الحياة الرخيصة والموت الثمين في العراق
عصام نعمان

تستوقفني ظاهرة الإقبال على الموت في ساحات العنف الأعمى العربية والاسلامية. "الانتحاريون" أو "الاستشهاديون"، سمّهم ما تشاء، يختارون الموت بطيبة خاطر، أكاد أقول بفرح، وبأعداد متزايدة، ولأسباب يبدو بعضها جليلاً وبعضها الآخر باهتاً وأحياناً دنيئاً. وثمة بينهم من يقطع مسافات شاسعة ليصل الى الساحة حيث الغاية التي يطيب له الموت من أجلها. الحياة أصبحت رخيصة والموت ثميناً.
لا جدال في ان من يبذل حياته في قتال جيش محتل هو استشهادي، وان تضحيته بنفسه ترتقي الى مستوى الشهادة. لكن، ما وصف من يفجّر نفسه بين مصلين في مسجد ينتمون الى غير مذهبه؟
يقول البعض: هذا انتحار وليس شهادة. يعترض البعض الآخر: بل هو شهادة، والاستشهادي موقن في قرارة نفسه، ومن ورائه شيخه وراعيه، انه ذاهب بفضل شهادته الى الجنة.
حول هذه الظاهرة العجيبة المتنامية، ثمة ملاحظات ثلاث:
الملاحظة الاولى ان الحياة أضحت، من حيث القيمة، مساوية للموت في مفهوم من يسترخصها، بل ربما أدنى منه. الحياة أضحت من المثليات، وبديل مثلها هو الموت. والحال ان القاعدة الراسخة في الحياة هي أن يضحي الانسان بالرخيص من اجل نيل الثمين. أما عندما يفعل العكس، فيصبح للقاعدة عندئذ استثناء يستثير العجب ويستوجب الفحص.
في ساحات العنف الأعمى، كما في العراق وافغانستان والصومال وباكستان، يكاد الاستثناء يصبح قاعدة. هذا يعني ان الحياة، في مفهوم من يضحّون بأنفسهم، قد أضحت بلا قيمة بل أدنى من الموت. إذا كان الامر كذلك، هل السبب هو تدني قيمة الحياة ذاتها أم لجوء صاحبها المضحي بها الى معيار خاص، جديد، ومختلف في تقويم قيمتها؟
الملاحظة الثانية ان ثمة أسباباً تدفع الانسان الى التضحية بحياته. في هذا المجال، يمكن تنسيب الاسباب الى فئتين: الاولى مادية والثانية نفسية وايديولوجية.
في الفئة الاولى تبرز عوامل الفقر والحاجة والمرض العضال. في الفئة الثانية تبرز عوامل الانهيار النفسي والايمان الديني والنزوع الوجداني الى تحقيق أحلام وأهداف عليا لخير الجماعة والوطن.
سواء كان السبب في تضحية الانسان بحياته ينتمي الى الفئة الاولى أو الى الثانية، فإن الحياة في مفهوم صاحبها المضحي بها تكون قد أضحت مساوية للموت أو، ربما، أدنى منه.
الملاحظة الثالثة ان استشراء ظاهرة التضحية بالحياة في عالمنا العربي والاسلامي يؤدي الى اتساع ظاهرة "التمويت" أو صناعة الموت. ذلك يؤدي بدوره الى إضعاف شروط تنظيم الحياة، العامة والخاصة، بل الى إحداث انقلاب في قوانين الاجتماع البشري والحضارة الكونية. فالقاعدة البديهية الراسخة في الاجتماع البشري وفي شروط تنظيم المجتمع وادارته هي تمسّك الانسان بالحياة، تشبثه بها، ودفاعه "المستميت" عنها. وهو في ذلك انما يمارس فعل ارادة ذاتية نابعة من عمق وجوده. لكن مع إستشراء ظاهرة التضحية بالنفس، بسهولة وخفة ولاسباب تبدو بالمنطق السليم غير مهمة أو غير معقولة، فإن قدرة المجتمع، بسلطاته جميعاً، على السيطرة والتوازن تصبح ضعيفة ومتراخية حتى حدود الشلل.
الى ذلك، يتصدع مع إستشراء ظاهرة الإقبال على الموت سلّم القيم الانسانية السائدة، أي القيم "التقليدية" التي رعت إزدهار الدول وانهيارها وصعود الحضارات وهبوطها.
قد يقول قائل: إن القادة والمرشدين والفقهاء الذين يتولون تربية الاستشهاديين والانتحاريين وتوجيههم وتدريبهم وادارتهم قادرون على الاحتفاظ بسلطة السيطرة على هؤلاء، وان الامر لن يفلت من أيديهم، ولا خوف تالياً على الحضارة المعاصرة من خطر الانهيار. لكن، ألم نرَ ما آل اليه أمر "المجاهدين الأفغان" من مختلف الجنسيات؟ لقد عادوا الى أوطانهم الاصلية وغيّروا أهدافهم وطوروا سلوكاتهم ودشنوا مرحلة جديدة في صناعة الموت تختلف جداً عن سابقتها الذاوية.
لا أقصد في كل ما أسلفت قوله الاستشهاديين من رجال المقاومة. هؤلاء يعرفون لماذا ومتى وكيف يضحون بأنفسهم من اجل القضية او الغاية او المبادئ العليا التي تساوي، في نظرهم، وجودهم. أقصد فقط جماعات العنف الأعمى المفتقرين، غالباً، الى قيم عليا ومبادئ نبيلة وأهداف مرحلية تندرج في نهج جهادي او برنامج سياسي متكامل.
إن ممارسة هؤلاء للعنف الأعمى أدى ويؤدي الى مآسٍ وكوارث كبرى. الدليل؟ انظروا الى "نتاج" هؤلاء في العراق حيث حوّلوا البلد مقتلة تُزهق فيها يومياً أرواح مئات الابرياء من الاطفال والنساء والشيوخ.
أكثر من ذلك، أدت ممارسة هذا الطراز من صناعة الموت الى تمزيق النسيج الاجتماعي على نحو مفجع. فالعشيرة الواحدة في العراق تشظّت الى جماعات عدة تعتنق عقائد شتى متصادمة، وتنخرط في خدمة جهات سياسية متناقضة. ومنظمة "القاعدة" أصبحت لها أذرعة متمايزة وأمراء متمايزون. حتى حزب البعث الذي لم يمارس العنف الأعمى بات، نتيجة تأثره ببيئة ملوثة بشتى فنون القتل العشوائي والمجاني، منقسماً الى خمس فصائل متنافسة حتى لا نقول متناحرة.
الأنكى من هذا كله ان كلاً من المنظمات والجماعات الآنفة الذكر يتهم الآخر بالتعامل مع الاحتلال الاميركي من دون ان يكلّف نفسه، بطبيعة الحال، عناء إثبات إتهاماته. ينتج عن هذه الحال الشديدة الاضطراب فوضى عارمة تعصف بالبلاد والعباد وتضع الجميع على شفا كارثة عاتية.
لا شك في ان لقوات الاحتلال في بلاد الرافدين دوراً في التأزيم والتأجيج والتفريق والتقسيم، ومع ذلك فإن الدرس الاساس المستفاد من كل ما جرى ويجري ان اميركا هي المستفيد الرئيس من الفوضى المستفحلة. فقد حققت ثلاثة من جملة الاغراض التي دفعت بها الى شن الحرب على العراق: دمرت العمران بشراً وشجراً وحجراً، وتسببت في تعطيل صناعة النفط بحيث اصبحت عائداتها المخفوضة مخصصة لاغراض اعادة التعمير والبناء بالدرجة الاولى، وقسمت البلاد الى ثلاثة كيانات: كردي وشيعي وسني، والى عدة كانتونات (أقاليم) ذات حكم ذاتي. ذلك كله أدى ويؤدي الى مزيد من التفتيت وبالتالي يخدم اسرائيل ويدعم سياستها التوسعية.

كيف السبيل للخروج من هذه المتاهة؟
إن لدول الجوار، العربية والاسلامية، دوراً في انقاذ العراق من محنته، وهي تستعد على ما يبدو للاضطلاع به لئلا تنتقل اليها بالعدوى أمراضه المستعصية. لكن مشروع الانقاذ، بجميع وجوهه وآلياته، يبقى مهمة العراقيين أنفسهم، بجميع قواهم الحية وفاعلياتهم الوطنية والاجتماعية. هم أهل الدار وحماة الديار واصحاب المصلحة الذين انتهى اليهم ارث الحضارة وأمجاد التاريخ وثروات الوطن. فإلى متى يبقون، كما هم عليه الآن، أعداء انفسهم وأدوات طيعة في أيدي الغير من اصحاب الاطماع والاغراض؟

محام - وزير سابق

:Asmurf:

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	فيلم "فتنة" ضد الارهاب ام ارهاب؟	عمر أبو رصاع	1	660	04-06-2008, 05:15 PM آخر رد: عمر أبو رصاع
	ارهاب ام دعوة لدين؟؟؟شريط القاعدة الجديد- على امريكا ان تسلم	The Godfather	1	438	09-05-2006, 12:46 PM آخر رد: The Godfather
	حوار : هل هي مقاومة عراقية أو ارهاب مدعوم ؟!	حسان المعري	2	582	08-20-2005, 06:14 PM آخر رد: حسان المعري
	عاجل :سيدتان تطلقان النار على حافلة للسياح بالقاهرة هل عدنا و عادت مصر الى مجازر ارهاب التسعينيات؟	egyptian_noble	6	936	04-30-2005, 11:39 PM آخر رد: Assyria