غابريل ماركيز - قصص قصيرة
[CENTER]ماريا [/CENTER]
كانت ماريا دوس برازيراس تتخيل عمال الجنازات في صورة مخيفة , جشعين وجوههم مكفهرة مجعدة , يرتدون ملابس الحداد في إهمال , يضعون وردة في عجالة فوق آذانهم حتى يبدوا مقبولين للناس .
لكنها حين فتحت الباب خجلت من ملبسها وهيأتها , لم تجد عامل الجنازة كما تخيلته , بل شاب خجول يرتدي بدلة على أحدث صيحات الموضوعات ورباط عنق مزخرف بعصافير كل الألوان , لا يرتدي المعطف بالرغم من برد الخريف خجلت منه وهي التي اعتادت مقابلة الرجال في كل الأوقات .
وبالرغم من بلوغها السادسة والسبعين من عمرها , وبالرغم من يقينها من موتها قبل نهاية العام إلا إنها فكرت في أن تغلق الباب في وجهه وتتركه ينتظرها بالخارج حتى تبدل ثيابها , لكنها تراجعت عن الفكرة شفقة عليه من أن يصاب بالبرد ، فتركته يدخل قائلة :
- سامحني لأنني منذ أن أتيت إلى هنا منذ خمسين عاما .......
كانت تتكلم بأسلوب كتالوني متقن لكن بلهجة برتغالية ، التجاعيد تكسو وجهها ، نظراتها شرسة ، تفتقد كل أنواع الزحمة في التعامل مع الرجال ، مسح الشاب حذاءه ثم أشار لها باحترام شديد لكي تتقدمه فجلجلت بضحكة ماجنة قائلة :
أنت رجل مهذب ، اجلس .
كان الشاب حديثا في هذه المهنة , أدرك الآن أن الزبائن لا يحسنون استقباله , خاصة إن كانت زبونة عجوزا بلا رحمة , يبدو وكأنها هاربة من أمريكا .
وقف الشاب في المدخل لا يعرف ماذا يفعل بينما أزاحت ماريا الستائر الكثيفة فظهر الصالون الدقيق القديم تحت الضوء الخافت وكأنه متحف قديم , هناك الحاجيات الخاصة بالاستعمال اليومي , كل شيء موضوع في مكانه بعناية حتى اعتقد أنه لا يوجد في الدنيا منزل منظم أكثر من ذلك قال مرتبكا : آسف كنت قد أخطأت العنوان . فقالت :
- أتمنى ذلك , لكن الموت لا يخطىء أحداً
فرش الشاب خريطة كبيرة ملونة بكل الألوان على المنضدة , كل لون يحتوي على صلبان وأرقام كثيرة , فهمت ماريا أنها خريطة مفصلة لمقابر مونت جويس الفخمة فتذكرت من الماضي البعيد ما حدث في مانواس يوم أن فاض نهر الأمازون وتحولت البلدة إلى مستنقع قذر , لقد رأت وهي طفلة صغيرة النعوش سابحة في فناء منزلها تخرج منها الثياب مهللة مختلطة بشعر الموتى ، ولهذا السبب فضلت مقابر مونت جويس على سان جير فاسيو حيث يرقد كل أفراد عائلتها . قالت :
- أريد مكانا لا تصله المياه أبداً .
أخرج البائع قلما صغيراً من جيبه وأشار إلى مكان في الخريطة قائلاً :
- هنا لا يمكن لأي بحر الوصول إلى مثل هذا الارتفاع.
تأملت ماريا الخريطة التي تشبه رقعة الشطرنج , رأت بجوار المدخل ثلاث مقابر متجاورة خاصة بأهل دورتي ثم مقبرتين خاصيتين بقتلى الحرب الأهلية المنبوذين , كل ليلة يأتي أناس يكتبون أ سماء القتلى بالأقلام , بالكربون , بألوان الزيت ، يكتبون الأسماء بطريقة أنيقة جميلة ، لكن كل صباح يمسح الحراس هذه الأسماء حتى لا يحدد أحد من الذي يرقد تحت هذا الرخام الصامت .... اختارت ماريا مقبرة دورتي الأكثر حزنا وكآبة من بين كل المقابر , بيد أنه لم يكن هناك مقبرة جاهزة في هذا المكان فرضخت للأمر الواقع الذي فرضه عليها البائع قائلة :
- بشرط ألا تتركوني في أحد الأدراج خمس سنوات .
ثم تذكرت فجأة الشرط الأساسي :
- أريد أن أدفن نائمة .
كانت محقة في طلبها , فلقد شاع في الآونة الأخيرة – بعد أن كثر الطلب على المقابر وبعد أن أصبحت تباع نقدا وبالتقسيط – أنهم يدفنون الأموات واقفين توفيرا لمساحات الأرض , حاول البائع أن يوضح لها كذب هذه الإشاعات وأن هناك مشاريع ضخمة لزيارة عدد هذه المقابر ، ثم سكت عندما سمع ثلاث دقات على الباب , فقالت بصوت منخفض :
- لا تشغل بالك , إنه "نوا" أكمل .
أكمل البائع حديثه وبدت ماريا مقتنعة , ثم راحت تفتح الباب وهي تشعر
أكمل البائع حديثه وبدت ماريا راضية مقتنعة , ثم راحت تفتح الباب وهي تشعر بأنها قد ماتت بالفعل منذ زمن بعيد , منذ فيضان نهر الأمازون في مانواس فأكدت طلبها قائلة :
- كل ما أريده مقبرة تحت الأرض بعيدة عن مياه الفيضانات ، وإن أمكن في ظل الأشجار خلال فصل الصيف , وألا يفتح قبري أحد ليلقي بي في سلة المهملات .
فتحت الباب , فدخل كلب صغير مبلل بمياه الأمطار يسير بخطوات خجولة ، قفز فوق المنضدة وراح ينبح بلا سبب واضح , كاد يمزق خريطة المقابر لولا أن سيدته رمته بنظرة حادة وأمرته بالجلوس نظر إليها الكلب في رعب ثم بكى ، التفتت ماريا إلى البائع فوجدته مرتبكا يقول لها :
- مسكين إنه يبكي
فأوضحت قائلة بصوت خفيض :
- إنه سعيد لأنها أول مرة يرى شخصا هنا في هذه الساعة ، في العادة عندما يعود إلى المنزل يكون مهذبا أكثر من الرجال . إلا أنت على ما أعتقد .
كرر البائع " كلا إنه يبكي "
ثم اكتشف وقاحته بتكذيبها فاحمر وجهه وقال معتذرا :
- سامحيني , إنني لم أر مثل ذلك في حياتي .
- كل الكلاب تستطيع أن تفعل ذلك إذا أحسنا تربيتها , لكن للأسف معظم الناس يقسون على الكلاب فيدربونهم على الأكل في أطباق والانتظام في المواعيد بدلاً أن يسمحوا لهم بأن يعيشوا حياتهم الطبيعية . المهم إلى أين وصلنا .
عندما انتهيا من حديثهم اكتشفت ماريا أنها ستدفن في مكان مشمش لأن ظلال كل الأشجار محجوزة للموظفين الكبار التابعين لنظام الحكم فوافقت على مضض لأنها لاتستطيع الدفع مقدماً .
راح البائع يلملم أوراقه وهو يتأمل المنزل بنظرات ثاقبة فاحصة مدهوشا بأناقته وسحره , فأستدار إلى ماريا وكأنه يراها لأول مرة :
- هل من الممكن أن اسأل سؤالا شخصيا ؟
- بالتأكيد , إن لم يكن سؤالاً عن سني .
- لدي موهبة خاصة في تخمين أعمال الناس من خلال تفحص منازلهم والأشياء التي يحتفظون بها , لكن هنا لم أستطع أن أخمن شيء .
جلجلت ضاحكة :
- أنا عاهرة يا بني , ألم تلاحظ ذلك .
كاد البائع يصطدم بالباب فأمسكته من ذراعه قائلة : حافظ على نفسك حتى تدفني .
ما كادت تغلق الباب حتى أخذت الكلب في حضنها تلاطفه في حنان بالغ وراحت تغني نفس اللحن الذي يغنيه الأطفال في الملجأ المجاور .....
لقد رأت في موتها منذ ثلاثة اشهر مضت , منذ هذا الحلم وهي تشعر بقسوة مرارة الوحدة وزعت كل ما تملكه على الناس الذين تعرفهم بالتساوي تماما , حددت اسم كل شخص كاملا ومهنته وعنوانه بجوار الشيء الذي خصصته له , ابتسمت عندما تخيلت الدهشة على وجه المحامي الذي يقوم بتوزيع تركتها بعد موتها ثم بدأت تنشغل بمصير جسدها .
ضاقت بالمدينة الخانقة المكتظة بالسكان , اختارت البلدة الريفية الجميلة مأوى لها , اشترت هذه الشقة التي كانت محطمة تماما , لم يكن لها حتى مجرد باب , الحوائط مملحة , السلالم رطبة ومظلمة رغم وجود سكان في الطوابق الأخرى , أصلحت الحمام والمطبخ , غطت الحوائط ببعض التحف , زينت الشبابيك المحطمة الزجاج بالستائر, ثم رتبت عفشها بعناية فائقة , رتبت دولابها الذي كان مكتظا بالملابس الحريرية المزركشة النادرة التي اشترتها من المزادات بأسعار رخيصة .
قطعت كل علاقاتها القديمة , لم يتبق لها إلا صديق واحد هو الكونت كوردنا يزورها في يوم الجمعة الأخيرة من كل شهر يتناولان معاً العشاء ثم يشرعان في لهو فاتر بلا طعم , حتى هذه الصداقة القديمة مقيدة بحدود لا يجب عليها أن تتخطاها . الكونت يترك سيارته بعيداً ويأتي إليها متخفيا وكأنه شبح حرصا منه على شعور زوجته وأقاربه , حتى في هذا المنزل علاقتها محدودة , فهي لا تعرف أحداً في هذه العمارة سوى جيرانها الذي يقطنون الشقة المقابلة لها فقط .
بعد أن اشترت المقبرة بدأت تعود نفسها على زيارتها كل أحد , شرعت- مثل بقية جيرانها – في زرع حديقة قبرها بأزهار تتفتح في كل المواسم , غرست الأرض بالنجيلة ثم قطعتها بالمقص حتى تصبح أكثر كثافة من سجاد الفنادق الكبرى , بدا لها المكان مألوفا فتعجبت كيف ستكون أيامها موحشة في مثل هذا المكان الجميل .
في الزيارة الأولى ارتجف قلبها بشدة وعنف , رأت المقابر الثلاث المتجاورة المجهولة في المدخل , لم تلتفت إليها بعد أن لمحت الحارس جالسا يقظاً , بيد إنها غافلته في الزيارة الثالثة , أخرجت من حقيبتها أحمر الشفاه وكتبت على اسم دورتي ومنذ هذا اليوم بدأت تكتب بثقة وثبات في كل مرة تسمح لها الظروف بذلك .
في يوم عاصف ممطر من شهر أكتوبر انشغلت المقبرة المجاورة لها بشابة صغيرة متزوجة حديثا .
في نهاية العام انشغلت سبع مقابر مجاورة لها . لقد مر الشتاء سريعا دون أن تموت ... لم تقلق .. ارتفعت الحرارة , فتحت الشباك لتأنس بضجيج الشارع ليعاونها على مقاومة غموض أحلامها .
أصبحت أيامها خالية موحشة بعد أن هجرها الكونت الذي اعتاد على قضاء الصيف في قصره بالجبل , لكنه عندما عاد وجدها أكثر فتنة من شبابها .
بعد محاولات كثيرة فاشلة نجحت ماريا في أن تجعل كلبها نوا يعرف مكان قبرها اصطحبته معها كثيرا سيرا على الأقدام , حفظته العلامات التي يهتدي بها , ثم دربته على البكاء أمام القبر الخاوي , حتى يفعل ذلك بحكم العادة بعد موتها , في أحد الأيام تركته يخرج في الساعة الثالثة بعد الظهر , راقبته من الشباك فوجدته يسير وحيداً حزينا فبكت من كل قلبها على كلبها , على نفسها , على عمرها الذي راح ... بعد ربع ساعة استقلت الأتوبيس إلى المقابر , لمحته يسير منهكا جاداً , انتظرته لمدة ساعتين , سلمت على الزائرين الذين تعرفت عليهم من الأيام السابقة , بعد قليل انصرفوا جميعاً , سمعت ضجيجاً يأتي من البحر , التفتت فوجدت باخرة بيضاء ترفع علم البرازيل ، تمنت من أعماقها أن تحمل إليها هذه الباخرة نبأ وفاة شخص تعرفه في سجن برنامبوكو .
في الخامسة مساء أتي نوا لاهثا مجهدا لكنه فخور بنفسه كمراهق مغرور , منذ هذه اللحظة اطمأنت إلى أنها ستجد أحداً سيبكي على قبرها .
في الخريف توالت الإنذارات الغامضة , أثقلت قلبها يوما بعد يوم حتى ملأتها رعباً , لقد اعتادت تناول القهوة في أحد الكازينوهات ترتدي معطفها المطعم بفراء الثعلب , تغطي شعرها بقبعة مطعمة بزهور صناعية محاولة أن تجاري الموضة , تشغل نفسها بالاستمتاع بزقزقة العصافير , تتناقش مع بائعي الكتب في الأكشاك , ثم تراقب جرحى الحرب وهم يلقون بالخبز للحمام وفجأة شعرت بالإشارة المؤكدة , فأدركت أنه في أعياد رأس السنة المقبلة عندما يعلقون الأنوار , وتصدح الموسيقى وصيحات الفرح من الشرفات ويأتي السائحون يملأون الشوارع ويفترشون المقاهي , ستكون هي في انتظار الموت في أي لحظة .
انتابها القلق , أيقظتها رجفات الذعر من نومها .. في إحدى الليالي استيقظت فزعة على صوت الرصاص ,
فاكتشفت أن الشرطة قد أطلقت النار على أحد الشباب تحت نافذتها .
لم تشعر بمثل هذا القلق من قبل منذ أن كانت طفلة صغيرة في مانواس في هذه الليلة سكتت فجأة كل ضوضاء هذه الليل , توقفت المياه في النهر , خيم سكون غامض مريب على الغابة الأمازونية , كأنه سكون الموت ومما زاد من قلقها ماحدث عندما زارها الكونت كوردونا يوم الجمعة الأخير من شهر إبريل .
كان لزياراته طقوس احتفالية خاصة , يحضر عادة مابين السابعة والتاسعة مساء يحمل زجاجة شمبانيا مغلفة بجريدة المساء وعلبة شكولاتة .
بينما تعد له دجاجة مشوية وطبقا من فاكهة الموسم , يجلس وهو يستمتع بالموسيقى الكلاسيكية يتجرع في هدوء .
بعد العشاء يتداعبان بفتور مما يجعلهما يشعران بالحسرة على شبابهما. قبل أن يمشي يضع لها خمسا وعشرين بيزيتا تحت طفاية السجائر , هذا هو أجرها الذي لم يتغير منذ أن تعرفت عليه في فندق باراليلو منذ أمد بعيد .
كلاهما لا يعرف على أي أساس توطدت علاقتهما . المهم أن ماريا يجب أن تقدم له وجبات شهية , والكونت يقدم لها نصائح غالية للحفاظ على مدخراتها البسيطة التي عبارة عن بعض التحف المسروقة من المزادات
هو الذي أشار عليها بشيخوخة محتشمة عندما أحالوها إلى المعاش في بيت الدعارة الذي أمضت فيه حياتها ,
فينما كانت مديرة البيت تريد أن تحولها إلى مدرسة خاصة لتعليم الأطفال ممارسة الحب مقابل خمسة وعشرين بيزيتا أشار عليها الكونت بالإعتزال في حي غارسيا . قصت عليه كيف أن والدتها باعتها وهي في الرابعة عشرة لبحار تركي في البرتغال مارس معها الجنس دون شفقة أثناء عبور الأطلنطي ثم تركها بلا مال أو لغة أو حتى مجرد اسم في فندق باراليلو , توطدت الصداقة بينهما , لم يخدشها شيء إلا ماحدث في هذه الليلة عندما سمعا في المذياع أن الإمبراطور فرانسيسكو فرانكو أمر بإعدام ثلاثة انفصاليين , أعلنت ماريا استياءها من هذا الديكتاتور الأبدي . انزعج الكونت . نظرت إليه مليا فرأت في عينيه نظرات الغرور والتغطرس , واكتشفت لأول مرة المخالب الوحشية في يديه فنهرته قائلة :
- إذا أعدموهم سأقلب لك طبق المرقة .
سال الكونت خائفا :
- لماذا ؟
- صحيح أنني عاهرة لكن لدي إحساس بالعدالة .
لم يأت الكونت بعد ذلك أبدا, فأيقنت أن آخر حلقة من حلقات حياتها قد انتهت .
بعد عدة أسابيع لاحت أن الناس أصبحت تترك لها المقعد في الأوتوبيس , يعاونونها على عبور الشارع , يمسكون بذراعها عند عبور السلم .. في البداية رفضت كل المساعدات , ثم تقبلتها , ثم أصبحت تنتظرها بعد ذلك , فاشترت قطعة حجر صغيرة لتضعها على قبرها دون أن تكتب اسمها أو تحدد التاريخ .
بدأت تنام دون أن تغلق النافذة حتى يستطيع نوا إعلان خبر وفاتها إذا ماتت أثناء النوم .
قابلت في أحد أيام الأحد وهي عائدة من المقابر الطفلة ا لصغيرة التي تسكن في الشقة المقابلة لها , لعبت الطفلة مع نوا وكأنهما صديقان حميمان , شعرت ماريا بعاطفة الجدة تجيش بصدرها , عزمت الطفلة على قطعة جيلاتي وهي تسألها :
- هل تحبين الكلاب
- أعشقهم .
عرضت ماريا اقتراحاً أزاح عنها بعض القلق :
إذا حدث لي شيئا اهتمي أنتِ بنوا . فقط كل ما أريده منكِ أن تتركيه حراً كل يوم أحد دون أن تقلقي عليه , سيذهب إلى مكان يعرفه جيداً ثم يعود إليك.
سعدت الطفلة كثيرا بهذا العرض , كما إن ماريا عادت إلى بيتها سعيدة لشعورها بعاطفة الجدة التي حلمت بها كثيرا دون أن تعايشها , وتمنت من الله أن تتم بقية أحلامها قبل أن تموت . وفعلا تحقق حلمها الأخير عندما كانت عائدة من المقابر في شهر نوفمبر .
كان البرد قارصا , ما إن وصلت إلى محطة الأوتوبيس حتى انهمر المطر شديدا فبلل كل ثيابها ، حمت الكلب تحت معطفها , وقفت حائرة لا تعرف ماذا تفعل , المقابر خلفها , أمامها الأحياء الشعبية الخربة التي ليس بها شرفة واحدة تحتمي بها , تمر الأوتوبيسات من أمامها خالية دون أن تقف على المحطة , مرت سيارات الأجرة خالية من دون أن ينتبه أحد إلى إشارات الاستغاثة منها .
فجأة مرت أمامها سيارة رمادية فاخرة دون أن يصدر منها أي صوت وكأنها تعيش في عصر المعجزات , هدأت السيارة من سرعتها ثم رجعت تقف أمامها بالضبط , هبط الزجاج بطريقة سحرية غامضة , عرض السائق توصيلها فقالت بإخلاص :
- مشواري بعيد . إذا أوصلتني إلى نصف المسافة تكون قد أديت لي خدمة كبيرة .
- قولي لي إلى أين تريدين الذهاب .
- غراسيا .
- إنه طريقي , تفضلي .
عندما دخلت السيارة شعرت وكأنها في عالم آخر , عالم سعيد ساحر, المطر أصبح متعة , الحياة تبدلت إلى ألوان جميلة زاهية . السائق يقود بمهارة وسط زحام المدينة وكأنه ساحر عظيم . خجلت من نفسها , كما خجلت من أن تضايق صاحب السيارة بكلبها الذي يجلس على ركبتها قالت مجاملة :
- يا لها من سيارة فاخرة ، لم أر مثلها ولا في الأحلام .
قال السائق بلهجة كتالونية :
- في الحقيقة إنها ليست سيارتي إذا ادخرت كل مرتبي طوال حياتي لن أستطيع شراء مثلها .
- ألاحظ ذلك .
نظرت بطرف عينيها فوجدته شابا مراهقا , شعره قصير مجعد , خمري اللون وكأنه روماني قديم , ليس وسيما لكن له جمال خاص , يرتدي جاكت قديم من الجلد لابد أن تكون أمه سعيدة لأن لها ابنا مثله .. لم يتحدثا طوال المسافة لكنها كانت ترميه بنظرات جانبية من حين لآخر , شعرت بمدى معاناتها لأنها لا تزال عائشة حتى بلغت أرذل العمر , أشفقت على نفسها وهي ترتدي مثل هذه الثياب الرثة في انتظار الموت .
عندما وصلا إلى جراسيا كانت السحب قد تبددت هبط المساء وأضيئت أنوار الشارع , طلبت منه أن يتركها في أول الشارع بيد أن الشاب أبي إلا أن يوصلها إلى المنزل , وقف ملاصقا للرصيف حتى لا تبتل ثيابها , نزل الكلب ثم هبطت هي , استدارت إليه تشكره فرأت في عينيه الذهول , لم تعرف من الذي ينتظر من ولماذا قال الشاب في ثبات :
- أصعد معك!
شعرت إنها قد أهينت فقالت :
- أشكرك على هذه الخدمة , لكن هذا لا يعني أن تسخر مني .
قال الشاب برزانة وحزم :
- أنا لا أسخر من أحد , خاصة سيدة مثلك .
كانت ماريا تعرف رجالا كثيرين مثله أنقذت رجالا أكثر منه وقاحة من الانتحار , لكنها أبدا لا تعرف مثل هذا الخوف من اتخاذ القرار في حياتها , عاد الشاب يقول بنفس الثبات :
- أصعد معك ؟
تركته دون أن تغلق باب السيارة , دخلت الدهليز المنار بأضواء الشارع , صعدت بضعة درجات وهي مذعورة , كانت تتصور إنها لن تشعر بمثل هذا الخوف إلا في لحظات الموت .
وقفت أمام بابها مرتبكة تبحث عن المفتاح في جيبها , سمعت طرقات أبواب السيارة وهي تغلق , كاد نوا ينبح لولا إنها أمرته بالسكوت , سمعت خطواته على درج السلم , يقترب أكثر فأكثر , في لمح البصر رأت عينيه في الظلام , نفس العينين اللتين رأتهما في الحلم منذ ثلاث سنوات , قالت فزعة :
- ربي , إنه ليس الموت إذا !
فتحت باب شقتها , شعرت بأنفاسه تلاحقها , فعرفت الآن لماذا كان يجب أن تنتظر سنوات وسنوات , أليس من أجل أن تعيش هذه اللحظة .
|