{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
اللاهوت الأرسطي: حقيقة أم وهم ؟
لايبنتز غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 409
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #1
اللاهوت الأرسطي: حقيقة أم وهم ؟





محمد مزوغي


يبدو أن هذه خاصية مميزة لأرسطو، فالرجوع إلى الإلهي، الذي يعتبر في معنى ما ضروري على المستوى الفيزيائي لتعقيل نظام العالم و حركته، كثيرا ما يؤدي إلى انكسارات و مرض كلما تعلّق الأمر بحياة الإنسان وبعلمه. يمكن تفهم موقف أرسطو و وضعه في إطاره التاريخي المناسب مع الأخذ بعين الاعتبار منطلقاته النظرية و مقولاته و مفاهيمه التي بنى عليها فلسفته و من هذه الزاوية يمكن حدس ادماج الإلهي في بعض المواضع المركزية من "نسقه" الفكري




من الأكيد أنّ أرسطو لم يؤلّف كتابا بعنوان الميتافيزيقا كما قد يبدو لأوّل وهلة لدارسي الفلسفة. لا نَجِدُ في مُؤَلّفاته إسما لِهذا العلم ولا أَيّ إحالة ما إلى عنوان كتاب تعوّدنا على تداوله بشكله الحالي مرتّبا بحسب حروف الأبجديّة اليونانيّة ومنسّقا في اربعة عشرة مقالة.

لكن من المحتمل جدا أن يكون ناشر أعمال أرسطو، المشائي أندرونكوس الروديسي، في حين عدم عثوره على عنوان يناسب محتوى المقالات المتفرّقة التي ضمّها الكتاب الذي بين يديه، وقع اختياره على تسمية تبدو محايدة أي الأقوال (λόγοι) التي تأتي في التّرتيب النّشري بعد الفيزيقا τά μετά τα φυσικά . لكن الناشر لم يكن واع بأن العنوان الذي وضعه سوف يصبح اسما لعلم كامل وهو علم ما بعد الطبيعة أو ما وراء الطبيعة وسيحتل أعلى المراتب و أشرفها في سلّم العلوم.

هذا المعتقد الرّاسخ، في وجود مؤلف في هذا الشأن، تواصل حتى عصرنا الحاضر: فعلى الرّغم من الوعي التّام بالمعضلات و الغموض الذي يحيط بهذا العمل الأرسطي فإنّ كثيرا من كبار الأرسطيّين المعاصرين، من أمثال د. روس، أ منسيون، ف. ييغر، لم يتمكّنوا من التّخلّص من هذه الفكرة المسبّقة التي غدت قناعة راسخة: وهي أنّ أرسطو فكّر في إنشاء نسق ميتافيزيقي مُحْكَم و مُتكاملٍ و قد ألّف كتابا في ذلك الموضوع و باستطاعتنا الآن أن نعيد تشكيله بتجميع عناصره الأساسيّة وذلك بتحليل و استقصاء النّصّ الذي بين أيدينا الآن و هو ما يسمّى ميتا فيزيقا.

كلّ ما سيجرى في فحصي هذا سيكون نقضا لهذه الأطروحة وسوف ترتكز بالأخصّ على الإستشهاد ببعض النّصوص التي جاءت في ذاك المؤلَّف الغاية منها هي البرهنة على أنّ الميتافيزيقا هو عمل غير منسّق و يشكو في كثير من مقالاته بعدم اللإنسجام و التنسيق، و بالأخصّ فإنّ مقالة اللاّم لا يمكن أن تُعدّ الحَوْصَلة النّهائية لما يمكن أن يُسمّى باللاّهوت الأرسطي.

1 ـ مدخل فيلولوجي تاريخي

الإشارة التي يمكن الانطلاق منها هي المدخل الذي صدّر به أرسطو مقالة الميم (م1, 1076أ 8_12) حيث يقول (أورد النّص حرفيّا كما جاء في اليونانيّة): "περι μεν ουν των αισθητων φυσιας ειρηται τίς εστιν εν μεν τη των φυσικων περι της υλης".

ويمكن ترجمتها كالآتي: " بخصوص الجواهر المحسوسة كان قد قيل في مصنّف الطّبيعة ما هي من حيث المادّة"، ثمّ يواصل قائلا: "وبآخر [سنتكلّم حول] الجوهر بحسب الفعل، بما أن الآن سيكون موضوع البحث هو هل يوجد جوهر ساكن وأزلي خارج الجواهر المحسوسة أم لا؟ و إن وجد فما هي طبيعته؟". "υστερον δε περι της κατ` ενεργειαν. Επει δ η σκεψις εσται ποτερον εστι τις παρα τας αισθητας ουσιας ακινητος και αιδιος η εστι και ει εστι τις εστι " .

عبارة ( υστερον) وبآخر، كما لاحظ ذلك بعض الشّرّاح المعاصرين، هي العبارة الأكثر حرجا لمن يرى أنّ هذا العمل الأرسطي منسّق ومنسجم في جميع أجزائه. إذ أنه، في هذا السّياق، يبدو وكأن كاتب هذه السّطور يستعدّ، بعد أقواله الطّبيعيّة، يستعد للشّروع في عمل موال: أي عرض موجب وبنّاء حيث تصاغ فيه نظريّة الجواهر المفارقة. ولكن اللّحظة النّظريّة التي صيغت فيها ماهية الجواهر المفارقة تكمن في إحدى المقالات التي يحتوي عليها مصنّف "الميتافيزيقا" وهي مقالة اللام Λ حيث تتنزّل أطروحة أرسطو حول الجواهر اللامحسوسة.

الشيء الذي يستفزّ القارئ هو أنّ، حسب التّرتيب الحالي للمصنّف و المعمول به منذ القديم، تلك المقالة تسبق، فعلا، التصريح والمشروع الذي أعلن عنه في مقال الميم Μ والذي كان من المفروض ومن الواجب، إن كان غرض المؤلف الترتيب والتّسلسل المنطقي، أن يشير إليه وأن يأخذه بعين الإعتبار.

على هذا الأساس فإن بعض الدّارسين أخلصوا إلى النّتيجة التّالية: وهي أن مقالة اللام، من مصنّف "الميتافيزيقا"، هي مقالة معزولة وليس لها علاقة متينة ولا استتباع منطقي مع المقالات السّابقة أو اللاّحقة.

مثال آخر يؤكد هذه الشكوك: في مقالة الياء Ε سُمّي العلم الذي يتناول بالدّرس الجواهر المفارقة والغير متحرّكة ب "علم اللاّهوت" (Θεωλογια) وهي تسمية صريحة وغير قابلة للتّأويل، وهذا هو الإعتراض الأكثر متانة الذي يقدّمه أصحاب الرّأي المعارض. فعبارة "اللاّهوت" الواردة في ذاك السّياق استعملت عن قصد من طرف أرسطو للإشارة إلى المحتوى النّظري المتضمّن في المقالات الثّلاث التّالية وهي تتمّم مشروع جيم و ياء. على هذا الأساس فإنّ اللاّم والميم والنّون تصبح المصنّفات اللاّهوتيّة بامتياز وآراء أرسطو المتضمّنة هناك ستغدو، بحسب هذا الرّأي، اللاّهوت أو العلم الإلهي الأسمى.

لكن قد لوحظ، بحقّ، أن هذه الفكرة اختزاليّة من حيث أنها لا تصوّر بصدق الإشكاليّات التي يطرحها النّصّ ولا هي قادرة على حلّ كلّ الاعتراضات التي تواجهها.

"كلّ هذا الطّرح (أي اعتبار اللام وما يليها تعبيرا عن لبّ نظريّة اللاّهوت الأرسطي) هو بريء على الإطلاق ولا بأس إذا تواصل الحديث عن علم إلهي أرسطي: فهذه طريقة سهلة و مبسّطة للإشارة إلى صيغة عامّة تشمل المقالات الثّلاث الأخيرة للميتافيزيقا وبالأخصّ المقال الثّاني عشر منها (...) ولكن غالبا ما تكون أساليب التّعبير عن الأشياء، إذا أصبحت مكرّرة آليّا و غير خاضعة لفحص وتقييم نقديّين، متكلّسة بسهولة على شكل حكم مسبّق. هذا النّقص قد يُجرّ إليه قرّاء الميتافيزيقا في حالة ما إذا لم يأخذوا في الحسبان مجموعة من المعطيات العينيّة. وإلاّ سيترسّخ الاعتقاد بأن مقالة اللاّم ولاهوتها تمثّلان حقّا النّتيجة النّهائيّة للميتافيزيقا كما فكّر فيها و تنبّأ بها أرسطو".

هذه المعطيات كما وقع استقصاؤها عند البعض تضع موضع شكّ مثل هذه النّتيجة:

هناك شكوك جدّيّة تتركز حول إمكانيّة ربط اللاّم بمجموعة المقالات المركزيّة (ΘΗΖ). فعلا، فالجزء الأوّل من اللاّم (فقرة 1-5) يتناول بالدّرس الجواهر المحسوسة وهو يغطّي بالتّحديد نفس المادّة التي وقع التّطرّق إليها في المقالات المركزيّة مع الاضطلاع أيضا بنفس المهمّة ألا وهي المدخل التّحضيري لدراسة الجواهر اللاّمحسوسة. ويبدو أنّه من الصّعب الإعتقاد بأنّ أرسطو نفسه قد فكّر في أن يكون اللاّم جزءا ينتمي إلى نفس المصنّف الذي تكمن فيه الكتب المركزيّة لأنّ ذلك تكرار لا فائدة منه.

من الصّعب أيضا اعتبار اللاّم عرضا لعلم اللاّهوت Θεωλογια الذي ذكر بعجالة في جيم (Γ) وشرّع إليه في الياء (Ε).

فاللاّم لا يعرف شيأ عن علم وجود بما هو وجود επιστημη ον η ον ولا أيضا لإمكانيّة إضفائه صفة الشّموليّة والكليّة كغاية يختصّ بتحقيقها. هو فعلا علم الجواهر اللاّمحسوسة ولكن صدفة، في سياق البحث، تبرز فكرة إله ما، وعلى الرّغم من أنّ هذا العلم يتميّز في بعض جوانبه عن العلم الطّبيعي فإنّ أرسطو لم يُعن أبدا في ذاك السّياق بتعريفه أو بتسميته حتّى. لكن قد يذهب الرّأي إلى أنّ ذلك الاسم المضمر والغير مصرّح به وقتيّا هو فعلا اللاّهوت أو الثّيولوجيا. غير أن بعض الاعتراضات قد تحول دون ترجيح مثل هذا الرّأي إطلاقا.

لا بدّ هنا، لتأكيد ذلك، أن نفحص عن مفهوم اللاّهوت واستعمالاته المحتملة عند أرسطو.

2 - اللاّهوت في مقابل النّاسوت: الثّيولوجيا عند أرسطو

العلم الإلهي الأسمى الذي ولعت به المشّائيّة، وبالأخص العربيّة منها، لم يكن يحمل نفس المعنى ولا نفس الأهميّة كما هو عند مؤسس المدرسة أي أرسطو. لا نكاد نعثر عنده على نظريّة علميّة، موحّدة وواضحة حول موضوع الإله أو الألوهيّة ولا إلى قطاع فلسفي محدّد موضوعه الإله. لكن المعنى المتعارف عليه والذي غالبا ما يرد في كتاباته هو القصص الأسطوري حول الآلهة. هكذا مثلا يذكر أرسطو روات الميتولوجيا اليونانيّة على أنّهم الأوائل الذين اعتنوا باللاّهوت وتكلّموا فيه: οι αρχαιοι και διατριβοντες περι τας θεολογιας " القدماء الذين تكلّموا [اعتنوا] في الأساطير الإلهيّة"، بخلاف "هؤلاء الحكماء الذين تكلّموا بحكمة إنسانيّة" οι δε σοφωτεροι την ανθρωπινην σοφιαν . أي الفلاسفة الطّبيعيّون وهم الحكماء الذين اعتنوا بدراسة الظّواهر الطّبيعيّة دون ادراج بحوثهم في مجال الخطاب اللاّهوتي الميثولوجي. أيضا في مقال الباء من مصنّف "الميتافيزيقا" يشير إليهم أرسطو بشيء من التّملّص و السّخرية قائلا "أتباع هسيود وكلّ اللاّهوتيّون لم يعنوا إلاّبما بدى في نظرهم أنّه مقنع و نسونا نحن [...] ما قالوه يفوق طاقتنا العقليّة "، "οι περι Ησιοδον και παντες οσοι θεολογοι [...] υπερ ημας ειρηκασιν ". وفي الألف الكبرى Α يقول أرسطو في شأنهم: "إنهم القدماء الذين تكلّموا في الآلهة قبل هذا الجيل بكثير " παμπαλαιοι και πολυ προς της νυν γενεσεως και πρωτοι θεολογησαντες".

لكن الغريب في الأمر هو أنّ الموضع الذي كان من المفروض ومن المرتقب حقّا أن يتحدّث فيه أرسطو بإسهاب وبشيء من الإحترام عن اللاهوتيون وأن يبيّن بوضوح نظريّته في موضوع اللاّهوت، أعني كتاب اللاّم الذي عدّ الخاتمة المنطقيّة لما يسمّى بالحكمة الإلهيّة والعرض النّظري الوافي لها، نجده خال تماما من أيّ مضمون إيجابي بشأن هذا العلم.

أرسطو يواصل، في نفس المؤلّف، وصفه أصحاب اللاّهوت كما نعتهم في مواضع أخرى من مؤلّفاته حيث يقول: "اللاّهوتيّون الذين يشتقّون كلّ شيء من الظّلمة " ما نصّه باليوناني: "οι θεολογοι οι εκ νυκτος γεννωντες " مميّزا أقوالهم عن أقوال الطّبيعيّين، οι φυσικοι التي هي أكثر علمية وأشدّ إقناعا.

على ضوء هذه المجموعة من المعطيات فإن النّتيجة التي يمكن استخلاصها تبدو واضحة: مصطلح اللاّهوت عند أرسطو هو تعبير عن مرحلة قبل علميّة في التّفكير و سابقة حتى لأقدم مراحل التّفكير الفيزيائي للفلاسفة الذين جاءوا قبل سقراط، أساطيرهم لم تُعن بالبحث عن الطبيعة واكتشاف أسرارها ولكن عرض لهم أن تكلّموا في أشياء مسّت من قريب ظواهر طبيعيّة، لكنها تبقى دائما محسوبة في عداد الأسطورة إنّها طفولة وعي الإنسان بالطّبيعة.

وعلى الرّغم من ذلك يجب الإنصاف في حقّ اللاّهوت كتعبير ثقافي إنساني، ذلك أنّ أرسطو نفسه لا ينكر ما لبعض المعتقدات الأسطوريّة التي يختصّ بها اللاّهوت من قوّة إقناع و تحريض للناّس على فعل الأصلح والإلتزام بالعادات والأعراف. ولكن هذا الإحترام المحتشم لا يؤدّي به إلى إدماجها ـ أعني تلك المعتقدات الأسطوريّة والقصص اللاّهوتي ـ في حقل التّفسير العلمي للطّبيعة وللكون بصفة عامّة، لقد أُبعدت عنه بدون رجعة.

في كتاب السّماء وفي مقال اللاّم يُعرب أرسطو عن رأيه هذا حيث يؤكّد على أن الشّعراء اللاّهوتيّين القدامى قد تناقلوا، على شكل قصص أسطوري "εν μυθου σχηματα" بعض الحقائق ممزوجة بعناصر أسطوريّة، وذلك لبثّ الإقناع في قلوب النّاس ولحثّهم على احترام الشّرائع والخير المشترك. ففي معتقدات القدامى قد تكون محفوظة بعض الشّذرات من حكمة كانت قد اكتشفت في وقت ما ثمّ اندثرت بعد ذلك.

لكن هذا الاحترام الذي يُبديه أرسطو تُجاه المعتقدات الشّعبيّة، والذي يَنمّ حسب البعض عن إحساس عميق بالأمانة الفكريّة والإنصاف للتّاريخ، هو بعيد كل البعد عن المزج بين الحدود التي فَرّقت بين الأسطورة والعلم والذي بمقتضاه تكون الأسطورة واللاّهوت بصفة عامّة مرحلة ما قبل ميلاد العلم.

النتيجة التي يمكن استخلاصها إذن تبدو واضحة لمن تابع هذا العرض: لا يمكن لأرسطو، الذي ميّز بدقّة بين مجال الأسطورة والعلم وأعطى للأولى حقلا دلاليّا و معرفيّا أضيق (دلالة عمليّة أخلاقية ومحدودة)، أن يسمّي احدى علومه أو نظريّة ما حول الإله لاهوتا θεολογια لأن في ذلك تقهقرا وسقوطا في ما قبل العلم.

3- كتاب اللاّم: المعضلات والنّقد

بعد هذا التّعريج السّريع على دلالة مفهوم اللاّهوت كما ورد عند أرسطو، نعود الآن لنتفحّص عن قرب مقال اللاّم وعلاقته بمجموع المقالات الأخرى في كتاب "الميتافيزيقا" وبالأخصّ الميم و النّون.

من بين الميزات الكبرى التي اختصّت بها الدراسات التاريخيّة التطوّريّة أي تلك التي ركّزت على مفهوم التدرّج والمرحليّة في تكوين "النّسق" الفلسفي الأرسطي وبالأخصّ مع الرائد في هذا المجال وهو ف. ييغر. لقد أظهرت هذه الدراسات أن تطوّرا عميقا حصل في آراء أرسطو و أن فلسفته كانت في فترة ما ذات طابع أفلاطوني صرف ثم إثر مغادرته الأكاديمية بعد وفاة أفلاطون أحدث نسقا مغايرا أبعده تماما عن الأفلاطونية وعن إشكالياتها وبالأخص تخلّيه نهائيا عن روح الأفلاطونية أي عن نظرية المثل وعما تتضمنه من لاهوت وتوجهه نحو المباحث الطبيعية.

ليس كل ما جاء في دراسات ييغر تعكس حقيقة الصيرورة الفكرية لأرسطو ولا تعبّر عن كيفية بروزها، ونعلم الآن، من خلال شذرات ما تبقى من مؤلفاته الأولى، أن أرسطو لم يتبن منذ البداية نظرية المثل ولم يكن أفلاطونيا صرفا. ذلك أنه ليس من الضروري لمن دخل الأكاديمية أن يعتنق بلا نقاش كل ما نصت عليه تعاليم أفلاطون، هكذا كان الشأن أيضا بالنسبة لسبوسيب و كسينوقراط و الرياضي أودوكس الذين أخضعوا نظرية المثل إلى نقد جذري معوضين إياها بنظرية الأعداد المثالية أو ما شابهها.

لكن بعض النتائج التي توصلت إليها النظرية التطوّرية لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها و بالأخص تلك المقارنات الفيلولوجية بين مختلف النصوص الأرسطية. لقد استبان من خلالها أن المؤلفات المدرسية، التي لم تنشر في حياته، كانت عرضة لتحويرات وتنقيح وإضافات مستمرّة طوال كل السنوات التي اشتغل فيها أرسطو بالتدريس في اللوقيون وهذا ينعكس في مصنفاته المدرسية الكبرى والمتداولة الآن وبالأخص في مصنف "الميتافيزيقا" وهذا الرأي ينطبق بالتحديد على مقالة اللام التي نحن بصددها.

اللام في مجموع المقالات الأخرى في معزل عنها وعن مشروع ي1 وغير ذات صلة بالمقالات المركزية، ومن المحتمل جدا أن تكون، كما افترضت الدراسات التطورية، مصنفا مستقلا بذاته القصد من ورائه هو تقديم عرض شامل ومكتمل لنظرة موحدة للكون كما يتصوّرها المؤلف.

وعلى هذا الأساس يمكن إذن حدس الغرض المؤدي إلى إدماج هذا العمل في مجموع المقالات التي تكوّن ما سمي بالميتافيزيقا: فلأجل أن هذه المقالة هي من بين المؤلفات الأرسطية الوحيدة التي قدمت عرضا مجملا وأولت عناية خاصة بشأن موضوع الجواهر الغير محسوسة ولأجل أن خاتمته تشير بإجمال إلى منحى لاهوتي فإن ناشر أعمال أرسطو إرتأى إدماجها في ذلك الموضع بالذات ليلبي فعلا تلك الحاجة التي كانت قد افترضت سواء في الزاي أم في الميم : أي مشروع فحص ودراسة إيجابيتين حول موضوع الجواهر اللامحسوسة. أما بخصوص المبحث الأصلي والمرتقب الذي وعد به أرسطو في مقلي الزاي و الميم و اللاهوت المخططت له في الياء فهو لم يصلنا وذلك إما لأنه لم يكتب قط أو أنه أتلف.

3-1 المحرك الذي لا يتحرّك:صفاته و أفعاله

في الجزء الثاني من الفقرة السابعة من اللام نحصل أخيرا على وصف حماسي و مؤثر للغاية لطبيعة محرك السماء، إنها من بين الصفحات اللاهوتية القليلة في كتب أرسطو التي حازت شهرة ومجدا خالدين. يقول أرسطو ما نصه باليوناني : « εκ τοιαυτης αρα αρχης ηρτηται ο ουρανος και η φυσις» ." إذن على مبدإ مثل هذا تعتمد السماء و الطبيعة "، وفي الترجمة القديمة التي استعملها ابن رشد في تفسيره و ردت على النحو التالي: " فإذا بمبدإ مثل هذا علّقت السّماء والطّبيعة" ثم يواصل قائلا :" و حال حياته هي في أعلى مراتب الفضل وهي متاحة لنا في زمان يسير أما بالنسبة له فهي دائمة و هذه الحال غير متاحة لنا، ففعل حياته لذّة و لهذا السبب فاليقظة و الحس و التعقل هي في أعلى مراتب اللذة ذلك لأنها فعل و لأجل ذلك فهي رجاء و تذكر أيضا.

التفكير أو التعقل في ذاته موضوعه هو الشيئ الأفضل و العقل يعقل ذاته باكتساب المعقول فهو يصير معقولا حينما يعقل ذاته بحيث يتطابق العاقل و المعقول. فمتقبل المعقول و الجوهر هو العقل و هو يصير بالفعل عند امتلاكها و بالتالي فإن ما هو الهي في العقل هو هذا [الفعل] أكثر من تلك [الملكة]. و فعل التفكير هو ألذ الأفعال و أفضلها فإن كان الإله كحالنا من السعادة في وقت ما فذلك عجيب و إن كان أكثر من ذلك فهذا أعجب. كذلك فهو حي لأن فعل العقل حياة [...] إذن نقول إن الإله حي أزلي في غاية الفضيلة بحيث يملك حياة ووجودا متصلا و أزليا، ذاك إذن هو الإله τουτο γαρ ο θεος ".

في هذه الفقرة يسوق أرسطو ثلاث أطروحات مهمة يمكن ترتيبها على النحو التالي:

فعل المحرّك الذي لا يتحرك هو التعقل

موضوع فعل التعقل هو ذاته

التعقل الذي هو دائما بالفعل هو إله (أو الله)

أ) في موضع سابق تكلم أرسطو عن محرك السماء الأولى ووصفه بأنه فعل أو جوهر ουσια بل هو الجوهر اللامادي بامتياز. لكن لسائل أن يسأل على أي أساس ترتكز جوهريته ككائن لا مادي؟ أو بالتحديد هو فعل ماذا ؟

للإجابة عن عن هذا السؤال لا يمكن الاكتفاء بإظهار خاصيته كوجود أزلي والقول مثلا بأن المحرك الأول هو وجود دائم الفعل أو فعل أزلي. هذا القول قد يؤدي إلى خطر جوهرة الوجود و ترك مبدإ تعدد معاني الوجود الذي كثيرا ما نافح عليه أرسطو ضد الإفلاطونية. أرسطو الذي رفض أن يكون الوجود و الواحد جوهرا لأي شيئ كان في حاجة إلى مفهوم آخر بمقتضاه يمكنه من جوهرة الفعل الأزلي الذي يتصف به المحرك الذي لا يتحرك. لقد و جد ضالته في ميدان التعقل و الذي هو في معنى ما يعتبر من أرقى و أفضل الأنشطة الإنسانية. و ليس من المستغرب أن يلجأ أرسطو إلى هذا النوع من الأنشطة الذهنية لكي يستمد منه مفهوم جوهرية المحرك الأول، لأنه في نظره يحوز بحق على صفة التواصل و الإستمرار و لأن هذه الفعالية، كما جاء في أخلاق نيقوماخوس، هي ألذ و أمتع و أفضل الأفعال.

البعد الأنثروبومورفي للحل الذي توصل إليه أرسطو قصد إضفاء محتوى موضوعي للفعل الذي يختص به المحرك الأول يبدو أنه من الصعب تفاديه . لكن كان بإمكانه تفادي التركيز على النموذج السيكولوجي الإنساني في الأطروحة الموالية. لذلك اعتقد البعض أنه من المحتمل أن يكون سبب ذلك راجعا إلى أن أرسطو حين كتابته اللام كان تحت تأثير بحوثه في علم النفس. و الدليل على ذلك أن قناعته بأن العقل، في حين تفكيره، يتخذ كموضوع لتعقله ذاته، لها ما يوازيها أو ما يؤسسها في أطروحات الكتاب الثالث من النفس حيث يذهب إلى أنه في مجال الفكر النظري فإن الموضوع المعقول و الذات العاقلة يصبحان شيئا واحدا. طبعا فالعقل الإنساني لا يمكن من أن يكون موضوعه الأسمى و الأوحد ذاته الخاصة و إلا تماهى معه تماما لكن على العكس من ذلك فإن الميزة الأساسية للفعالية العقلية التي يختص بها المحرك الأول هي أن موضوع تعقله هو ذاته لا غير.

ت) في بداية النص يستعمل أرسطو، لتسمية إلهه، جنسا محايدا "το θεος" و لكن في آخر الفقرة فقط يذكر بصريح العبارة اسم الإله معرفا "ο θεος". ففي بداية استعراض برهانه يستمرّ في تقديم استنتاجه بخصوص ذلك الكائن باعتباره محرك السماء لكن لكي يتوصل إلى التحدث عنه كما لو أنه إله ما أو الإله بامتياز كان في حاجة إلى وساطة فعل التفكير أي العقل و نشاطه.

و يظهر من ذلك أن ألوهية المبدأ المحرّك ليست في نظر أرسطو أمرا بديهيا و لا هي واضحة بذاتها لأن فكرة شيء ما يحرك شيئا آخر دون أن يتحرّك هو بذاته لا تعني ضرورة ألوهية ذلك المبدأ.

من الواجب إذن محاولة التخلص من الترسبات التي شيدت حول هذا النص و التخمينات التي تخرجه في بعض الأحيان عن معناه الأصلي. إن سياق الأفكار التي وردت في النص الأرسطي يمثل نموذجا لضرب من ضروب العقلية اليونانية في تصورها للألوهية والإله.

لقد تفطن دارسي الحضارة إلى أن الذهنية اليونانية ترى أن الإلهي أولا و بالذات كمحمول أو صفة يختص بها كائن ما و ليس موضوعا عينيا: فإله ما يكون كذلك لأجل أنه إلهي و ليس العكس أي أنه إلهي لأنه إله. من الصعب التخمين هكذا لكن الأمر يبدو أنه على هذه الشاكلة.

فمثلا لدى أفلاطون نجد هذه الفكرة، فالكائنات الأكثر إلهية، ليست الآلهة، بل المثل. و ليس من الصحيح ما اعتيد اعتباره، بالخصوص مع بروز المدارس الإفلاطونية المتأخرة، على أن إله أفلاطون هو الإله الصانع في طيماوس. ففي المثل تتركز بامتياز، عند أفلاطون، الألوهية. علاوة على ذلك، وهذه نتيجة منطقية ل"النسق الأفلاطوني"، و بما أن بين المثل ذاتها هناك قيمة عليا و هي مثال الخير فإن الإلهي يتشكل عنده بحسب مراتب مختلفة و تقسيم هرمي محكم بحيث أن الكائن الأكثر اكتمالا و ألوهية و هو مثال الخير يحوز على أقل درجة من التشخص و الفردية في الوقت الذي تكون فيه النفس و هي الكائن الذي يتحقق فيه التشخص التام في أسفل مرتبة الكئنات الإلهية.

يبدو إذن أن أطروحة أرسطو لا تشذ عن هذه القاعدة بل تنخرط في الصورة الذهنية ذاتها. فأرسطو ينطلق من مبدإ أصل الحركة في الكون و لا يستطيع أن يضفي عليه منذ البداية صفات الكائن الإلهي، من الواجب إذن أن يجد له أولا ركيزة جوهرية و لتحقيق هذا الغرض فقد استعان بمفهوم التعقل؛ فعل التعقل هو كل ما يعترف به أرسطو كخاصية ذاتية لكل ما هو إلهي (صفة الإلهي سبق ذكرها على ذكر الإله، السطر 21). المحرك الذي لا يتحرك بما أنه عقل و تعقل بالفعل يجوز بحق أن يطلق عليه صفة الألوهية و أخيرا فالمحرك الذي لا يتحرك هو الإله. و لكن هناك من أراد أن يذهب بهذه النتيجة إلى مدى أبعد و عدّ ذلك الاستنتاج الأرسطي على أنه الإله بامتياز أو ما يوازي الله في الأديان السماوية، لكن يمكن الاعتراض على ذلك كما كتب دونيني قائلا بأن: " استعمال أدات التعريف أما الإسم في النص اليوناني [ο θεος ] هو أمر متشابه، فلغة أرسطو تسمح بذلك حتى في حالة وجود آلهة متعددة شبيهة بالمحرك الأول و فعلا في الفقرة السادسة من اللام يتكلم أرسطو بأسلوب يجعلنا نعتقد على غراره أن الجواهر اللامادية و دائمة الفعل يوجد منها أكثر من واحد".

لكن المعضلات التي تطرحها نظرية الإله الأرسطية لا تستنفذ عند هذا الحد، فأعضمها حدة و أخطرها تلك التي تتصل مباشرة بالأطروحة (ب) و التي واصل تحليلها في الفصول اللاحقة من اللام و تتعلق بالخصوص بمسألة العلم الإلهي و بالتحديد بموضوع تعقله هل هو ذاته أم شيء آخر. أرسطو يرفض صراحة الخيار الثاني أي أن يكون موضوع التعقل شيئا آخر خارجا عن العقل الإلهي ذاته ثم يستبعد حتى إمكانية أن يكون موضوع تعقله أشياء مركبة أي قضايا و أحكاما حيث يقترن فيها الموضوع و المحمول، كما هو الشأن بالنسبة للعقل الإنساني حينما يروم استنتاج الأحكام الكلية، إذ أن في هاتة الحال سيخضع للتغير وللاستحالة. أرسطو يرفض هذه الإمكانية على أساس أن الجواهر اللامادية واحدة و غير قابلة للإنقسام، بناء على ذلك فإنه لا يمكن تفادي النتيجة التالية و هو أن الإله (أو الآلهة) عند أرسطو لا يعقل ما دونه أي العالم وما يحدث فيه، نصوص أرسطية أخرى تؤيد هذا الرأي. مثل هذه النتائج التي لا تترك، بحق، مجالا لمفهوم العناية الإلهية كانت إحدى الأسباب التي أتاحت لخصومه الفرصة، منذ القديم، لاتهامه صراحة بالإلحاد، الشيء الذي أحرج المشائية منذ بروزها كمدرسة مستقلة بذاته و ترك لأعلامها من الشراح تحدى عويص كان لا بد من الرد عليه.

4 ـ العناية الإلهية: صليب المشائية

المرادف اليوناني لكلمة عناية هو προνοια ( في اللاتينية providentia ) هذه العبارة، في معناها الديني، نادرة الاستعمال في القاموس الأرسطي و حتى إن عرض له استعمالها فهو يدمجها خاصة في مجال أخلاقي ـ حقوقي يتصل بأفعال الإنسان و ذلك للتمييز بين الجنايات الخطيرة و الأخرى الأقل خطرا، و يستعملها أيضا بالإشتراك مع مفاهيم أخرى في موضوع المسؤولية الشخصية، مثل حرية الإختيار و القصدية في الفعل. و في بعض كتاباته يستعمل أرسطو فعل προνεο مضافا إلى نعت مشتق، مثلا في عبارة δυναμις προνετικη ، و ذلك للتعبير عن ملكة أو قوة للتنبوء تمتلكها بعض الحيوانات، شبيهة بالتي هي عند الإنسان، و تخول لها اعتبار الأصلح و اختياره و في مقطع من كتاب السماء يستعمل اسم الفاعل προνοουσε لكي يعبر عن فكرة أن الكائنات في الكون منظمة و مرتبة كما لو أن الطبيعة معتينية بها بحيث أنها قادرة على التنبوء بما سيجري لها في المستقبل. فهي تنظم حركة الأجرام الفلكية كما لو أنها كانت تعلم مسبقا أنه في حال وجود تنظيم مغاير فإن لا شيء سيكون على ما هو عليه. هذا المقطع من السماء يبدو و كأنه تنازل لحساب المعتقدات الشعبية التي تأمن بألوهية الأجرام و بإمكانية تدخلها فيما يحدث في العالم، لكن غرض أرسطو مغاير لذلك ففكرة عناية سماوية متجهة نحو العالم السفلي قدمها بتحفظ مستعملا عبارة كما لو أنّ ωσπερ ثم إن الفاعل لهذه العناية ليست الآلهة بل الطبيعة و التي هي في نظر أرسطو مفهوم مجرد يستعمله عادة لوصف الاطراد و النظام الداخلي والمحايث لسيرورة الظواهر، فالطبيعة بهذا المفهوم لا يمكن اعتبارها فاعلة مباشرة للعناية. يمكن التحدث عن عناية ما ـ كما ذهب إلى ذلك الإسكندر الأفروديسي ـ إذا كان الفاعل مفارقا و متعال عن الكائن العتنى به ، و من الواجب أيضا أن يكون الفاعل ذا روية وإرادة واعية، لكن الطبيعة، على الرغم من أنها تنظم أفعالها و تؤديها على شكل تليولوجي ـ غائي لأجل هدف ما، فإنها فاقدة للعقل و لملكة الاختيار ( الإسكندر يعرف الطبيعة بأنها صناعة لاعقلية τεχνη αλογος).

مصطلح προωοια عناية عند أرسطو لا يعني به العناية التي يختص بها الإله الكائنات بل هي، في معناها الأكثر تداولا عنده، تمثل مشروعا إنسانيا بخصوص أفعال مستقبلية لتحقيق غاية ما.

على العكس من ذلك فإن أفلاطون يفسح مجالا أكبر لفكرة العناية بالموجودات و بالإنسان خصوصا ، بل إنه في طيماوس يستعمل بصريح العبارة كلمة العناية مطاقة إلى الآلهة أي العناية الإلهية προνοια του θεου . لا شيء من ذلك ، كما رأينا، يمكن أن نجده في مؤلفات أرسطو و لا حتى في مؤلفه الذي تحدث فيه عن الإله أي اللام من "الميتافيزيقا" ، لكن المشائية التي ورثت مؤلفات أرسطو و إشكالياته المحرجة حاولت بكل جهد تبرير ساحة المعلم من هذه التهمة (تهمة نكران العناية الإلهية) و الاجتهاد في سبيل البرهنة على إمكانية بناء نظرية أرسطية في العناية.

و هنا نفتح قوسا لنورد ما جاء في تفسير ما بعد الطبيعة لإبن رشد بخصوص هذه المسألة حيث يقول في هذا الصّدد: " لكن قد يلحق هذا شنعة و هو أن يكون الإله جاهلا بما ههنا و لذلك جاء قوم فقالوا إنه عالم بما ههنا بعلم كلي لا بعلم جزئي. و الحق أنه من قبل أنه يعلم ذاته فقط يعلم الموجودات بالوجود الذي هو علة في وجوداتها. مثال ذلك من يعلم حرارة النار فقط لا يقال فيه أنه ليس له بطبيعة الحرارة الموجودة في الأشياء الحارة علم، بل هذا هو الذي يعلم طبيعة الحرارة بما هي حرارة و كذلك الأول سبحانه هو الذي يعلم طبيعة الموجود بما هو موجود بالإطلاق الذي هو ذاته. ولذلك كان اسم العلم مقولا على علمه سبحانه و علمنا باشتراك الاسم وذلك أن علمه هو سبب الموجود و الموجود سبب لعلمنا، فعلمه لا يتصف لا بالكلي و لا بالجزئي".

نسجل لأبن رشد في تفسيره هذا وعيه التام بالإشكالية و محاولته الخروج من المأزق الذي و جد نفسه فيه، نظرا للغياب الكلي و لو حتى لمجرّد الإشارة من طرف أرسطو لطرح هذه الإشكالية أو لحلّها. و لكن جعل الإله، الذي هو علة غائية للحركة الكونية عند أرسطو، مرادفا لمفهوم الوجود بما هو وجود بإطلاق و علة له، كما يذهب إلى ذلك ابن رشد، هو قول لا أساس له عند أرسطو بل إنه في معنى ما سقوط صريح في الإفلاطونية.

لكن في موضع آخر نكتشف أن ابن رشد يتبع خطى الإسكندر فيما يخص العناية الإلهية و ذلك حينما يجعل حدّا لقدرة الإله على الفعل مخرجا مجال العناية من نطاق الجزئيات " و يقول الإسكندر إن قول من يقول إن العناية تقع بالجزئيات كلها قول أيضا في نهاية الخطأ، على ما كان يرى ذلك أصحاب الرّواق؛ و ذلك أن العناية من تلك (الآلهة) إنما تكون من حيث هي عالمة على ما سلف (بعلم تابع للمعلوم). وليس يمكن أن يكون لها علوم حادثة جزئية فضلا عن أن تكون غير متناهية. و القائل أيضا بهذا يجوّر الآلهة ضرورة، لأنه إن كانت تنحو نحو تدبير شخص شخص فكيف يلحق الشخص الشرور مع أن الآلهة تدبره؟ و أعني هنا أن أنواع الشرور ما قد كان ممكنا ألاّ يقع له، و أما الشرور الضرورية وقوعها بالشخص فلقائل ان يقول: إن ذلك ليس من عند الإله. لكن أكثر من يرى في أمر العناية هذا الرأي يرون أن الأمور كلها ممكنة للإله فلذلك يلزمهم أن يجوّروه. و أما أن الأمور ليست كلّها ممكنة (للإله) فظاهر جدّا، فإنه لا يمكن أن يكون الفاسد أزليا و لا يمكن أن يكون الأزلي فاسدا كما أنه ليس يمكن في المثلّث أن تعود زواياه مساوية لأربع قوائم و لا في الألوان أن تعود مسموعات و القول بهذا ضارّ في الحكمة الإنسانية جدّا ".

ليس هناك توازن بين ما جاء في النص السابق و ما أورد في النص اللاّحق، ففي موضعين اثنين و بخصوص نفس الإشكالية، يقدّم ابن رشد حلّين مختلفين و هذا التّأرجح وعدم البت يعود، حسب رأيي، لصعوبة الإشكالية و لاختلاطها بموضوعات تمس، عن قرب، المعتقدات الدّينية و نظرتها للفعل الإلهي؛ فإن انفلتت الحوادث، كل الحوادث، الكلية منها و الجزئية، عن قبضة الإله و عن تدبيره فلا معنى لوجوده أو لعنايته بهذا العالم، و لكن في الحالة المعاكسة، أي إن كان لا شيئ يخرج عن قدرة الإله، فلماذا تلحق الشرور بالأشخاص علما بأن الإله هو الخير المحض؟

ابن رشد، في نصه الثاني، يضحّي بقدرة الإله على فعل كل شيئ، و ذلك لتبرير ساحته من فعل الشرّ و لإفساح المجال لقيام العلوم وإمدادها بالمشروعية النظرية التي لا تستقيم بدون قوانين صارمة و اطراد مسارها كي يتسنى للإنسان صياغتها و تقنينها ولوقايتها أيضا و حفظها من إرادة إلهية اعتباطية لا يمكن تعقلها أو التنبوء بها و لهذا فهي ضارّة في الحكمة الإنسانية.

إشكالية أخرى يطرحها النص الأرسطي، أو طرحت عليه، و لا يمكن الوقوف لها على حلّ : إذا كان العقل الذي يتحدّث عنه في الفقرة (9) لا يتماهى فقط مع المحرّك الأول و لكن، حسب سياق البرهان الأرسطي، يعبّر اجمالا عن ضرب من ضروب الإشارة بالجمع عن كل "العقول المحرّكة" فإنه لا يمكن تفادي النتيجة التالية و هو أن كل عقل محرّك هو فكر الفكر أو عقل يعقل ذاته. و لكن لماذا يكون فكرا متجها نحو ذاته فقط و ليس أيضا لكل ما سواه من العقول بالفعل؟ أو كما هو الحال في الفقرة (8) حيث يعترف أرسطو بوجود هرمية بين مختلف المبادئ المحرّكة و من ثمّ التخمين بأنه في الوقت الذي يكون فيه المحرّك الأول مكتفى بتعقل ذاته فإن العقول الأخرى، علاوة على التفكير في ذاتها، فهي تتجه بالنظر أو التعقل في الأوّل أيضا. أم أن الأول يعقل كل ما دونه من العقول؟

تساؤلات كثيرة يمكن إثارتها حول هذه النقاط و حلول عديدة يمكن اقتراحها لصالح الواحدة أو الأخرى من هذه الافتراضات. لكن الشيء المحيّر هو أنه بخصوص مسائل و إشكاليات من هذا القبيل ـ التي تقربنا بمعنى ما ممّا كنّا ننتظره من نسق لاهوتي عقلاني الذي افترض وجوده في اللام من ما بعد الطّبيعة ـ فإن أرسطو لم يبد ولو نزرا قليلا من الإهتمام بذلك و لم يقدّم ولو إشارة عابرة في سبيل إجابة ما. يبدو أنّ كل تلك التساؤلات خارجة تماما عن فضوله النظري، فليس فقط حلّ هذه المعضلات بل طرح اشكاليات من هذا القبيل تبدو في منأى عنه.

و لذلك فإن الفضل في تنظيم العالم الإلهي و تنسيقه و سدّ ثغرات الأرسطية في هذا المجال بالذات يرجع إلى أفلوطين (التاسوعات 5. 1، 2). و هذا قد يعطينا فكرة عن الزاوية الفلسفية التي تصبح فيها، مسائل و معضلات من هذا القبيل، مركزية و محدّدة.

5 ـ تعدّد المحرّكات و السكوت عن الصّورة

تعدد المحركات في اللام (8) ليست افتراضا عابرا، عند أرسطو، بل هي نظرية مكتملة و صريحة. ففي بداية الفقرة يتساءل عمّا إذا كان من الواجب افتراض وجود جوهر واحد من ذاك القبيل أي كمحرّك للفلك و عقل يعقل ذاته أم أعداد مماثلة له في الصفات و الفعل؛ و في ذاك الإطار فهو يعيب على سابقيه و بالأخص أولئك الذين يتبنّون نظرية المثل أنهم لم يولوا أهمية بهذا الموضوع و لم يقولوا فيه قولا واضحا يعتدّ به بخصوص عدد الجواهر اللامحسوسة. أرسطو يعمد إلى تقديم حلّ لهذه الإشكالية: المحرك الأول، حسب الضرورة التي تقتضيها حركات الأجرام و بطريقة غير مباشرة، هو المبدأ و معه هناك محركات أخرى على نفس الشاكلة. فلو أنه كان هناك محرّكا أوحدا لكانت توجد فقط حركة السماء الأولى و لعدمت حركة الأجرام الأخرى بل لعدمت الأجرام ذاتها. إذن هناك عديد من العقول دائمة الفعل خالصة من المادة كل واحد منها يفكر على الأقل في ذاته.

لكن هذه النظرية تطرح إشكاليات عويصة و تمس في شيئ ما جوهر "النسق" الأرسطي إذ أنه: " بعد وصولنا إلى هذه النقطة بفضل تسلسل برهاني واضح و سليم، و أردنا أن نعرف المزيد حول المكانة الأنطولوجية و التنظيم و العلاقات الداخلية بين هذه العقول فإن أرسطو يصدمنا أو بالأحرى يخيب آمالنا تماما"، و ذلك أنه يركز اهتمامه حول اشكالية لا تمت لذلك بصلة و هي طريقة حساب العدد الصحيح للمحرّكات، تاركا في الغموض المطلق و بدون حلّ الإشكاليات الفلسفية التي تتضمنها أطروحة تعدّد المحرّكات :" كل ما يمكن لأرسطو قوله بخصوص بنية عالم الجواهر اللامحسوسة يتركّز بشدّة في سطرين " إذن من الواضح أن هناك جواهر و أن منها أولى و أخرى ثانية بحسب مراتب حركات الكواكب". حقيقة هذا ليس من السخاء في شيء. فمن هذه العبارات يمكن استنتاج أنه حسب أرسطو هناك نظام هرمي بين الجواهر المفارقة يوافق نظام حركات الأجرام لكن حينما يتعلق الأمر بالكواكب التي كل واحد منها له حركات عديدة كيف يمكن تحديد محركيها؟ فلتحديد هذا النظام و إحكامه تنشأ تعقيدات لا يمكن تخيلها. و في شأن هذه الإشكالية من الأفضل الإعتراف بأن أرسطو لم يول أي اهتمام لحلّها". المعطى الوحيد الموثوق منه هو وجود سلّم هرمي تخضع له المحركات أو الجواهر اللامادية و في هذه الهرمية فإن الأولوية يحوزها محرّك السماء الأولى.

ليس هذا بالشيء الكثير أو المهم للاعتقاد بأن هذا المحرك هو الإله الأسمى أو تسفيره على نحو يقربه من المفهوم الديني للإله نظرا لأنه يقوم فعلا بنفس الأفعال التي تقوم بها العقول (الآلهة) الأخرى.

و على صعيد آخر يمكن طرح إشكالية أخرى، تفرضها نظرية تعدد المحركات: اذ أن وجود عدد من العقول المحركة تفترض إمكانية تفردها و تميزها الواحدة عن الأخرى. و لكن ما هو المعيار الذي يمكن من تمييزها؟ فالقول بالمادة (كما هو الشأن إن أردنا التمييز بين أشخاص النوع مثلا بين سقراط و كالياس) يبدو أنه مبدئيا مستحيل نظرا لأن تلك الجواهر خالصة من المادة. و لا يمكن الاستناد إلى مفهوم الموضع أو المكان الذي يحتله كل واحد منها في سلم الترتيب اذ أنه يعتبر معيار خارجي وعددي غير قادر على حل هذه الإشكالية لأنه يقدم معلومة ضئيلة حول جملة النظام دون الدخول في التفاصيل.

لكن بعد مرور قرون عديدة، أخضعت فيها النصوص الأرسطية للتعليق و الشرح، فإن الموارد النظرية و المفهومية للدارسين تطورت كثيرا قصد الإجابة عن أسئلة لم يطرحها أرسطو نفسه: هكذا قدّمت في هذا الشأن أطروحة بمقتضاها تتميز العقول فيما بينها بالنوع في غياب مادّة قادرة على تشخيصها واحدة واحدة. بذلك نتحصل على 48 أو 56 نوعا من المحركات التي لا تتحرك كل واحد منها هو نوع يستنفذ في ذاته حالة خاصة.

و مع ذلك فإن الأنواع أيضا يجب أن تخضع لمبدإ التفرّد و ان يكون بالإمكان تمييزها هي الأخرى، كما هو الحال بالنسبة للأنواع الحية فإن الصورة هي المسؤولة عن ذلك. لكن ماذا سيكون الفرق الصوري بين عقل و آخر؟ أرسطو لم يشرح ذلك و لم يتطرق لهذه الإشكالية و من الأكيد أنها من بين المعضلات الكبرى التي من الصعب حلها عن طريق الآليات المفهومية لفلسفته. لقد تركت هذه الإشكاليات كثيرا من الشراح في حيرة و البعض منهم اندهش من قلة عناية أرسطو بالدخول في مسائل جدية تفرضها آرائه " في الحقيقة، يعلق أحد الدارسين المعاصرين على هذا التغاضي الأرسطي، هذه هي فضيحة الفقرة 8 من اللام... ففي موضع حيث يدرس فيه الجوهر اللامحسوس و في إطار يزعم فيه البرهنة على تعدد الجواهر التي تعمر العالم اللامادي، لا يعثر فيه ولو مرة واحدة على ذكر للصورة؛ فتعدد العقول (الآلهة) التي أدخلها أرسطو بهذا النص تبين أنها نتيجة لنظرية عامة للحركة في الكون و ليست استتباعا منطقيا لنظرية عامة في الوجود و التي بصددها انبرى بالصمت التام في كل نقاطها الحساسة. و نحن نتساءل بدهشة ما العلاقة بين تلك العمليات الحسابية و البراهين و بين التخمينات المجردة في المقالات المركزية حول الصورة و بين النظرية العامة للوجود في جيم و بين اللاهوت المعلن عنه في الياء؟".

6ـ العلاقة بين الإلهي و الإنساني

ليس هناك أدلّة راسخة تثبت أن اللام تمثل نظرية أرسطو النهائية و المكتملة في اللاهوت و من المحتمل جدّا أن تكون هذه المقالة محاولة جزئية و متردّدة في الفلسفة الأولى. و حتى إدراجها تحت هذا العنوان ليس شيئا بديهيا و واضحا بذاته. على كل حال فإنه يجب الإعتراف بأن إدماج العنصر الإلهي في التنظير الأرسطي و في بعض المواضع الحساسة من فلسفته قد أحدث توترا كبيرا و تعقيدات جمّة.

علاوة على أنه يبقي غامضا و غير مكتمل مشروع التنسيق في المجال الإلهي فإن الأنثروبولوجيا الأرسطية ليست أقل تعقيدا و تشوشا. فالإلهي في المجال الإنساني، أي العقل، يبرز كعامل إضافي يعكر صفو الإطار النظري المنسجم للسيكولوجيا الأرسطية التي برهنت على أن النفس ليست إلاّ صورة و كمالا أوّلا لجسم طبيعي الشيء الذي ترك نهائيا الأشكاليت الإفلاطونية حول منشئ النفس و خلودها و مصيرها بعد الموت. لكن العقل المفارق، مع كل الصفات التي ينعته بها في الثالثة من كتاب النفس (غير مختلط، واحد و غير متجزئ)، هي دليل على تردّد أرسطو و عدم تمكنه من التخلص التام من التأثير الأفلاطوني و من إشكالياتها لكن الجديد في ذلك أن أرسطو لم يذهب بها إلى مداها الأقصى و لم ير الاستتباعات المنطقية التي تؤدي إليها نظرياته. و بالتالي فإن تلك الإشكاليات التي لم يتطرق إليها صراحة بخصوص النفس قد طرحها شرّاحه بشأن العقل المفارق.

و على نفس هذا المنوال فإن نظرية الأخلاق الأرسطية، عندما تعلي من شأن الحياة النظرية أي الحياة المسخرة في سبيل التأمل العقلي و الأكثر تماثلا مع حياة الإله، تعقد إطار العلاقات بين الناس بإدخالها صنفا من البشر يقودون حياتهم في معزل عن المجموعة و عن مشاغلها اليومية. الفيلسوف النظري الذي يقدم العقل و نشاطه على كل الفعاليات الإنسانية الأخرى، بخلاف الفيلسوف الحاكم في جمهورية أفلاطون أو المستشار في النواميس، يعيش أساسا لأجل الممارسة العقلية لا ينشغل أبدا بالحياة العامة و ليس من الواجب عليه أن يطبق نتائج بحوثه لصالح المجتمع الذي يحيا فيه؛ هو ينتمي إليه فقط لأنه يشترك مع أفراده في الإنسانية لكن فعاليته النظرية و ممارسته العلمية تضعه في مستوى مغاير و مفارق حيث التنظير العقلي البحت يستنفذ كل اهتماماته.

يبدو أن هذه خاصية مميزة لأرسطو، فالرجوع إلى الإلهي، الذي يعتبر في معنى ما ضروري على المستوى الفيزيائي لتعقيل نظام العالم و حركته، كثيرا ما يؤدي إلى انكسارات و موض كلما تعلّق الأمر بحياة الإنسان و بعلمه. يمكن تفهم موقف أرسطو و وضعه في إطاره التاريخي المناسب مع الأخذ بعين الاعتبار منطلقاته النظرية و مقولاته و مفاهيمه التي بنى عليها فلسفته و من هذه الزاوية يمكن حدس ادماج الإلهي في بعض المواضع المركزية من "نسقه" الفكري : "لا يمكن بتر فلسفة أرسطو من المرجعية للإلهي: لا يمكن القول بأن الأخلاق ستكون في أحسن حال بدون الحياة النظرية و لا علم النفس دون العقل المفارق ولا الفلسفة الأولى بدون نظرية في اللاهوت، فاستمرار و ثبوت تدخل الإلهي في حياة و فكر الإنسان و وجوده تبين أنه بالنسبة لأرسطو هي جزء لا يمكن الاستغناء عنه. لكن لا يمكن أيضا ـ طبعا من وجهة نظر تاريخية ـ تمديد فكر أرسطو و تخميناته لغرض تبسيط و محو الصعوبات التي لم يجد لها حلاّ أو لم يرها قط. بالنسبة للتفكير النظري فإن نقائص و معضلات التفكير الأرسطي مثلت دائما حافزا لا ينضب للدرس و البحث".
02-19-2008, 06:58 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
إسلام غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 252
الانضمام: Oct 2007
مشاركة: #2
اللاهوت الأرسطي: حقيقة أم وهم ؟
هاه ؟
وماله ،




على العموم أهنئك على مقالتك الرائعة ،
( لو كنت قرأتها )
وللناسي فيما يعشقونا مذاهبوو:P
02-19-2008, 08:31 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  والحلم أصبح حقيقة الإله ميثرا 6 2,085 08-12-2009, 11:46 PM
آخر رد: kattyy
  حقيقة الملائكة mouhamedmakool 1 550 06-21-2008, 09:10 PM
آخر رد: mouhamedmakool
  حقيقة العائلة في الاسلام lellou 15 2,514 06-11-2008, 02:45 PM
آخر رد: lellou
  حقيقة المسيح الدجال mouhamedmakool 2 590 06-02-2008, 03:22 PM
آخر رد: hard jam
  حقيقة المسيح الدجال mouhamedmakool 6 1,125 06-01-2008, 08:32 PM
آخر رد: doa

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS