د. كامل النجار

السلطة الرابعة وحرية الرأي

مضيق البسفور الذي يوصل بين البحر الأسود والأبيض المتوسط، يفصل بين عالمين لا يمتان لبعضهما بأي صلة: العالم الغربي الديمقراطي المسيحي الذي يتبوأ فيه الفرد مكاناً مرموقاً يصون حقوقه الفكرية والمادية وسلامته الجسدية، والعالم الشرقي الذي تغيب عنه الديمقراطية باستثناء اليابان وكوريا الجنوبية والهند وربما ماليزيا. هذا العالم الشرقي الذي يصول فيه الجهل ويجول، و تتحكم فيه نُظم حكم تستغل هذا الجهل باسم الدين أو باسم الوطنية أو القومية، يُهمّش فيه الفرد وتغيّب كل حقوقه. في هذا العالم الشرقي تحتل الإشاعة ونظرية المؤامرة المرتبة العليا في التحكم في تصرفات الناس. ويرجع السبب في انتشار الإشاعات إلى غياب الشفافية والصدق في أجهزة الحكم، وإلى غياب الصحافة الحرة التي هي بمثابة السلطة الرابعة في المجتمعات الغربية، وهي الضامنة للدساتير والقوانين التي لا يستطيع الحكام التلاعب بها خوفاً من كشف أمرهم في الصحافة. هذه الصحافة وكل وسائل الإعلام الأخرى مستقلة تماماً عن الحكومات ولا يحكمها قانون صحافة أو وزارة إعلام وإنما تنظم وتحكم نفسها. والحكومات الغربية لا تستطيع أن تملي على الصحف ما تكتب أو ما تتجنب الخوض فيه. ولذلك عندما نشرت صحيفة ''يولاند بوستن'' الدنماركية في أكتوبر الماضي كاريكاتيراً عن النبي محمد وطالب السفراء العرب في الدنمارك مقابلة رئيس الوزراء، اعتذر الأخير وأوضح للسفراء أنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء بحق الصحيفة لأن القانون الدنماركي يكفل للجميع حرية التعبير سواءً بالكلام أو الرسم. وأوضح لهم أن المحكمة هي الملجأ للمتضررين من وسائل الإعلام. فكل من يعتقد أن وسائل الإعلام قد شهّرت به أو أساءت إليه يستطيع أن يرفع دعوى قضائية ضدها. وهناك عددٌ غير قليل قد فعلوا ذلك وكسبوا قضاياهم. ولكن في العالم الشرقي حيث تتقوقع المجتمعات الأبوية وحيث الحكومة هي الآمر والناهي في كل شيء، فإن الحكومة تفرض على الصحافة خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها، وتحجب وتصادر ما تريد. ومن البديهي أن تلجأ هذه الحكومات وسفراؤها إلى حكومات البلدان الغربية لتطلب منها عقاب الصحف إذا كتبت شيئاً مسيئاً عن البلاد الشرقية ومعتقداتها، اعتقاداً منهم بأن الحكومات الغربية تستطيع أن تفعل كما يفعلون في بلادهم. وقد قال العقيد معمر القذافي إنه سحب سفيره من الدنمارك لأن الحكومة الدنماركية قد تقاعست عن فعل أي شيء تجاه الصحيفة. ولا شك أن العقيد يعتقد أن الدنمارك مثل ليبيا تستطيع حكومتها أن تزجر الصحيفة وتصادرها وتحجبها عن الصدور عدة أيام أو أسابيع. ولكن الحكومات الغربية نفسها عندما تتعرض إلى انتقاد في وسائل الإعلام تلجأ إلى المحكمة أو إلى مجلس إدارة الإعلام، كما حدث مع الحكومة البريطانية حديثاً عندما أذاعت هيئة الإذاعة البريطانية ( البي بي سي ) برنامجاً تلفزيونياً يتهم رئيس وزراء بريطانيا توني بلير بتجميل وتزوير ملف أسلحة الدمار الشامل العراقية حتى يجد سبباً لإقناع البرلمان البريطاني بمساندة الحرب على العراق. ورغم اعتراض توني بلير وتضرره من البرامج لم يستطع أن يأمر هيئة الإذاعة البريطانية بالاعتذار أو التنكر لما قالت، واضطر إلى الشكوى إلى مجلس إدارة البي بي سي.
وكنا نعتقد أن الحكومات العربية قد تعلمت هذا الدرس عندما أذاعت هيئة الإذاعة البريطانية في أواخر السبعينات فيلم " موت أميرة " الذي أثار حفيظة الحكومة السعودية التي طلبت من الحكومة البريطانية أن تعاقب البي بي سي على عرض ذلك الفيلم، ولكن الحكومة كانت عاجزة عن ذلك، فقطعت الحكومة السعودية العلاقات الدبلوماسية مع المملكة المتحدة ثم أعادتها فيما بعد. ولكن يبدو أن الحكومات العربية لم تتعلم الدرس، فقد أرغت وأزبدت أغلب الحكومات العربية واستدعت بعضها السفراء الدنماركيين لديها للاحتجاج، و استدعت الحكومة السعودية سفيرها في الدنمارك، واحتجت بعض الحكومات الأخرى علناً ودعت بعضها إلى مقاطعة البضائع الدنماركية، كردة فعل على نشر الصحيفة الدنماركية كاريكاتير النبي محمد. فمن الذي يتضرر بهذه المقاطعة؟ المتضرر الأول هو المزارعون الدنماركيون الذين ينتجون الجبن والحليب والزبدة. والمتضرر الثاني هو شركات تصدير هذه البضائع من الدنمارك وموظفو هذه الشركات. والمتضرر الثالث هو المستورد العربي وشركات السوبرماركت في هذه البلاد. ثم المتضرر الأخير هو المستهلك العربي الذي قد يُفضّل المنتجات الدنماركية على غيرها. فهل شارك أي من هؤلاء في نشر الكاريكاتير المسيء إلى النبي محمد؟ طبعاً لا، ولكن هذه روح العقاب الجماعي الذي تعود عليه الشرقيون، سواء من الأديان أو من الحكومات المستبدة مثل حكومة صدام حسين عندما أعدم حوالي 148 شخصاً من مدينة الدجيل عندما تعرض فيها إلى محاولة اغتيال فاشلة، أو عندما أطلق الغازات السامة على الأكراد في حلبجة عام 1988 وقتل حوالي خمسة آلاف شخصٍ.
وكنا نتوقع كذلك أن تكون الحكومات الشرقية تعلم أن الصحف الغربية تعتمد في موازنتها على الإعلانات التي تُنشر فيها وتجلب لها أغلب دخلها. وأكثر ما تحرص عليه إدارة الصحف هو العلاقة الطيبة مع الشركات التي تُرسل إليها الإعلانات. فلو هددت هذه الشركات بسحب إعلاناتها من الصحيفة، لا تجد الصحيفة بداً من الخضوع لما تطلبه هذه الشركات. ولذا كان الأجدى، والأقل ضرراً لكل الناس، هو أن تلجأ الحكومات الشرقية إلى الشركات الدنماركية المصدرة إلى بلادهم وتهددها بعواقب المقاطعة إن هي لم تسحب إعلاناتها من الصحيفة المذكورة، وعندئذ لاضطرت الصحيفة للاعتذار عما فعلت دون أن يتضرر أي شخص. وهذا هو الأسلوب الذي تتبعه جماعات الضغط (اللوبي ) اليهودية في أمريكا وأوربا. ولكن هذا الأسلوب الهادي والذي يجري وراء الكواليس لا يتناسب مع العنتريات العربية التي لا بد أن تظهر بمظهر القوة أمام شعوبها.
والغريب أن الشعوب العربية وحكوماتها، بل الشعوب الإسلامية قاطبة، تبيح لنفسها أن تسيء إلى معتقدات الغير دون أي اعتبار لمشاعرهم على أساس أن الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح، وأن التوراة والإنجيل كتابان محرفان لا قيمة لهما، وبالتالي كل الكنائس والمعابد اليهودية ليست ذات قيمة ولا يجوز أن يُسمح ببنائها أو ترميمها في البلاد الإسلامية. وقد هدم المسلمون الأوائل مئات الكنائس في البلاد التي احتلوها وأجبروا أهلها على دخول الإسلام بعد أن فرضوا عليهم الجزية والخراج لأن دينهم المسيحي ليس ديناً صحيحاً وقد جاء الإسلام ليحل محله. ولم يعتبر هؤلاء المسلمون أن هدم الكنائس إساءة لمعتقدات الغير. وحتى في عصرنا هذا ما زالت الكنائس تُحرق وتُفجر في العراق وفي تركيا وفي إندونيسيا وفي الفلبين، ولا يُسمح للمسلمين بدخولها على أساس أنها أماكن عبادة الشيطان وأنها نجسة ولا يصح لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدخلها. ويسيء الفقهاء المسلمون إلى المسيحيين عندما يصدرون الفتاوى التي تُحرّم على المسلمين تهنئة المسيحيين بأعيادهم أو زيارتهم في المناسبات، على أساس أن من تشبه بالكفار فهو منهم. وإذا كان هذا لا يكفي ولا يُعتبر إساءةً لمعتقدات الغير، فقد حطم حكام أفغانستان المسلمون (طالبان ) تماثيل الإله بوذا الضخمة في أفغانستان رغم احتجاج الأمم المتحدة والدول الغربية واليابان والهند والصين. ولم نسمع دولة إسلامية واحدة احتجت على هذا العمل المشين والذي أساء إلى معتقدات نصف سكان العالم من البوذيين في الهند والصين واليابان و فيتنام وكمبوديا وغيرها. وهذه التماثيل كانت إرثاً ثقافياً لكل العالم، وهدمها الطالبان بمدافعهم في دقائق، وصمت العالم المسلم ولن ينبس ببنت شفه. ولكن عندما ترسم صحيفة غربية رسماً كاريكاتيرياً عن النبي محمد تثور جميع الأمم الإسلامية لأن هذا العمل المشين يسيء إلى مليار مسلم أما الملياران والنصف أو أكثر الذين أساء إليهم تحطيم التماثيل فلا وزن لهم.
والشعوب الشرقية التي تحركها الإشاعات عاثت في الأرض فساداً وحرقوا المكتبات ودور النشر التي نشرت أو باعت كتاب سلمان رشدي " آيات شيطانية " رغم أن تسعة وتسعين بالمائة منهم، بما فيهم الإمام الخميني، لم يقرؤوا الكتاب ولم يعرفوا كيف أساء الكاتب إلى النبي محمد. لكنهم سمعوا أن الكتاب يسيء إلى النبي المعصوم. وتكرر نفس الشيء عندما نشرت مجلة نيوزويك الأمريكية خبراً مفاده أن بعض الجنود في معتقل غوانتانمو في كوبا قد أساءوا إلى المصحف، فخرجت المظاهرات تهتف " الموت لأمريكا ويحيا الإسلام " وتزاحم آلاف المسلمين في بنغلاديش واليمن والسودان وأفغانستان التي مات فيها أكثر من عشرة أشخاص نتيجة الدهس بالأرجل في المظاهرات. وفي بنغلاديش قال مولانا محيي الدين خان، رئيس جمعية علماء الإسلام، أمام الحشود قبيل قيادته المسيرة الاحتجاجية: " بوش وشارون.. كونا على حذر، وتصرفا بطريقة مهذبة وإلا فستجدون موجات بشرية إسلامية زاحفة على عاصمتي بلديكما " ( الشرق الأوسط 4 يونيو 2005). ولا بد أن الرئيس بوش قد ارتعدت أوصاله من هذا التهديد من بنغلاديش التي تعيش على مساعدات أمريكا من القمح. ولم يكن الرجرجة والدهماء هم الوحيدين الذين احتجوا، فقد قالت منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم 57 دولة وتتخذ من السعودية مقرا لها إنها بعثت برسالة إلى وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس تعبر فيها عن "دهشتها الكبيرة وسخطها" لهذه الأنباء. (إيلاف 14 مايو 2005). وأين كانت هذه المنظمة عندما حطمت طالبان الرموز البوذية ؟
ويبدو أن العصمة الدينية وجعل الأفراد رموزاً للدين لم تقتصر على الرسول محمد والخلفاء الراشدين ولكنها امتدت لتشمل حتى الساسة الدينيين. فقد أعتصم أكثر من أربعمائة شخص أمام مبنى جريدة الأيام البحرينية في العاصمة المنامة يوم الثلاثاء 26 يوليو 2005، احتجاجا على رسم كاريكاتيري نشرته جريدة الأيام على صفحتها الأخيرة في عددها الصادر في اليوم السابق عن الانتخابات الإيرانية الأخيرة، واعتبره المحتجون إهانة موجهة لمرشد الجمهورية لإسلامية السيد على خامنئي.( إيلاف 28 يوليو 2005). فيبدو أن الرموز الدينية الشيعية من خامنئي وسياستاني يمكنهم الخوض في السياسة وتأييد بعض المرشحين والقوائم الانتخابية لكنه لا يحق لأحد أن ينتقد تصرفاتهم السياسية.