يقول المثل الصيني ان الانسان يملك العديد من الوجوه، وتؤمن الثقافة الافريقية بالقناع الذي يبدل شخصية المرء ليتلبس شخصية اخرى يقوم بأداء دورها عن قناعة كاملة. في الحياة الحديثة يأخذ القناع شكلا اخر عندما نرتدي بدلة رسمية لنمارس عمل الجندي او الضابط، فتصبح الوظيفة هي شخصيتنا الجديدة. القناع الحديث له جذور عميقة في تاريخنا البشري منذ فترة الطوطمية المبكرة، إذ انه يعطينا القدرة على خداع النفس وتقمص دور الالهة. مع الزمن لم نعد نحتاج الى قناع، تماما كما اننا لم نعد نحتاج الى صنم لتمثيل الالهة وتقمص دورها، لقد اصبحت " التقمص الروحي والفكري" كافيا للحلول محل التماثيل والاقنعة، الامر الذي نجد تجسيده في الاديان الحديثة ووظيفة الشيوخ والكهنة ورجال الدين الذين اصبحوا يتقمصون دور الله بطريقة مبتكرة، بالرغم من انها لازالت لديها سمات مشتركة مع الاصل الذي خرجت عنه
في غرب افريقيا حيث البيئة جافة، لازال يقوم الفلاحين الافريقيين من شعب بيديك (Bediks/Budik peopole) بالإستعانة بثلاثة اقنعة حكيمة من اجل ضمان محصول جيد. الاقنعة تعبر عن ارواح الطبيعة ومهمتها تنظيف الجو من الاعمال السيئة لسكان القرية من خلال حفلة كبيرة. الاقنعة ترمز الى العلاقة التي لاتنفصم بين الانسان والطبيعة، وإعتماد الانسان على الطبيعة ذات التصرفات "الغير مفهومة".
![[صورة: femme_bedik1.jpg]](http://www.ecotour-voyage-nature.com/econews/images/stories/users/culture/femme_bedik1.jpg)
في نيسان من كل عام وعندما يكون موسم الزرع على الابواب يتهئ شعب البيديك، الذي يسكن جنوب السنغال، لإحتفالات الزرع المسماة Minymor. تهدف هذه الاحتفالات الى كسب رضا الله/الآلهة، حتى يخضعوا قوى الطبيعة ويرسلوا المطر الكافي ويرزقوا محصولا وافراً ويجعلوا الارض معطاء.
لحسن الحظ تملك القرية ثلاثة مقنعين يمثلون القوى الثلاث: Konkuran- مرسل الارواح، Dokota- قوة الخصب، واخيرا Niathoma- قوة الغضب والعقاب.
ليس الامر سهلا كما يتصور الجاهلين، إذ في البدء يجب ان يتجرأ شيخ المقنعين ان يدخل الى الغابة المقدسة، حيث تقطن الاقنعة. شيخ المقنعين هو احد كبار رجال القرية ويقود الحفل وطقوسه وهو الوحيد الذي يستطيع ترجمة لغة الاقنعة القديمة. لهذا السبب يملك المسؤولية عن التفاوض مع قوى الغابة المقدسة (لاحظ ان القوى المقدسة ليست في السماء وانما في الغابة).
حسب الاحاديث الشريفة المتواترة عند هذا الشعب على الشيخ العالم ان يترك عين وعظمة كرهينة حتى يُسمح له بالاقتراب من حاملي الاقنعة الموجودين في حفرة بالارض. قرب الحفرة يقوم الشيخ العالم بسرد الطريقة التي سيسير عليها الاحتفال حسب الشعائر المعهودة. إذا لم يقبل حاملي الاقنعة هذا العرض، يغلق الشيخ العالم الحفرة ويؤجل الاحتفال، اما إذا اظهروا الرضى والموافقة يرافقوه في الذهاب الى القرية. عند العودة لاينسى ان يستعيد " الرهائن".
![[صورة: bassaris_rite_initiation.jpg]](http://www.ecotour-voyage-nature.com/econews/images/stories/users/culture/bassaris_rite_initiation.jpg)
ملابس الاحتفال المقدسة مصنوعة من لحاء وورق نوع معين من الشجر من الغابة الشريفة. عند الكثير من القبائل الافريقية يعتبر القناع جزء لايتجزء من طريقة المجتمع في ترسيخ القيم وربطها بالعالم الروحي. القناع يجب ان ينظر اليه ليس كمادة وانما كرمز يفتح طريق غير مرئي للارتباط بالطبيعة والقوى التي تتحكم بها. وبالدرجة الاولى تعتبر الاقنعة الضمان لسيادة القيم والقواعد الاخلاقية الغير مكتوبة ولتأكيد "شرعيتها" بإعتبارها ممثلة قوى مقدسة بما يشابه مفهوم الله عندنا.
غالبا تكون الاقنعة المعروضة اليوم في المتاحف الاوروبية جزء من الملابس المقدسة التي تغطي كامل الجسم والتي تهدف الى تحويل حاملها الى شخصية اخرى تمثل القوى المقدسة تماما كما في التقمص. الشعوب الافريقية تؤمن ان هذه الملابس تملك قوى خارقة وفي اللحظة التي يلبسها المرء يفقد شخصيته ويصبح شخصية اخرى.
في السابق كانت طقوس وشعائر هذه الملابس تحاط بسرية وتكتم شديدين، وفقط نخبة من المختارين كانوا يعرفون ان الملابس في حقيقة الامر يلبسها اشخاص من القرية نفسها وليست القوى المقدسة بذاتها الفاضلة.
من الممكن انه ليس الجميع كان يعتقد ان الالهة نفسها هي التي كانت في الملابس ولكن المؤكد والمهم ان الجميع كان شارك بكل جوارحه في هذه الطقوس ويقيم الشعائر، الامر الذي يضمن تماسك ووحدة المجتمع.
المقنعين يدخلون الى القرية كل واحد منهم على حدة . في البداية يقوم الشيخ العالم بتقديم حامل قناع Konkouran, ليركضوا مستهزئين بالاولاد الغير مختونين. شخصية كونكوران شريرة قليلا ولكنه يدخل بدون عوائق الى البيوت التي جرى فيها ختان الاولاد مؤخرا، ليقدم لهم رقية لجلب الحظ وابعاد العين الشريرة، وفي المقابل يقوموا بذبح دجاجة على شرفه لتضاف الى مائدة الاحتفال.
عندما ينسحب صاحب قناع الكونكوران يتقدم صاحب قناع Dokota بدلا عنه، الذي يبدأ بترديد المواعظ والارشادات عن الطبيعة والغابة والعلاقة معهم. بعد ذلك يقوم بدورة حول القرية للبحث عن الساحرة الشريرة. إذا شك بواحدة على انها الساحرة الشريرة يقوم هو وشيخ القرية بالجلوس معها لاقناعها بالكف عن سحرها وممارساتها الشريرة وعدم الاضرار بالقرية.
بعد ذلك يقوم شخص القناع بدعوة المتزوجات الى الرقص. الزراعة والعناية بالزرع من مهمة النساء المتزوجات ولذلك فأن الرقص المسمى غامونده يكون وسيلتهم لإرسال دعاء الى قوى الطبيعة وارواحها، كصلاة الاستسقاء من اجل إرسال مايكفي من المطر والشمس.
![[صورة: bassaris_combat_contre_masque.jpg]](http://www.ecotour-voyage-nature.com/econews/images/stories/users/culture/bassaris_combat_contre_masque.jpg)
حامل القناع الاخير Niathoma يتقدم الى المسرح رافعا سيفه فوق رأسه في حين يرفع السكان حوله اغصان من الخشب. مهمة هذا القناع تنظيف القرية من الفوضى والمشاعر التي تُخل بالانسجام والنظام، حتى يتفرغوا لمهمة الزرع الحيوية بتركيز. في النهاية يستدير حامل قناع دوكوتا ويشرح لأهل القرية اهمية العمل القادمين عليه وضرورة ترك كل ماعداه والتعاون على إنجازه بنكران ذات. هذا الشرح يتم بالطبع بلغة سرية ويترجمها الشيخ العالم الى لغة القرية.
العلاقة مع الاسلام
بالرغم من ان 80% من سكان السنغال يعتبرون انفسهم مسلمين إلا انه لااحد يتعرض لشعب البيديك او يمنعه من ممارسة شعائره التقليدية. ومن المثير ان هذه الشعائر تمارس ليس فقط من قبل الاقسام الافريقية التي لم تتدخل في اي دين على الاطلاق بل يمارسها حتى اقسام كبيرة من المسلمين بإعتبارها ممارسات قديمة لم تنقرض. بالرغم من ان الشعب قد تحول الى دين جديد نجد ان ثقافته القديمة لم تزل تماما ولازالت حية ومتتداخلة مع الثقافة الجديدة
يعود ذلك الى ان المبشرين الاسلاميين في القرن الثامن عشر ، وفي سبيل ان يجدوا قبولا عند السكان المحليين، لم يحرموا هذه الطقوس وانما حاولوا ان يكيفوها مع الاسلام. نرى انهم عوضا عن التحريم جعلوا الرقية تصبح كلمات القرآن التي تكتب على الجلد. الشئ الوحيد الذي لم يتمكن المبشرين المسلمين القبول به هو تعدد الالهة وقوى الارواح التي توجه اليها الدعوات والتي تنافس الله. ومن المثير انهم لم يعترضوا على الشخصيات المقنعة، على الاغلب لكونهم ذو اصول افريقية والاقنعة جزء من ثقافتهم التاريخية الضاربة في عمق التاريخ الطوطمي ولكون الاسلام نفسه يؤمن بالجن.
في نهاية الاحتفال تبدأ القرية بكاملها في المشاركة بالاكل الذي اعدوه جماعيا، ليعود المقنعين الى غابتهم. لقد ادوا دورهم بصدق وقناعة متمثلين دورهم بإيمان.
اضغط هنا:مصادر:
A la rencontre des Bediks
Africa's Undiscovered Myths
Participer au développement du centre culturel de Bandafassi
Bedik, Budik of Senegal