في خضم الحديث عن تونس في بعض المقالات والمواضيع التي قرأتها أو قرأت عنها في هذه الساحة، أحببت أن أشارككم هذا المقال المميز والجدي والذي أراه موضوعياً عن تاريخ تونس الحديث من مجلة سياسية احترافية ومتمكنة كالـ"اللوموند ديبلوماتيك" (لشهر مارس/آذار 2006).
مع فائق التحيات.
رحلة الهبوط الطويلة إلى الجحيم في تونس
كمال العبيدي*
من الوصاية الفرنسية الى الديكتاتورية المُعلنة
تحتفل تونس هذه الأيام بالذكرى الخمسين لاستقلالها. لكن الآمال التي عُقَِدَت منذ انتهاء السيطرة الفرنسية والإصلاحات الأولى في مجالي التربية وتحرر المرأة سرعان ما تبخّرت. فقد هيمنت على البلد ديكتاتورية قاسية نشرت الخوف ولكنها أثارت أيضاً بداية مقاومة جماعية تتجاوز الاختلافات التقليدية.
"إنني ألاحظ، بطبيعة الأحوال، أنه باستثناء الاهانات العديدة التي كان يتعرّض لها المواطنون، كان المعارضون في ظلّ الوصاية الفرنسية، وعلى رأسهم بورقيبة، قادرين على التعبير عن أنفسهم. كان لديهم منظّمات وأحزاب ونقابات وصحف. ليس في نيّتي الدفاع عن الاستعمار، لكن يجب أن ننتبه أننا لم نعد نتمتّع اليوم بأيّ شيء من كلّ ذلك". هذا ما لاحظه السيد محمد طالبي، المؤرّخ والعميد السابق لكلية الآداب في تونس، الذي لا يزال يتمتّع بوضوح رؤية واستعداد مذهل للنضال بالرغم من بلوغه سن الـ 84 [1].
قلّة هم المثقّفون التونسيّون الذين عاشوا مثله في الحقبة الفرنسية، قبل أن يشهدوا على استقلال بلادهم بفرحٍ عارم، في 20 آذار/مارس 1956، ويلتحقوا بحماسة بعملية بناء الدولة الحديثة التي لطالما اعتُبِرَت "مثاليّة" كي تلتحق أخيراً بـ... صفوف الديكتاتوريّات العربية. إنّ ممارسة السلطة التي أصبحت أكثر فأكثر تمحوراً حول شخصٍ واحدٍ، كان في البدء المجاهد الأكبر حبيب بورقيبة نفسه، قبل خلع هذا الأخير في تشرين الثاني/نوفمبر 1987 على يد الجنرال زين العابدين بن علي، كانت هي السبب في الغرق السياسي للبلاد.
ففسحة الحرّية التي يستذكرها السيد طالبي، والتي تعرّضت للتشذيب المستمرّ منذ الاستقلال، هي التي كانت قد سمحت للحبيب بورقيبة بضرب نظام الوصاية الذي كان سائداً منذ عام 1881، وذلك من خلال الصحف كـ"صوت التونسيّ"، قبل أن يؤسّس في العام 1932 "الحركة التونسيّة". وبعد عاميْن، أنشأ حزب الـ"دستور الجديد" وهو تركيبة سياسية حديثة مبنيّة وفق نماذج الأحزاب الاشتراكية والشيوعية الأوروبية مصمّمة على انتزاع السلطة من أجل تحويل المجتمع.
وفي ظلّ الاستعمار أيضاً، بدأت تظهر النقابات المستقلّة منذ العام 1920 [2]. وتأسيس الاتحاد العمالي العام التونسي، عام 1946، أمّن حليفاً ذا مستوى لحزب الـ"دستور الجديد"، في الصراع من أجل التحرير وبناء الدولة الجديدة. وكمفارقة، بدأت المحاولات الهادفة وبشتّى الوسائل إلى إخضاع إحدى أهم الاتحادات النقابية في أفريقيا والعالم العربي، منذ أشهر الاستقلال الأولى. شكّل هذا الأمر عائقاً لنشوء أيّة سلطة مضادة كانت كفيلة بحماية البلاد، على السواء، من هذا الكمّ من الانحرافات الديكتاتورية ومن عواقبها الوخيمة على الصعيديْن الاقتصادي والاجتماعي [3].
إلاّ أنّ ماضي السيّد بورقيبة، كمقاومٍ للاستعمار أمضى سنواتٍ عديدة بين السجن والمنفى، من ثمّ الإجراءات التي اتّخذها غداة الاستقلال من أجل تحرير المرأة ومحاربة الفقر والأمّية، إضافةً إلى النداء التاريخي الذي أطلقه عام 1965 باقتراح حلٍّ للصراع الاسرائيلي-العربي على أساس خطّة تقسيم فلسطين إلى دولتيْن التي كان مجلس الأمن قد اعتمدها في العام 1947، كلّ ذلك ساهم في تعزيز سلطة بورقيبة في أوساط التونسيّين كما على الساحة الدولية.
ففي أيار/مايو 1961، ولدى استقباله من قبل الرئيس جون ف. كينيدي، شبّه هذا الأخير الرئيس التونسيّ بالأب المؤسّس للولايات المتحدة، جورج واشنطن. وفي المقابل، لم يتمّ أبداً دعوة خلَفه إلى مأدبة دولة في البيت الأبيض. وخلال زيارته الرسمية القصيرة إلى واشنطن، في العام 2004، طلب منه الرئيس جورج بوش، بشيءٍ من العجرفة، تخفيف الطوق حول الصحافة.
في الستّينات، حين كانت كافّة مؤسّسات الدولة يسيطر عليها الحزب الأوحد، الحزب الاشتراكي الدستوري، بقيت جامعة تونس تشكّلُ منتداً فعلياً لطرح التساؤلات المتعلّقة بالتنمية والديمقراطية ولانتقاد خيارات بورقيبة السياسيّة، بما فيها دعمه للتدخّل الأميركي في فييتنام. وفي نهاية الستينات، أثار هذا الجوّ من المعارضة، الذي كان نادراً في ذلك الحين في أوساط الجامعات العربية، حركة قمعٍ شرسة ضدّ شبابٍ لم يكونوا معارضين لمشروع بورقيبة لإنشاء دولة حديثة، بل كانوا يحاربون الهيمنة الكاملة لحزبه على البلاد. كما يعود أيضاً إلى هذه الفترة انعطاف النظام نحو اللّيبيرالية الاقتصادية.
[U]
انقلاب على الحركة النقابية
من بين المعتقلين السياسيّين القدامى الذين وقعوا ضحيّة هذا القمع، نجد المؤسّسين اللاحقين لعصبة حقوق الإنسان التونسية والفرع التونسي لمنظمة العفو الدولية، وكانتا سبّاقتان من نوعهما في العالم العربي.
فبعد أن حُكِم على الوزير أحمد بن صلاح بعقوبة طويلة في السجن بسبب تحميله مسؤولية فشل سياسة التعاونيّات عام 1969، بدأت عمليّة تطهير الجناح اللّيبيرالي للحزب الاشتراكي الدستوري بقيادة السيد أحمد مستيري. أعقب ذلك عام 1974 إعلان بورقيبة رئيساً لمدى الحياة. غير أنّ هذه الأحداث لم تمنع المجتمع المدنيّ من التقدّم بخطىً صغيرة ومن بروزه في أواسط السبعينات على أنّه من الأقل قيوداً في العالم العربي.
في وسط هذه الظروف التي تميّزت بتحرير الاقتصاد وبإرخاءٍ بسيط للطوق المُحكَم من قبل الحزب الاشتراكي الدستوري، في ظلّ حكومة السيد هادي نويرة، تمكّن الاتحاد العمّالي العام التونسي من المضي قدُماً على طريق الاستقلالية وحرّية التعبير، من خلال جريدته الأسبوعية "الشعب". في حين تأسّست في العام 1977 عصبة حقوق الإنسان التونسية وصحيفة "الرأي" المستقلّة.
حتى الضربة الدامية التي وُجِّهت ضدّ الاتحاد العمالي العام التونسي، في كانون الثاني/يناير 1978 والتي أسفرت عن سقوط عشرات القتلى، من ثمّ الهجوم على مدينة قفصة المنجميّة جنوب البلاد في كانون الثاني/يناير 1980، من قبل فرقة كوماندوس من المعارضين التونسيين القادمين من ليبيا عبر الجزائر، لم تكفيا لإسكات المجتمع المدنيّ الصاعد. وبالرغم من التنكيد بالصحف المستقلّة كجريدة "الرأي" أو تلك الإسلاميّة كجريدة "المعرفة"، فقد ظهرت إصدارات جديدة كـ"المنارة" و"الديموقراطية" و"المستقبل" و"المجتمع" (إسلامية) و"21-15" (إسلامية تقدميّة)، ساهمت في تحويل المشهد الإعلاميّ.
عام 1981، ولّد الإقرار الجزئيّ بالتعدّدية السياسية، مع رفع الحظر الذي كان مُحكَماً على الحزب الشيوعي التونسي، آمالاً سرعان ما خابت. ففي تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، زوّرت السلطة نتائج الانتخابات التشريعيّة التي شارك فيها، بالإضافة إلى الحزب الاشتراكي الدستوري، الحزب الشيوعي التونسي وتشكيليْن جديديْن لم يكن قد شُرِّعَ لهما بعد: حركة الديموقراطيّين الاشتراكيّين ونواة حزب الاتحاد الشعبيّ. وفي العام نفسه، تمّ سجن القادة الإسلاميين الذين كانوا قد استفادوا من الفسحات الصغيرة للحرّية.
إنّ القمع الدمويّ لمظاهرات الخبز (كانون الأول/ديسمبر 1983) والتزعزع الجديد للاتحاد العمالي العام التونسي وتوقيف قائده القديم حبيب عاشور، وأخيراً اللّجوء المتزايد إلى القوّة في مواجهة المعارضة الاجتماعية والإسلامية، كلّ ذلك ساهم في قرع أجراس حكم "المجاهد الأكبر" الذي كان العمر قد أعياه والذي بات تحت تأثير المُتآمرين المقرّبين منه.
وبحسب تقدير عدد من المراقبين، إنّ تسمية الجنرال زين العابدين بن علي كرئيسٍ للوزراء في تشرين الأول/أكتوبر 1987، إلى جانب تسلّمه مهامّ وزارة الداخلية، شكّلت الخطأ السياسي الأكبر الذي ارتكبه بورقيبة. ويعلّق السيد طالبي بالقول: "كان بورقيبة ذكيّاً. لكنه برهن في ذلك اليوم عن غباءٍ مطلق. كما لو أنّ الديكتاتور وضع حبل المشنقة بين أيدي جلاّده ليقضي هذا عليه."
وهكذا لقي الانقلاب الذي حصل في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1987 أصداءً مؤيّدة من قبل شريحةٍ واسعة من الوسط السياسيّ. ولكن الشيخ راشد الغنّوشي منذ ذلك الحين، وهو قائد حركة النهضة الإسلامية، يعترف اليوم أنه كان "خطئاً فادحاً ومحزناً"، هو الذي كان أعلن وقتها بأنّ ثقة المسلمين "كبيرة بالله أوّلاً ثمّ بسيادة الرئيس". إنّ توقيف عشرات الآلاف من أعضاء حركته وموت حوالي الأربعين منهم تحت التعذيب، إضافةً إلى المحاكمات الاعتباطيّة العديدة في التسعينات، دفعت بالشيخ الغنّوشي إلى اختيار المنفى.
أمّا المعارضون العلمانيّون، الذين صدّقوا مثله الوعود الديموقراطية التي تضمّنها الميثاق الوطني (1988)، فسيدفعون هم أيضاً الثمن. لكنهم سيعون متأخّرين الدور الذي لعبوه في الترويج لرئيسٍ معادٍ لحقوق الفرد ولأيّ نوعٍ من الحياة الثقافية. فأولئك الذين أغمضوا أعينهم عن القمع الأعمى ضدّ الإسلاميين مع غيرهم من المعارضين وعلى اضطهاد عائلاتهم، فتحوها بعد عدة أعوام ليجدوا أنفسهم داخل مراكز الشرطة، في السجن أو المنفى [4].
ولا شكّ أنّ مستشاري الرئيس الجديد قد عرفوا كيفيّة الاستفادة من هذا العماء لضرب مصداقيّة غالبيّة فصائل "المعارضة"، من خلال ربطها بهرج انتخابيّ يغذّي وهم التعدّدية السياسية. إنّ التأثير المُتزايد لمستشاري الرئيس وكبار الموظّفين في وزارة الداخلية على الحياة السياسية، وخاصّة سياسية اليد الحديديّة في مواجهة أيّة معارضة حقيقية، أدّى إلى فقدان التونسيّين السريع لأيّ اهتمامٍ بالسياسة.
حتى الشخصيات السياسيّة والنقابيّة والمحامون والصحافيّون والجامعيّون الذين كانوا قد لمعوا بتفكيرهم النقديّ وشجاعتهم، لم يلبثوا إلاّ انسحبوا على رؤوس أصابعهم. المثل الأوضح هو السيد المستيري، مؤسّس حركة الديموقراطيّين الاشتراكيّين ،الذي أدار ظهره للعمل السياسي غداة الانتخابات المزوّرة عام 1989.
وبدعمٍ من رجال يأمنُ جانِبَهم بعد أن خبرهم في صفوف الجيش وأروقة وزارة الداخلية، تمكّن السيد بن علي من السيطرة على كل المؤسّسات. وسرعان ما اتّضح أنّ الإجراءات التي أُعلن عنها بإلحاح غداة الانقلاب - إلغاء الرئاسة لمدى الحياة والوعود بنشر الديموقراطية- كانت مجرّد تمويه، خصوصاً بعد مهزلة الانتخابات المُتتالية وتعديل الدستور في العام 2002. هذا التعديل الذي ساهم في زيادة سلطة بن علي التي كانت أصلاً قد تعدّت الحدود والذي سمح له بالتقدم إلى ولايات حكمٍ جديدة منذ عام 2004، وكذلك الاستفادة من حصانةٍ قضائيّة لمدى الحياة.
ففي أيلول/سبتمبر 2005، اعتمد مجلس النوّاب الذي عقد جلسة استثنائيّة، نصّ قانونٍ يمنح امتيازات لـ"رؤساء الجمهوريّة بعد انتهاء مهامّهم" ولعائلاتهم في حال الوفاة. إنّ التسرع في إقرار القانون الذي وقّعه السيد بن علي ونشره في الجريدة الرسميّة وسط تعتيمٍ كامل [5]، كان مثيراً للشُبهات في وقتٍ كانت تتزايد حدّة الإشاعات حول صحّة الرئيس. ومن الأمور الشاذّة التي نصّ عليها هذا القانون وضع أبناء الزوج الرئاسيّ فوق الدستور الذي يضمن، في مادّته السادسة، التساوي بين المواطنين: إذ منحهم الاستفادة من التعويض حتى عمر الخامسة والعشرين وليس حتى عمر العشرين، كسواهم من أولاد المتقاعدين الذين شغلوا مراكز عامّة.
قلما تعرّض مبدأ التساوي في الحقوق والواجبات والفرص لهذا القدر من سوء التصرّف منذ الاستقلال. فالمستفيدون الأساسيّون من عمليّة خصخصة الشركات العامّة ومن القروض المصرفيّة المشبوهة ومن السوق السوداء المزدهرة، ينحصرون بشكل متزايد ضمن نطاق أعضاء "العائلة الحاكمة" التي تضمّ الأهل: الأخوات والأخوة وحلفاء بن علي وزوجته ليلى طرابلسي.
العديد منهم له قدمٌ في القطاع العامّ وأخرى في القطاع الخاصّ. فهم يستغلّون نفوذهم ليزيدوا ثروتهم، من خلال لعب دور السماسرة في مختلف المجالات، بما فيها قطاع العمل غير القادر على استيعاب التدفّق المتزايد للشباب. فبحسب السيد حسين ديماسي، أستاذ الاقتصاد وعميد سابق لكلّية الحقوق في سوسة، إنّ العدد الفعليّ للعاطلين عن العمل من حملة الشهادات، يفوق بمرّتين تقديرات الإحصائيّات الرسميّة (وهو 000 40). ويوضح أنّ "المجتمع يُنفِق مبالغاً ضخمة لصناعة أشباه الأمّيين، قَدَرُهم البطالة. ومن شأن ذلك أن يخلِقَ توتّراً كبيراً وسط العائلات والمجتمع بشكل عام". إنّ البقاء مكتوفي الأيدي بوجه التراجع المُخيف لنوعيّة التعليم، يعني تحويل مئات الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل إلى "قنابل مؤقتة".
فغالبيّة شباب اليوم لا يشاركون أهلهم التزامهم في خدمة البلد غداة الاستقلال، ولا العطش إلى المعرفة والمبادىء التي كانوا يؤمنون بها في تلك الفترة. إنّهم يرتادون المدارس التي يديرها أشخاصٌ مقرّبون من السلطة إرضاءً لأهلهم. لكنّهم، وللسخرية، غالباً ما يستهزؤون من العناصر المتعطّشة للعلم. وأمام العرض الوقح للثروات التي جمّعها حديثو النعمة بشكلٍ سريع، يسأل بعض الشباب أحياناً أهلهم المدرّعين بالشهادات والذين يجدون صعوبة في تلبية حاجات عائلاتهم وفي الدفاع عما يؤمنون به: "ما المنفعة من شهاداتكم ومبادئكم؟".
ويبدو أنّ النظام التعليميّ، الذي ساهم بشكلٍ كبير في تحسين مستوى معيشة التونسيّين والذي كان مصدر قوّة النظام السياسيّ خلال العقود الأولى التي أعقبت الاستقلال، يتوجّه نحو الإفلاس، بحسب الأساتذة وأهل التلامذة والطلاب المطّلعين. وقد ساهم في ذلك قرار خفض مستوى الامتحانات أكثر فأكثر و"منح" شهادات البكالوريا لزيادة شعبيّة السيد بن علي.
ويشرح باحثٌ شابّ في كلية الآداب في جامعة مانوبة، لم يشأ الإفصاح عن هويّته، أنه "مرّ زمنٌ كان يُعتبر فيه الأستاذ نموذجاً يُحتذى به وكانت المدارس تؤمّن للشباب، ليس فقط نوعيّة عالية من التعليم، لكن أيضاً تنشئة ثقافيّة ونقابيّة وسياسيّة. اليوم لم نعد نتمتّع بتنشئة جديرة بهذا الاسم، وهنالك افقار فعليّ على مستوى النقاش الفكري والإبداع وصعود مُقلق للاتّجار بالنفوذ والتشجيع على الاستكانة في أوساط الأساتذة."
[U]
شبابٌ تائه
إنّ غياب آفاق مستقبليّة للشباب قد دفع الآلاف منهم إلى الهرب من "المعجزة التونسيّة"، تلك العزيزة على قلب الرئيس الفرنسي جاك شيراك. حتى أنّ العشرات منهم غرِقوا في الأعوام الأخيرة وهم يحاولون بلوغ الشواطىء الإيطالية على متن زوارق غير آمنة.
ما لا نعرفه هو أنّ المئات غيرهم يمضون عقوبات قاسية في السجن، عقب محاكمات جائرة بتهمة تشكيل "عصابات من المخرّبين" متّهمين بالتخطيط لـ"أعمال إرهابية" في تونس، أو حتّى بتقديم الدعم للمقاومة العراقية. وفي الواقع، يبدو أنّ الجرم الفعليّ لعددٍ كبيرٍ منهم، كـ"شباب جرجيس"، هو التجوّل على الانترنت حيث تقوم السلطة باستمرار بإقفال المواقع والعناوين الالكترونية. إنّ قانون "محاربة الإرهاب"، الذي يتمّ اللّجوء إليه لسجن الشباب المتّهمين باقتراف جرمٍ واحدٍ ألا وهو المطالبة بحرّية التعبير، قد أُقرّ إرضاءً لـ... الإدارة الأميركية وحلفائها الأوروبيين.
وإذا كان المسرح، مع مبدعين أمثال فاضل الجعيبي وجليلة بكّار، يبذل جهوده للتعبير عن "العنف السياسيّ وأشكال الأصولية اليساريّة أو اليمينيّة وصعوبة أن يكون المرء حرّاً"، فهنالك غياب فظيع لفسحات أخرى تسمح بالنقاش الحرّ. المسرحيّة الأخيرة لهذيْن الفنّانيْن، بعنوان "أجساد مرهونة" والتي عُرِضت ضمن برنامج مسرح الأوديون في باريس في حزيران/يونيو الماضي، تروي قصّة فتاة تنتمي إلى طبقة غنيّة وقريبة من اليسار، تستهويها شعارات الإسلام المتطرّف. "إنّني أقوم بهذه المسرحية كي لا تكون ابنتي مُجبرة على ارتداء الحجاب"، هكذا قال السيد الجعيبي الذي كان في العاشرة من عمره عام 1956 والذي يحذر، على عكس رفيقته جليلة، إلى أقصى الحدود من الإسلاميّين.
وقد ازداد القمع لدرجة أنّه في هذا البلد الذي كان يُعتَبَر فيما مضى "الأكثر علمانيّةً بين الدول العربية"، توصّلت القيادات السياسية المتواجدة على نقيضي الحلبة السياسية - والتي كانت تكنّ لبعضها البعض حتّى الآونة الأخيرة عدائيّة خياليّة- إلى التفاوض على شراكتهم في إضراب عن الطعام يجمع ثماني شخصيات مستقلّة، ذات انتماء اشتراكيّ وإسلاميّ، من أجل الضغط على السلطة. وفي خضمّ القمّة العالمية لمجتمع المعلومات التي عُقدت في تونس في تشرين الثاني/نوفمبر 2005، استقطب هذا التحرّك اهتمام الإعلام العالميّ، خاصّةً بعد الاعتداءات التي مارسها رجالٌ من الشرطة باللّباس المدنيّ بحقّ صحافيّين فرنسيّين وبلجيكيّين، كما استقطب أيضاً حضور مدافعين عن حقوق الإنسان ذوي مقام دوليّ، أمثال السيدة شيرين عبادي الإيرانية الحائزة على جائزة نوبل للسلام، إلى مكتب المحامي عياشي حمّامي حيث تمركز المضربون عن الطعام.
إنّ هذا التقارب بين الإسلاميّين وشخصيّات معروفة بانتمائها العلمانيّ ومعاداتها للتحرّكات الإسلامية، أمثال السيد نجيب شيبي، أمين عام الحزب الديمقراطي التقدّمي، والسيد حما حمّامي، أمين سر الحزب الشيوعي العمالي التونسي، قد أثار حملة تشنيع من قبل السلطة وردّات فعل قويّة من قبل شخصيّات مستقلّة وناشطين من اليسار المتطرّف اجتمعوا حول حركة "التجديد".
أحد مؤيّدي التعاون مع حركة "النهضة" التي يعتبرها "وسطية" هو السيد منصف المرزوقي، الذي يدير أيضاً المؤتمر من أجل الجمهورية (غير المُعترف به من قبل السلطة). وهو يدعو إلى بناء "جبهة ديموقراطية"، تستثني فقط من صفوفها "الإسلاميّين الذين يؤيدون العنف أو يريدون تطبيق الشريعة أو الذين يعادون المساواة بين الرجل والمرأة". والمهمة الأساسيّة لهذه الجبهة، بحسب رأيه، هي تحضير الساحة لـ"ثورة سلميّة على الطريقة الأوكرانيّة أو الجورجيّة".
إن تفسّخ الدولة وتداعي صورتها داخل البلاد وخارجها قد حضّ العديد من المعاونين المُقرَّبين قديماً من الحبيب بورقيبة، على الخروج عن صمتهم. وبحسب تقدير السيد محمّد صيّاح، المؤرّخ والوزير ومدير حزب "المجاهد الأكبر" السابق والذي اعتبره العديدون بمثابة الخصم العنيد المُعادي لنشر الديموقراطية، أنّه "في غياب قوانين ديموقراطية ونقاشٍ عامّ، لا يعود للاستقلال نفسه أيّ معنىً فعليّ". وهناك سؤالٌ كبيرٌ يشغل بال الكثير من الناس: ما المطلوب تحقيقه على الأرض، من أجل تفادي انغماس البلاد أكثر من ذلك في غياهب التسلّط والفساد وإفادة الأقارب [6]، ومن أجل إعادة الأمل إلى الشباب الذين يلجأون بشكل متزايد وبفعل اليأس إلى العنف أو التطرّف الإسلاميّ؟
إنّ التوسّع، في الأعوام الأخيرة، لدائرة التونسيّين المُصمّمين بالرغم من كلّ شيء على ممارسة حقّهم في حرّية التعبير والتجمّع، هو دليلٌ لا يُخطيء. لذا، يُوصي المؤرّخ رؤوف حمزة ببناء "فسحات صغيرة للتفكير"، من أجل دراسة مشاكل المجتمع وآليّات مقاومة التغيير.
إنّ الحركة التي انبثقت عن إضراب الطعام والتي وصفها الشيخ الغنّوشي بـ"الولادة الجديدة" للمعارضة، قد تُساهم في الحدّ من التآكل الذي يطالُ المسلَّمات الاجتماعية التي تمّ وضعها في السنوات الأولى للاستقلال (التعليم والصحّة وتحرير المرأة وتساوي الفرص في مجال العمل). لكن شرط أن يبرهن هؤلاء الناشطين بسرعة عن قدرتهم على التعالي فوق الاعتبارات الفئويّة والخصومات الشخصيّة، ليبرهنوا عن تعلّقهم بمباديء الديموقراطية والشفافيّة والتضامن. كما أنّه من مصلحتهم وضع برنامجٍ مشترك، من أجل بناء دولة القانون المحرّكة للمجتمع والتي من شأنها إرغام الشركاء الغربيّين للسيد بن علي أخذ وجود استراتيجيّة للتحرّر من الديكتاتوريّة على محمل الجدّ.
* صحافيّ تونسيّ
[1] حول موضوع التراجع المستمرّ لوضع الحرّيات، مراجعة تقريري بعثة إيفيكس في العام 2005 على الموقع الالكتروني:www.ifex.org
[2] مثقّفون، أمثال طاهر حداد (1935-1899) الإصلاحي والمؤيّد لتحرير المرأة، والشاعر أبو القاسم الشابي (1934-1909،) تركوا آثارهم لدى أجيال كثيرة قبل الاستقلال وبعده.
[3] مراجعة شهادات الوزير السابق أحمد بن صلاح والأمين العام السابق للاتحاد العمّالي العام التونسي الطيّب بكوش، التي نشرتها مؤسّسة تميمي للأبحاث العلمية والمعلومات، والتي أُخضع عملها للرقابة، على الموقع الالكتروني: www.temimi.refer.org/fondationtemimi
[4] La Tunisie de Ben Ali, sous la direction de Olfa Lamloum et Bernard Ravenel, l’Harmattan, Paris, 2002. Lire également, Michel Camau et Vincent Geisser, Le Syndrome autoritaire, Presses de Sciences Po, Paris, 2003 et Sihem Ben Sedrine et Omar Mestiri, L’Europe et ses despotes, La Découverte, Paris, 2004.
[5] القانون 88-2005، الصادر في 27 أيلول/سبتمبر 2005، "المتعلّق بالامتيازات المخصّصة لرئيس الجمهورية بعد انتهاء مهامّه"، الذي نُشر بسرعة مذهلة في الجريدة الرسميّة في نهاية أيلول/سبتمبر 2005.
[6] انتقلت تونس فجأة من المرتبة 39 في العام 2004 الى المرتبة 43 في العام 2005، على لائحة تقصّي الفساد في العالم التي تضعها منظّمة "الشفافية الدولية": www.transparency.org