاسلامي الكبير جلال الدين الرومي. ترجمة: د. عيسى علي العاكوب. طهران: وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي, 1421هـ , ص397ــ 398.
[27] ــ المصدر نفسه. ص436.
[28] ـــ .المصدر نفسه. ص436.
[29] ـــ د.محمد الطالبي. مصدر سابق. ص59ـــ 60, 154.
[30] ـــ ابوالقاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري. الرسالة القشيرية. تحقيق: د. عبدالحليم محمود, ود. محمود بن الشريف. القاهرة: دار الشعب , ص359(هذا الحديث أخرجه البخاري في التاريخ عن ابي هريرة, ورمز له السيوطي بالحسن).
[31] ـــ انّيماري شيمل. مصدر سابق. ص152, 472.
[32] ــ الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. فصوص الحكم. تعليق: أبو العلا عفيفي. طهران: الزهراء, 1987, ج1: ص151.
[33] ـــ المصدر نفسه. ج2: ص205ــ 206, 250ــ 254.
[34] ـــ د. عبدالجبار الرفاعي. مصدر سابق. ص103ـــ 104.
[35] ـــ أبوالقاسم عبدالكريم بن هوازن القشيري. مصدر سابق, ص146.
[36] _ هادي العلوي.مدارات صوفية. دمشق: دار المدى، 1997، ص 239.
[37] ـــ تور أندريه. مصدر سابق, ص179.
[38] ــ ابن عربي. الفتوحات المكية. نشر: عثمان يحيى. القاهرة : الهيئة المصرية للكتاب, ج4: ص104.
[39] ــ انّيماري شيمل. مصدر سابق. ص 545ـــ 546.
[40] ـــ د. محمد الطالبي. مصدر سابق. ص187.
|