التوبـة ميراث من الله
تأليف
عقيل إسماعيل مظهر
الفصل الأول
حاكمية القدر في رحلة العودة
يأتى الناس إلى عالم الوجود الظاهر رغم أنوفهم ثم يأفلون راجعين إلى عالم الأخرة مضطرين لا خيار لهم لا فى مجيئهم ولا فى رجوعهم ، إنهم يأتون ليعودوا حتى إذا جاء أجل أحدهم فإنه لا يستأخر ساعة ولايستقدم ، فمنذ أول لحظة يأتى فيها الإنسان إلى عالم الدنيا فإن عمره يبدأ فى التناقص بقدر مرور الأعوام والشهور والأيام واللحظات يوما من بعد يوم ، وساعة من بعد ساعة حتى إذا لم يَعُد للعبد رزق فوق الأرض كان الرحيل إلى باطنها مضطراً غير مختار ، مقهوراً غير مريد.
لذلك فإن عمر الإنسان الفرد على ظهر الارض ليس غير رحلة عودة يقطع فيها السنين والأيام سائرًا نحو نهاية محتومة ، متوجهًا إلى غاية مقدرة محكومة يقول عنها المحيى المميت سبحانه وتعالى : "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى".
ولما كانت تلك المسيرة نحو نهاية الرحلة المحتومة كلها تعب ونصب وشقاء قال الله فيها : " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ "، إنها سَفَر يطول أو يقصر يرجع بعده الجسد من حيث سبق له أن نبت ، يعود إلى المصدر الذى كان منه " وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا " وتعود الروح هى الأخرى بعد أن تتحرر من سجن المادة المظلمة وتغادر هيكل الجسد الترابى المعتم راجعةً إلى الموطن الذى سبق أن منه أنزلت ... ترجع الروح إلى عالم الأمر الذى منه حضرت ، " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً " ، ومن هنا كانت الأيام التى تستغرقها رحلة العودة على التحقيق مسيرة أوبه جبريه وخطوات رجعة قهرية لا يفلت منها إنس ولا جان ولن يشذ ّ عنها مخلوق مهما كان " وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا " ... " وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ"..
وما الحياة الدنيا إلا أول منزلٍِ من المنازل التى يسكنها ابن آدم فى بحر هذا الوجود يقطع فيه شوطاً بعد شوط ومرحلة بعد مرحلة كادحاً فى تعب ونصب وشقاء إلى ربه كدحاً فملاقيه على سبيل الحتم والقطع ليسكن منزله الثانى فتطوى صفحات كتابه وتجف أقلام الكرام الكاتبين وينقطع عمله إلا من ثلاث يتواصل فضلها ويستمر عطاؤها وتتضاعف حسناتها وهى كما قال النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم (الصدقة الجارية والعلم الذى ينتفع به والولد الصّالح الذى يدعو له) .
لقد ترك ابن آدم منزل التكليف والأمر والنهى والشقاء فى تحصيل الأرزاق والبحث عن الأقوات إلى منزل جديد تحت الثرى يكون إمّا روضة من رياض الجنة وإمّا حفرة من حفر النار حيث يقول الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ).
وبعد زمان لا يعلم مداه إلا من خلق الزمان والمكان جلت قدرته وتقدست أسماؤه يقضيه الإنسان فى حياة لا يعلم ما هيتها ولا حقيقتها إلا علام الغيوب وهى الحياة البرزخية ( حياة القبور ) ، يخرج الناس جميعاً من منزلهم الثانى فى يوم اللقاء الأكبر برب العالمين .. يوم يصدر الناس أشتاتاً لِيُرواأعمالهم .. يوم يخرج الناس من قبورهم كأنهم جراد منتشر بوم ترى الناس فيه سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل إمرء منهم يومئذٍ شأن يغنيه ، إنه يوم الفصل يوم الدين يوم القيامة يوم لا ينفع مالاً ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم إنه اليوم الذى تنتشر فيه الدواوين وتنصب فيه الموازين وفيه يعامل رب العالمين أهل الفضل برحمته فينّعمهم ويعامل أهل معصيته بعدله فيعذبهم .
ثم يكون آخر منزل من المنازل منزل البقاء السرمدى والملكوت الأزلى حبث يقيم فيه بنى آدم أبد الآبدين ودهر الدهرين فلا نهاية للزمان ولا فراغ للدهر إنه الخلود فى منزل الأبد الذى يحيا فيه المؤمنون فى نعيم مقيم لا يزول ولا يموت فيه الكافر ولا يحيا فى دركات الجحيم " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"
يتبع ..