الدكتور رامي ديابي
كان هناك الكثير مما يلفت الانتباه في هذه الدولة (ماليزيا) التي تتطلع لمصاف الدول العظمى وتتقدم حضارياً في اتجاه متسارع ولكني سأتكلم اليوم عن قضية واحدة وجدتها جلية وأنا أتجول في كل مكان في ماليزيا
حيث لفت انتباهي أن العلم الوطني هو شعار متكرر فوق كل منابر الحكومة ومكاتب الناس ومنازلهم وسياراتهم ولم أرى صورة فلان أو فلان كما هو الحال في بلاد العربان فالولاء هنا وطني قبل أن يكون لشخص الحاكم
فقلت أضم هذه إلى ما لاحظته منذ البداية من رفع شعار " اقرأ " كهدف أساسي للتنمية حيث تبدأ التنمية بتنمية العقول والفكر ورفعه فوق كل أولويات مدنية أو حضارية أخرى (تنمية الإنسان لا البنيان كأولوية) بالإضافة للمخزون الإسلامي الذي اعتزت به ماليزيا ولم تنسلخ عنه حضارياً،وهو ما يمكن وضعه كعنوان أساسي لمشاريعها الإسلامية الكبرى مثل الدينار والدرهم الإسلامي (الاستقلال الاقتصادي) ومشروع مؤسسة (حلال) الذي فرض احترامه على معظم الصناعات الغذائية العالمية وكثير من المشاريع التي تربط تاريخ وتراث وثقافة الماليزيين بالعصر الحاضر ومفاهيمه المتطورة..
وكنت طيلة سنوات عمري السابقة أنظر إلى المفاهيم القومية والوطنية أنها مناقضة للمفهوم الإسلامي الموحد للأمة الواحدة المسلمة (لوجود جانب مهم تعصبي على غير أسس إسلامية وهو ما يسمى بمصطلحات الدين "بالجاهلية " في كلا الخطابين) ولكن تبين لي (شق آخر إسلامي تنموي غائب من منظاري القديم نحو المفهومين القومي والوطني) وخاصة بعد نداء الأستاذ الغنوشي وتأييد الدكتور الزنداني له في ضرورة إحياء المفاهيم القومية العربية كمرحلة نحو الدولة المسلمة الواحدة بعدما تبين أن الكثير من الحكومات اليوم قد أهملت هذا البعد الوطني لها (بضغط خارجي من حكام العالم الجدد أو لهوى في نفوسهم " اتحاد أفريقي بديل عن العرب ") مما سبب لها خلخة في نسيجها التنموي وضياع في هويتها القومية وفتح الأبواب للغزو الفكري عليها (فضاعت تلك الدول في ثوابت هويتها الوطنية فصارت على قول من قال أسلمت سارة فمازاد المسلمون وما نقص النصارى)
فرأيت أن الحال ينطبق على المفاهيم الوطنية العربية كذلك (إذ يصلح أن يكون الخطاب الوطني إسلامياً مرحلياً ضمن منظومة إسلامية فيستفاد من طاقة الإسلام التنموية في استثمار أمثل للقيم الوطنية ضمن إطار الإسلام)، ورأيت أن الإسلام يمكن بمفهوم متحضر أن ينظر له (من ناحية أخرى) ويطبق تنموياً على أنه لا يناقض الخطاب الوطني ولا القومي وخاصة إذا جاء ضمن خطاب مرحلي ضمن إطارالإسلام الشامل الذي يجمع أمة المليارين (ولعل شاهدي هنا تجربة ماليزيا في الجمع بين الخطاب الوطني والإطار الإسلامي الثقافي) (وخاصة بعدما أفرز الخطاب الإسلامي للصحوة الإسلامية الكثير من الفكر الثوري النهضوي للعالم الإسلامي في مجالات التنمية الكثيرة بل وصارعنوان التقدم الوحيد حيث تعطلت كل مراكب الأحزاب والشعارات التقليدية الأخرى (التي بلغت من الهرم عتياً بعدما كانت شباباً في منتصف القرن الماضي) وعجزت على الإتيان بأي حلول للمشاكل العصرية في كل المجالات التنموية وهذا ما لا لاحظناه على مستوى تجارب كثيرة (البنوك الإسلامية وغزوها للغرب - صناع الحياة وثورته الشبابية الإسلامية - الفن الإسلامي وبالونة الفيديو كليب الإسلامي التسونامية واحتلال البرامج الإسلامية والمسلسلات لكثير من فضاء الإعلام وغيرها) وبنفس السياق بدأ الإسلام يضخ لماليزيا السمو الحضاري بمشاريع سامية كمثل (الاقتصاد المستقل عن العملات الغربية - والقيمة الوطنية كمعيار يفرض عالمياً على مصانع الأغذية " حلال") وبقية المشاريع (لاحظوا تأخير بعثة الفضاء الماليزية لحين حساب القبلة ومواعيد الصلاة في الفضاء!)
وشاهدي الأخير هو توفيق الأخ نهاد عوض (رئيس مجلس العلاقات الأمريكية العربية) في أمريكا في صياغة خطاب إسلامي وطني أمريكي بالرغم مما نراه من شدة التمييز العنصري ضد العرب والمسلمين هناك، فالإسلام يحوي الكثير من الكنوز والمفاهيم الثرية الحضارية على أكثر من صعيد (أممي أولاً ثم قومي ووطني) وهو يصلح كإطار تفعيلي تنموي فكري اجتماعي وسياسي واقتصادي وغيره (مولد طاقة) لكل تجمع بشري مهما كان نوعه من أصغر التجمعات البشرية الوطنية الضيقة الإطار إلى أعلاها أممية مع التأكيد على أن التجمع الموالي للهوية الإسلامية هو أعلى مقصد شرعي أساسي ذو أولوية ضمن قوله تعالى (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)
وهنا لابد من الإشارة لناحية أخرى مهمة فالأهلية في الإسلام (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) بمعنى أحب الخلق لله هم أكثرهم نفعاً للخلق وبما أن الإسلام ينظر للعالم الإسلامي كأمة واحدة تتفاضل بقدرة الأفراد على نفع غيرهم وهو هدف نظري للتجمعات القومية في مصافها الأخير الأسمى (لأن وجود تعصب لجنس أو لون ما ضمن أي تجمع بشري وهو ما نعانيه في كثير من الدول المسلمة التي من الله عليها ببعض التقدم الاقتصادي فتحجز الوظائف والترقيات وغيرها لسكان البلد دون من هو أقدر على نفع الناس من المسلمين وتتعطل مصالح العباد بسبب بلادة صاحب الواسطة فلان وعدم أهليته)
فاصلة أخيرة:
صحيح أن الرئيس السوري الحالي قد أنهى حقبة من عهد التماثيل الحكومية في سورية ولكن المطلوب هو تحويل الولاء للمواطنين والحكومة للوطن والتراث الإسلامي والهوية العربية دون ربط الولاء بالشخصيات والأفراد لأن ختام الأمر لأي حكومة ما، لا يعدو إلا أن يكون سوى (يا عبادي إن هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) والتاريخ يكتب بألسنة الناس فليختار العرب ما يرفع به الله من حالهم!
ولن يرفع الله حال أمة ما لم تعتز بما تملك من قيم حضارية يرضاها سبحانه وتعالى.
http://www.thisissyria.net/2006/10/18/forum/01.html