الشخصيات المريبة في الإسلام
من هي الشخصيات المريبة في الإسلام ؟ وما هو دورها ولماذا أسموها بالمريبة ؟ هل بسبب كونها أدخلت مفاهيم جديدة , أم لأنها كانت تحمل نظريات مختلفة في السياق كله ؟
في التاريخ الإسلامي رجال أرتاب بباطنهم, وأشك في ظاهرهم, وأرى أحوالهم مخيفة, وأقوالهم تدعو إلى الريبة, وفيهم من كانت له عند المسلمين منزلة علية في العلم والأدب وفي الزهد والتقوى, وقد اغتر المسلمون بظواهرهم فارتأوا بآرائهم, واحتجوا بأقوالهم , ومشوا على آثارهم ولم يلتفتوا إلى ما كان لهم من ماض ٍ عدائي ونشأة غير حرة ذات حياة مأسورة وضغائن في النفوس مطمورة, فكان هؤلاء أعظم بلاء على الإسلام , وأكبر مصيبة على أهله بما دسوا لهم في أمور دينهم من دسائس , وبما دبروا لهم في أمور دينهم من مكائد فما كاد صدر الإسلام ينقضي حتى دب في المسلمين الخلاف, وظهر منهم التناكر, واستيقظت بينهم الفتن, فأصبحوا عباديد لا تجمعهم جامعة ولا تربطهم من أخوتهم الدينية رابطة
لا نريد هنا أن نتكلم عن كعب الأحبار, ولا عن عبدالله بن سلام, وعبدالله بن سبأ الملقب بابن السوداء من اليهود الذين أسلموا قهراً, ولم يكن إسلامهم إلا مكراً بالإسلام وكيداً لأهله, فإن حالة هؤلاء أصبحت معلومة لأهل العلم في هذا العصر وإن كانت مجهولة في صدر الإسلام , وإنما نريد أن نتكلم عن شخصيات أخر لم تكتشف أيدي الباحثين حتى الآن عن حقيقتهم, ولم يزل المسلمين يتمسكون بأقوالهم ويعولون عليهم في تفسير قرآنهم وتفريع أصول دينهم, كابن إسحاق الذي هو شيخ الرواة وإمامهم, والذي كان بعد استثناء الزهري أول من دوّن السيرة النبوية بأمر الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور, فكان جميع الرواة بعده عيالاً عليه في رواياتهم
وابن إسحاق هذا كابن سيرين كان أبوه أو جده من سبي عين التمر فهو من الموالي فارسي الأصل وقد تكلم الأولون فيه بما يكشف الستار عن شخصيته المريبة, ولكنهم رغم ذلك استمروا على الأخذ بأقواله والاعتماد على روايته
قال ابن دحية: إن ابن إسحاق إذا ذكر الحديث مسنداً لم يقبل منه فكيف إذا ذكر مقطوعاً , وذلك لتجريح أهل العلم له, فقد قال كل من ابن المديني وابن معين: إن ابن إسحاق ليس بحجة, قالوا: ووصفه مالك الكذب, وقال بعضهم: إنما طغى فيه مالك لأنه بلغه أنه قال: هاتوا حديث مالك فأنا طبيب بعلله, فعند ذلك قال مالك: وما ابن إسحاق إنما هو رجل من الدجاجلة أخرجناه من المدينة, وقال بعضهم: إن ابن إسحاق فقيه ثقة لكنه مدلس (1)
نقلنا لك هذه الأقوال من السيرة الحلبية (2) فيفهم منه أن ابن إسحاق كذاب وأنه من الدجاجلة وأن أخرج من المدينة لكذبه ومن الغريب أن يحيى بن سعيد شيخ الإمام مالك كان من جملة الذين يروون عن ابن إسحاق كما ذكر في السيرة الحلبية أيضاً (3) فيلزم من هذا رواية الإمام مالك ملوثة أيضاً بكذب ابن إسحاق الذي هو شيخ شيخه وأغرب من هذا قول من قال: إنه فقيه ثقة لكنه مدلس, وما أدري كيف يكون المدلس ثقة, والتدليس ( من الدلس كفلس معنى الخديعة) هو أن يكتم البائع عيب السلعة عن المشتري , فيكون التدليس في الحديث بكتمان المحدث مغامز الحديث بأن يريك الضعيف صحيحاً والكذب صدقاً ونحو ذلك, فأي ثقة تبقى بابن إسحاق إذا كان مدلساً وإذا كان أهل الحديث في رواياتهم عيالاً على ابن إسحاق فأي قيمة تبقى لهذه الأسانيد التي يعتمدون عليها في صحة الأحاديث فبهذا تعلم صواب ما قلناه فيما تقدم عند الكلام على " الرواية عند العرب" من أنه يجب على المسلمين أن يغربلوا جميع هذه الأحاديث بغربال منسوج من القرآن ومن المعقول , فما بقي منها في الغربال / 1131/ أخذوه وما سقط تركوه ونبذوه
الحسن البصري
ومن هذه الشخصيات التي هي فيما أرى مريبة شخصية الحسن البصري المشتهر بالعلم والتقوى معاً, غير أن هذه الشخصية لم يتكلم عنها الأولون بمثل ما تكلموا به عن ابن إسحاق بل أوسعوها حمداً وثناء كما أشبعوا نفوسهم لها احتراماً أما أنا فأصور لك أولاً هذه الشخصية بما قاله عنها القوم في كتبهم ثم أبدي لك ما يكون لي من ملاحظات, وأترك الحكم عليها لك أيها القارئ الكريم
قالوا: ولد الحسن البصري في المدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب من أبويين غير عربيين كانا من الموالي , والموالي في عرفهم هم الأرقاء الذين كان العرب يسترقونهم إما باغتنامهم في الحروب وإما بشرائهم من مغتنميهم أما أبوه فرجل اسمه يسار كان من جملة السبي الذي سباه خالد بن الوليد في خلافة الصديق من الفرس وهو من أهل ميسان التي هي كورة بين واسط والبصرة, ومنها القرية التي فيها قبر عزير اليهودي وكان يسار هذا مولى لزيد بن ثابت الأنصاري, ولا بد أن يكون اسمه قبل السبي غير يسار لأن الفرس لا تتسمى بمثل هذا الاسم العربي, وقد تعود العرب أن يغيروا أسماء مواليهم فيسمونهم بأسماء حسنة كيسار ورباح وسرور ونحو ذلك من الأسماء الدالة على التفاؤل
وأما أمه فاسمها خيرة وكانت مولاة لأم سلمة زوج النبي, والظاهر أنها انتقلت إلى أم سلمة من زوجها الأول أبي سلمة 0 فالحسن على هذا كان ربيب أم سلمة, وقد ذكروا أن أم سلمة كانت تخرجه للصحابة يباركون عليه قالوا وأخرجته مرة إلى عمر فدعا له بقوله: اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس, وذكروا أنه ربما غابت أمه فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه
قالوا: ولما خرج علي من المدينة إلى الكوفة بعد قتل عثمان كان عمر الحسن أربع عشرة سنة, ثم أن الحسن انتقل إلى وادي القرى( موضع بين المدينة والشام) , قالوا ومن هناك انتقل إلى البصرة وجعلها دار إقامته فنسب إليها, وصار يقال له الحسن البصري وقال صاحب السيرة الحلبية(1): كان الحسن البصري أجمل أهل البصرة, قال: وفي كلام ابن كثير كان الحسن البصري شكلاً ضخماً طوالاً
وقد وصفوه بالفصاحة وبالعلم والتقوى, وذكروا في فصاحته عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: ما رأيت افصح من الحسن البصري , ومن الحجاج بن يوسف الثقفي , فقيل له: أيهما كان أفصح ؟ قال: الحسن أنه كانت له حلقة في مسجد البصرة يرتادها رواد العلم في زمانه, وكان واصل بن عطاء من جملة من يحضرون مجلسه يتذاكرون في المسائل العلمية من أصول الدين وفروعه, فكان واصل من الآخذين عن الحسن البصري قالوا: ولما أثبت ابن عطاء المنزلة بين المنزلتين أمره الحسن باعتزال مجلسه, فاعتزل هو وبعض أصحابه وألفوا حلقة أخرى في ناحية من نواحي المسجد, فأطلق الناس عليهم اسم المعتزلة, كأنهم اعتبروا مفارقين للجماعة التي كانت تضمها حلقة الحسن ومما قالوه فيه: إنه أدرك نيفاً ومائة من الصحابة , وإنه لم يروِ إلا عن أربعة عشر منهم
ومن أغرب ما قرأته في وصفه ما ذكروه في تقواه من أنه إذا أقبل كأنه أقبل من دفن حميمه , وإذا جلس فكأنه أمر بضرب عنقه, وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له , وهذا لعمر الله أكبر ما يدعو إلى الريبة من أحواله هذا ما استطعنا أن نثبته لك من أقوالهم تصويراً للشخصية المسماة بالحسن البصري, ولنا في هذه الأقوال ملاحظات تتعلق بتلك الشخصية من حيث توضحها وتزيل عنها غموضها تجاه الأنظار فنقول:قد علمنا من أقوالهم هذه أن للحسن ثلاثة مواطن أولها المدينة التي هي مسقط رأسه ومحل نشأته الأولى, والثاني وادي القرى الذي انتقل إليه بعدما ترعرع والثالث البصرة التي انتقل إليها من وادي القرى فأقام بها حتى توفي غير أننا لم نعلم متى انتقل إلى وادي القرى وكم أقام فيه, ومتى انتقل منه إلى البصرة, كما أننا لم نعلم السبب الذي دعاه إلى ترك المدينة والذهاب إلى بلد لا أهل له فيه ولا سكن كوادي القرى وقد ذكروا أن علياً لما خرج من المدينة ذاهباً إلى الكوفة بعد قتل عثمان كان عمر الحسن البصري أربع عشرة سنة, فمن البعيد أن نقول إن ما وقع في المدينة من الاضطراب بفتنة قتل عثمان هو الذي حمله على الخروج منها إلى وادي القرى, لأن غلاماً كهذا لا يجوز أن يكون من تلك الفتنة في العير ولا في النفير, كما يستبعد من غلام مراهق كهذا أن يترك موطنه الذي نشأ فيه ويخرج منه وحيداً إلى بلد آخر لا أهل له فيه ولا سكنى, خصوصاً مثل وادي القرى المأهول باليهود بناء على أن عمر لم يجل اليهود منه لأنه ليس من الحجاز وسواء كان مأهولاً باليهود أم بالمسلمين لا يصلح أن يكون مباءة لمنقطع غريب من الصبيان
والذي يظهر لنا أن خروجه إلى وادي القرى لم يكن إلا بعد قتل علي في الكوفة وانتقال الأمر إلى بني أمية في الشام, أو لم يكن إلا عند وقوع فتنة الحرة في المدينة في عهد يزيد بن معاوية, فإن هذه الفتنة الدامية المتهتكة مما يدعو إلى الجلاء عن المدينة والقرار بالنفس من عارها وأوارها , خصوصاً لمن كان كالحسن البصري من الموالين لعلي بن أبي طالب, يدل على ذلك اختياره وادي القرى دون غيره من بلاد الشام أو بلاد العراق, فإن وادي القرى واقع بين بين , فلذا كان بمعزل من تطاحن الأحزاب السياسية في ذلك العهد, فاختاره ليكون دار اعتزال له دار إقامة وهذا يدل على أنه شديد التحفظ في حياته وأنه كان على جانب عظيم من الحزم والنظر في عواقب الأمور والأخذ بالحيطة فيها, وإلا فليس من المعقول ولا من المألوف عادة أن يترك بلا سبب اضطراري قاهر منشأة في المدينة التي هي إذ ذاك عاصمة الإسلام والمسلمين ويذهب إلى قرية لا أهل له فيها ولا سكنى
والظاهر إن إقامته في وادي القرى لم تطل كثيراً , وأنه أقام هناك ريثما هدأت الفتن واستتب الأمر للأمويين في جميع أنحاء البلاد الإسلامية, فإقامته هناك على الأكثر لا تستغرق إلا سنوات معدودة, ولكن قد يقال إنه لما حان أن يترك الإقامة في وادي القرى لماذا ذهب إلى العراق ولم يرجع إلى المدينة التي هي مولده وأول أرض مس جلده ترابها والتي فيها مواليه ومرافقه ومعارفه, أو لماذا لم يذهب إلى الشام التي هي بصيرورتها مقراً للخلافة الإسلامية قد أصبحت مركزاً دينياً ودنيوياً للمسلمين
فذهابه إلى العراق فيه ما يدعو إلى الريبة بادئ الرأي ذلك لأن العراق مهما استتب الأمر فيه للأمويين بواسطة زياد وابنه والحجاج فإنه قد استمر على ما كان عليه من قبل , فبقي ولم يزل إلى يومنا هذا مرجلاً يغلي بالأحقاد والتحزبات المذهبية التي أوجدتها فتنة قتل عثمان وفتنة يوم كربلاء للعلويين ضد الأمويين
والذي يظهر لنا أن الحسن البصري إنما اختار العراق لنفسه موطناً ثانياً بعد المدينة موطنه الأول منها أنه يمت بنسبه إلى أبناء فارس والعراق من بلاد فارس, ومنها أن العراق كان موطن أبيه يسار لأن أباه من أهل ميسان, كما تقدم ذكره, يؤيد ذلك اختيار البصرة من العراق لأن ميسان من أعمال البصرة, فإن كل واحدة من هاتين المدينتين أعني البصرة والكوفة قد اختطها المسلمون في أيام عمر لتكون معسكراً للجيوش الإسلامية , فكان كل منها مركزاً تزحف منه الجيوش إلى الشرق, فلولا أن البصرة هي موطن أبيه الأصلي لاختار الكوفة أنها كانت مقر الخلافة في أيام علي فصارت أهم من البصرة وأجمع للقبائل العربية فيها
ومنها أنه لما كان من الموالين لعلي بن أبي طالب كان علوياً في نزعته السياسية, فلذلك اختار العراق على الشام وعلى الحجاز, لأن العراق كما قلنا كان ولم يزل مباءة للتحزب السياسي العلوي, ولا ريب أن كل من يمت بنسبة إلى الفرس لا يسعه إلا أن يكون علوي النزعة في تحزبه السياسي لأسباب شرحناها وأوضحناها في رسالتنا العراقية فلا حاجة إلى تكرارها هنا
نزعته الفارسية
لم أقف فيما عندي من الكتب على شيء من حياة أبيه ولا في وفاته, فهل أدرك الحسن أباه أو توفي عنه وهو صغير لم يفطن 0 ومهما كان فلا بد أن الحسن لما بلغ أشده وصار يفطن للأمور عرف بنفسه وعلم أنه من الموالي وأنه من أبوين غير عربيين, والمولى في ذلك العهد كان في شرفه لا يساوي سائر الناس من الأحرار رغم أن الإسلام ساوى بين جميع المسلمين0 فهذا زيد بن حارثة كان عربياً وكان من السابقين الأولين في الإسلام , وكان رسول الله قد تبناه حتى كان يدعى زيد بن محمد , ولكنه رغم ذلك كله أبت زينب بنت جحش أن يكون لها بعلاً عندما خطبها لأنها حرة من قريش وهو من الموالي , لولا أن رسول الله أنزل في ذلك قرآناً وأمر أولياءها بالقبول فقبلوا (1)
هذا وزيد بن حارثة عربي صريح, فكيف يكون الحال إذا كان المولى غير عربي بل فارسياً كالحسن البصري والمولى أي العبد كان عند العرب إما يمتهن في خدمة سيده أو يكاتب على مال معين يدفعه إلى سيده فإذا سعى وأدى ذلك المال عتق, ويكون ولاؤه بعد عتقه لسيده أيضاً بحيث يرثه إذا توفي
لاريب أن الحسن لما بلغ أشده وفطن للأمور عرف نفسه أنه من الموالي وأنه من أبوين غير عربيين وأنه لا حياة له عند العرب غير حياة الموالي, فليس من المستبعد أن يشعر في نفسه بشيء من السخائم التي كانت تحتدم في قلب أبي لؤلؤة وفي قلب الهرمزان وغيرهما من أبناء فارس الموتورين
غير أن الحسن البصري, كما تدل عليه أقواله وأفعاله, كان عاقلاً حازماً شديد التحفظ , واسع الحيطة, فلذا استطاع أن يسلك في حياته الدينية مسلكاً بدعاً قد اتخذ فيه كل ما يلزم لإخفاء ما في قلبه من ضغينة , وستر ما في نفسه من نزعة قومية غير عربية, حتى كان أهل البصرة يجلونه إجلالاً لا مزيد عليه, ويعدونه في الطليعة من أئمتهم , حتى أنه لما توفي شيعوا جنازته تشييعاً لم يسبق له مثيل , فقد قيل : إن البصريين خرجوا بجنازة الحسن بعد أداء صلاة الجمعة, فلما حلت صلاة العصر لم يحضر في مسجد البصرة أحد لانشغال الناس في أمر الجنازة قالوا: ولم يعهد أن فقد المسجد صلاة من الصلوات المكتوبة تقام فيه الجماعة إلا عصر ذلك اليوم
يتبع
(1) انظر الجامع في الجرح والتعديل , ( جمع السيد أبو المعاطي النوري, محمد مهدي المسلمي , احمد عبد, والي المزملي) , عالم الكتب , بيروت0 2/ 444 0449 – (2) السيرة الحلبية , 2/ 183-(3) ن0م0 – (1) السيرة الحلبية- (1) السيرة الحلبية3/ 320 –
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب معروف الرصافي0
|