حتى فى مدخل كنيسة المهد كان على بوش ان يمر من امامه فقد وضع الرهبان صورة عملاقة لياسر عرفات
بوش في ضيافة عرفات
غسان شربل الحياة - 11/01/08//
لا يحتاج ياسر عرفات إكليلاً من الزهر. لا يحتاج وساماً. ولا شهادة حسن سلوك. لا يستعير شرعيته من البيت الأبيض. ولا من شاشة الـ «سي. ان. ان». بعض الاسماء يكفي. لا داع لإغراقه بالنعوت والصفات. وحسناً فعل الرئيس جورج بوش بعدم الاقتراب من الضريح. فقد يستقبله الرجل النائم هناك بابتسامة الواثق. ومن يدري فقد يرفع شارة النصر. ومن سيمنعه من تكرار عبارته الشهيرة «ان الدولة على مرمى حجر».
نكتب عن ياسر عرفات لأنه حفظ القضية حية وأبقى الشعلة مرفوعة. لأنه تجرأ على ارتكاب أصعب توقيع في التاريخ. وهو التوقيع الذي سمح للفلسطينيين للمرة الأولى منذ النكبة بالوقوف على شبر فلسطيني للمطالبة بما تبقى من الأشبار. التوقيع الذي أعاد القضية من منفاها وغربتها وغرسها مجدداً في التربة التي تحتضن وتحمي. التوقيع الذي أعاد إلى بعض الفلسطينيين حق ان تنزرع قبورهم في أرضهم. والقبور تحمي.
نعرف عثرات اتفاق اوسلو. والأثمان التي رتبها. واستمرار الدولة العبرية في التحايل على السلام وفي اغتياله أيضاً. ياسر عرفات كان يعرف ذلك. ومع ذلك كان يتطلع الى مقر اقامة فلسطيني ولو في حجم كوفية. ليتكئ عليه. ويحفظ فيه الحلم والهوية. وينطلق منه. لم يُهزم ياسر عرفات. ولو هُزم لما كان ثمة ما يدعو بوش إلى زيارة رام الله. الدول الكبرى لا تقدم هدايا من هذا النوع. وإدارة بوش ليست مشهورة برقتها. نجح ياسر عرفات في جعل حل القضية الفلسطينية معبراً إلزامياً لأي بحث جدي عن الاستقرار في المنطقة. وفي الآونة الأخيرة تزايد الاعتقاد بأن أي محاربة جدية لمشاعر التطرف والإرهاب تمر بالضرورة بإلغاء الظلم اللاحق بالفلسطينيين الذي تتذرع به كل حركات التطرف القريبة والبعيدة.
نتحدث عن دور عرفات وإرثه من دون ان نتناسى ما قدمه آخرون. كان عالم ما بعد 11 ايلول (سبتمبر) قاسياً وظالماً. وتضافرت عناصر كثيرة لدفع ياسر عرفات الى العزلة. وكان على رجل اسمه محمود عباس ان يقبل التحدي لاحقاً. أن يعيد القضية الى مراكز القرار في العالم. أن يسترد قدرته على حمل مظالم الفلسطينيين الى العواصم الأكثر تأثيراً في حاضر المنطقة ومستقبلها. وانطلاقاً من التفويض الشعبي الذي منح له قام أبو مازن بهذه المهمة التي تزايدت صعوبتها بعد التفويض الشعبي الذي منح لـ «حماس».
ثلاثة عناصر لعبت دورها في دفع إدارة جورج بوش الى الاهتمام بالقضية الفلسطينية. العنصر الفلسطيني المتشكل من إرث عرفات واعتدال عباس وممانعة «حماس» و «الجهاد». العنصر الآخر هو مبادرة السلام العربية التي اسقطت عدداً من الذرائع التي كانت اسرائيل تتغطى بها لتجنب «التنازلات المؤلمة» التي لا بد منها لإقامة سلام يستحق التسمية. والعنصر الثالث شعور الإدارة الأميركية بأن التقدم على طريق السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين ينزع من يدِ إيران وقوى التشدد والتطرف حجة رئيسية ويسهّل احتواءها أو محاصرتها.
لا شيء أسهل من إدانة إدارة جورج بوش. يمكن إعداد لائحة طويلة بأخطائها وارتكاباتها. المثال العراقي حاضر وصارخ. يمكن هجاء سياسة «المحافظين الجدد» ونتائجها الكارثية. يمكن الاشارة الى تراجع مريع في شعبية بوش. ولا بد من الالتفات الى ان زيارته شبه وداعية. وانه جاء يبحث عن السلام فيما تبحث بلاده عن اسم خليفته في المكتب البيضاوي. وعلى رغم ذلك للعرب مصلحة فعلية في الاستمرار في قرع كل الأبواب بحثاً عن السلام الشامل والعادل خصوصاً أن المنطقة شهدت ظهور نزاعات جديدة ويقظة نزاعات قديمة.
من «المقاطعة» التي شهدت آخر أيام ياسر عرفات أعاد الرئيس الأميركي اطلاق «وعد بوش». قد لا تصح توقعاته بالنسبة الى المواعيد. وقد يغادر قبل توقيع جديد و «نهائي». لكن الأكيد هو ان التراجع عن حل الدولتين بات متعذراً وشبه مستحيل. والأكيد ان بوش سيسمع في كل العواصم العربية التي سيزورها ان السلام العربي - الاسرائيلي مفتاح الاستقرار في المنطقة. وسيجد من يلفته الى خطورة محاولة اسرائيل التهويل بالخطر الإيراني لتفادي استحقاقات السلام. يبقى ان ما شاهدناه أمس كان تاريخياً. لقد رأينا جورج بوش في ضيافة ياسر عرفات.