أميركا: عنصرية الأقليات
أول استفتاء أميركي في نوعه حول رأي الأقليات بعضها بالبعض
تظاهرة بلويزيانا بالولايات المتحدة مضادة للعنصرية (رويترز)
واشنطن: محمد علي صالح
في الاسبوع الماضي، قدم سيرجيو بندكسون مدير مركز «نيو أميركا ميديا» نتائج اول استفتاء في نوعه باميركا، وهو حول رأي الاقليات في بعضها البعض، في نادي الصحافة الوطني في واشنطن. ويشكل البيض في الولايات المتحدة نسبة 74 في المائة من السكان، فيما يشكل السود نسبة 11 في المائة، واللاتين (من المكسيك، واميركا الجنوبية واميركا الوسطى) نحو 10 في المائة، اضافة الى الآسيويين (من الصين، وفيتنام، وكوريا، والفلبين) الذين يشكلون نسبة 5 في المائة.
وحتى الآن، كانت كل استفتاءات الرأي المتعلقة بالاعراق حول رأي البيض في السود (والعكس)، ورأي البيض في اللاتينيين (والعكس)، ورأي البيض في المهاجرين من آسيا (والعكس). وخلال اكثر من خمسين سنة من الاستفتاءات، كان رأي الاغلبية البيضاء في الاقليات عبارة عن خليط من التعالي والتعاطف. قبل عشر سنوات اصدر موريس بيرغر كتاب «العرق وخرافة ان يكون الشخص ابيضَ». وقال في كتابه ان سبب التعالي هو اعتقاد كل البيض تقريبا بأنهم اصحاب الحضارة الاميركية. قبل خمسمائة سنة، حمل اجدادهم من اوروبا جذورها. وخلال الثلاثمائة سنة الاخيرة طوروها وجعلوها اكبر واقوى حضارة في تاريخ العالم. لكن خلال الخمسين سنة الماضية، اعترف الاحفاد بأن اجدادهم اخطأوا عندما اشتركوا في تجارة الرقيق واضطهدوا السود وعزلوا اليهود واعتقلوا الآسيويين واحتقروا المهاجرين من اميركا اللاتينية..
ومنذ اكثر من اربعين سنة، بعد مظاهرات الحقوق المدنية التي قادها القس الاسود مارتن لوثر كينغ في عهد الرئيس جونسون، صدرت قوانين حكومية كثيرة لضمان مساواة السود بالبيض، سميت «قوانين المساواة».
وخلال السنوات التالية، صدرت قوانين اخرى لتقديم ضمانات خاصة ونسب معينة للسود في مجالات التعليم والتجارة سميت «قوانين الامتياز» (افيرماتيف اكشن: العمل الايجابي).
ولكن خلال العشرين سنة الماضية، بدأ تذمر وسط البيض، ليس حول «المساواة»، ولكن حول «الامتيازات». فصدرت قوانين حكومية تقلل من هذه الامتيازات بعد ان رفع بعض البيض قضايا بأن هذه الامتيازات، التي كان الهدف منها القضاء على التفرقة العنصرية، صارت هي نفسها تفرقة عنصرية.
طبعا تذمر السود قبل البيض. تذمروا من تجارة الرقيق والتفرقة العنصرية وسوء المعاملة. ولا يزالون متذمرين، لأنه رغم ضمانات المساواة الدستورية والقانونية، توجد «تفرقة صامتة».
وطبعا، كتب السود عن هذا الموضوع قبل البيض. ومن أوائل الكتب التي اصدروها كتاب «اعادة النظر في دور السود بأميركا» للاستاذ الجامعي الاسود دو بوي (من اوائل المثقفين السود، وكان اول اسود ينال دكتواره من جامعة هارفارد). اصدر كتابه سنة 1935، وقال فيه: «مشكلتنا مع البيض ليست سياسية او اقتصادية او حتى عنصرية. مشكلتنا معهم نفسية. هم الذين فرضوا علينا لوننا. وهم الذين سمونا سودا. وهم الذين يفرقون ضدنا لاننا سود». واضاف: «لم تكن المشكلة اقتصادية بدليل ان العامل الابيض، وهو لا يزيد عن العامل الاسود في التعليم، يتقاضي اكثر من اجر الاسود. يعني هذا ان اللون، واللون وحده، هو المشكلة».
وفي وقت لاحق، بدأ البيض، وخاصة اساتذة الجامعات، يكتبون في هذا الموضوع. أخيرا، كتب ديفيد رودنغر كتاب «اجور البيض»، اكد فيه ما قال دو بوي قبل سبعين سنة. وقال: «يفضل البيض البيض.. ليس فقط بسبب لونهم، ولكن ايضا، بسبب ضمان ولائهم والثقة بهم». وهكذا، صارت التفرقة العنصرية جزءا من التراث الأميركي، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا (وهي، طبعا، جزء من التراث الانساني).
أما الجديد خلال العشرين سنة الماضية هو تحول المشكلة العنصرية من بيض وسود الى بيض في جانب، وسود ولاتين وآسيويين في الجانب الاخر، وذلك بسبب زيادة الهجرة من اميركا اللاتينية وآسيا. واوضح الاستفتاء الاخير وسط هذه الأقليات مشكلة اخرى، وهي انه اذا كانت نظرة البيض للاقليات خليط من تعال وعطف ربما بدرجتين متساويتين، فان نظرة الاقليات لبعضها بعضا تعال كثير وعطف قليل. واتفقت مجموعات الاقليات الثلاث (السود واللاتين والآسيويون) على الآتي: اولا: يفضلون التعامل مع البيض على التعاون مع بعضهم بعضا. ثانيا: ينظرون نظرة تعال الى بعضهم بعضا اكثر من تعالي البيض عليهم. ثالثا: يخافون من بعضهم بعضا اكثر من خوفهم من البيض (ويخاف اللاتين والآسيويون من السود اكثر من العكس).
واوضح الاستفتاء ان سبب هذا الخوف وسط الاقليات هو نفسه السبب، خلال الثلاثمائة سنة الماضية بين البيض والسود: «ستيريوتايب» (النظرة النمطية القائمة على الجهل، وعلى عدم معرفة التفاصيل، وعلى نظرة عامة لانواع البشر).
وقال تاو جيونغ، رئيس تحرير «كوريا تايمز» باللغة الكورية في ولاية كاليفورنيا، الشيء نفسه. وكان في السنة الماضية، قد واجه مشكلة كبيرة عندما نشرت صحيفته رأيا عنوانه: «لماذا اكره السود؟» وكتب صاحبه عن متاجر الكوريين في احياء السود، وعن تهديد السود لاصحاب هذه المتاجر (لم يكتب عن تعالي الكوريين على السود في احيائهم. ولم يكتب عن استغلال الكوريين للسود).
وفي السنة الماضية، واجهت صحيفة «سنغ تاو» باللغة الصينية في ولاية كاليفورنيا، مشكلة مماثلة عندما نشرت ان اغلبية الجرائم، حتى في الحي الصيني يرتكبها السود. وتشير احصاءات ان السود يرتكبون جرائم أكثر من اي مجموعة عرقية اخرى وحتى بين مجموعاتهم فجرائم السود يرتكبها سود. ولكن الجاليات الآسيوية (الصينية والكورية والفيتنامية والفلبينية) تعاني أيضا من قلة التعليم، وقلة الفرص السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكنها لم تصل بعد الى المرحلة التي وصل اليها البيض قبل خمسين سنة، وهي الاعتراف باخطاء كثيرة ارتكبت في حق السود، والعمل على ايجاد حلول لها.
وفي هذا، قالت صحيفة «سنغ تاو» باللغة الكورية في ولاية كاليفورنيا: «لا نعرف ماذا نقول؟ هل نركز على جرائم السود ضد الكوريين، ونعمق المشاكل؟ ام هل لا نقول شيئا ضد السود حتى لا نؤذي مشاعرهم، وفي الوقت نفسه، نظلم الكوريين؟».
لكن مع التفرقة بين الاقليات، فقد ظهر بارق أمل في الاستفتاء. وقال سيرجيو بندكسون، الذي قدم نتائج الاستفتاء في الاسبوع الماضي: «يجب ان نتخلص من الاوصاف القبيحة التي نوصف بها بعضنا بعضا». وقال بدرو رويا، رئيس تحرير صحيفة «لوبنيون» باللغة الاسبانية في ولاية كاليفورنيا: «يجب ان نعتبر هذا تقريرا مهما، ويجب ان نستفيد منه».
وقال آنه دو، نائب رئيس تحرير صحيفة «نغو فيات» باللغة الفيتنامية في كاليفورنيا: «لا يكفي ان تتحدث صحف كل اقلية عن هذه الاقلية. لابد ان تتحدث عن الاقليات الاخرى بهدف معرفة مشاكلها والتعاون معها».
وقالت ماريا مييا، رئيسة تحرير «ال منسيارو» باللغة الاسبانية: «يجب ألا نقول ان هذه صحيفة لاتينية، وهذه آسيوية، وهذه سوداء. يجب ان تعمل كل الصحف لتوحيد المجتمع». ماذا قال السود امام التفرقة الواضحة ضدهم، ليس فقط التفرقة القديمة من جانب البيض، ولكن ايضا التفرقة الجديدة من جانب الاقليات؟ قالت جيل بيركلي، رئيسة تحرير «صن ريبوتر»: «لا نقدر على ان ندافع عن الخطأ. لكننا قبل ذلك، يجب ان نتأكد هل هذا صحيح او خطأ؟ هل يرتكب السود كل هذه الجرائم؟» واجابت عن سؤالها: «لن تكن هذه مفاجأة بالنسبة لنا. لكن فيها مبالغات. والامل هو ان يتحسن وضع السود في المستقبل».
وركزت كثير من صحف الاقليات على هذا الامل. وحتى الاستفتاء نفسه اوضح ان نسبة 60 في المائة وسط كل الاقليات قالت ان العلاقات ستكون احسن خلال العشر سنوات القادمة.
ولكن لماذا صار السود ضحايا «التفرقة الجديدة» بعد ان ظلوا ضحايا «التفرقة القديمة» لثلاثمائة سنة؟ اولا: تراث تجارة الرقيق. ثانيا: تراث التفرقة. ثالثا: اقل الاقليات تعليما. رابعا: اقل الاقليات ثروة. ويعني هذا الامر شيئين: اولا: الاسباب خليط من عوامل تاريخية واقتصادية وسياسية واجتماعية. وثانيا: تدور العوامل في حلقة مفرغة، لأن الجهل يزيد ولأن الجرائم تزيد الجرائم. في الاستفتاء، قال نصف اللاتينيين والآسيويين انهم «يخافون بصورة عامة» من السود، وذلك لانهم «مسؤولون عن معظم الجرائم«. وقال نصف السود واللاتينيين ان الاسيويين «لا يحترموننا، وينظرون الينا نظرة تعالٍ». وقال ثلثا السود ان المهاجرين اللاتينيين (وخاصة غير القانونيين) يحرمونهم من فرص العمل، ويعاملونهم بتفرقة. وقالت ذلك نسبة اقل من الآسيويين. الا ان غالبية الآسيويين واللاتين قالت ان «كل اميركي يجد امامه فرصا متساوية للنجاح»، بينما أيد ثلث السود فقط هذا الامر. وصار واضحا، كما قال دو بوي في كتابه، ان المشكلة «نفسية» بالاضافة الى انها اقتصادية وسياسية واجتماعية.
ما هو رأي البيض في هذه المشاكل بين الاقليات؟
كتب أحدهم: «كانوا يقولون اننا سبب كل مشاكل اميركا. لكنهم يقولون الآن انهم هم سبب المشاكل. كانوا يقولون اننا نتعالى عليهم، لكنه اتضح الآن بأنهم يتعالون على بعضهم بعضا». واضاف: «تحتاج نتائج هذا الاستفتاء الى دراسات عميقة. لماذا تقول الاقليات انها تثق بنا اكثر من ثقتها ببعضها بعضا؟ لماذا يثق المضطهد بمن يضطهده؟».
ولكن هذا الكلام لا تقوله أغلبية البيض حتى ولو كانت تراه صحيحا، وربما كان صحيحا. وتعتبر اغلبية البيض قول مثل هذه الاشياء غير لائق، وغير مؤدب. ولهذا، ومن باب التأدب، يفضل البيض عدم التركيز على السلبيات. ولهذا كان واضحا في عناوين الصحف الرئيسية التي نشرت نتائج الاستفتاء انها تريد الموازنة بين السلبيات والايجابيات في التقرير:
كان عنوان «ميامي هيرالد»: «اختلافات وامل وسط الاقليات». وعنوان «واشنطن بوست»: «توتر، لكن هناك قيما مشتركة بين الاقليات». وعنوان «شيكاغو تريبيون«: «الاقليات منقسمة لكنها متفائلة». فيما ركزت صحف يمينية، مثل «واشنطن تايمز» على السلبيات، وكان عنوانها: «انقسامات وسط الاقليات». كما ان وكالات الاخبار التي نقلت التقرير الى انحاء العالم ركزت على السلبيات أيضا. وقالت وكالة الانباء الفرنسية: «الاقليات لا تثق ببعضها بعضا». وقالت وكالة يونايتد برس انترناشونال: «غياب الثقة وسط الاقليات».
وهكذا، يتأكد ان النظرة الاعلامية العامة تركز على السلبيات لأنها تعطي للخبر قيمته. غير ان هذا الامر يؤكد نظرية النمطية، وهي ان الجهل والتعالي يساهمان في زيادة التفرقة، ليس فقط التمييز العنصري، بل ايضا الديني والاجتماعي... وليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن في كل العالم. وليس فقط في الوقت الراهن، ولكن عبر التاريخ.
http://www.asharqalawsat.com/details.asp?s...amp;issue=10615