في اليوم
الذي جاءوا فيه
تشبَّع – حتَّى الحافة - بنشوةِ الكلام
وجهه
امتلأ تدريجياً بتعبيرات مألوفة
وعيناه
كانتا تصعدان دائماً
مع دخانه الشَّفيف
نستطيع أن نقول – صادقين –
إنَّه
أجاد بالفعل سرد ذكرياته
والتَّحدث بطلاقة
عن نسائه الماضيات
وعن أصدقاء المراهقة الخجولين.
كلُّ ما كان يقلقنا بجد
هو ازدحام الغرفة
بأرواح رفاقه الشَّفافة
واصطدامها الرَّهيف
بحوافِّ قطع الأثاث العتيق
لم يقاطعه أحد
ولم يتخلَّل كلامه
سوى خيطٍ رفيعٍ من حنيننا ...
لزمانهِ
وتنهدات ساخنةٍ من صدور المغرمين.
سجائره الرَّخيصة
انطفأتْ – أكثر من مرَّةٍ – في أصابعهِ
ولم ينتبه
(أصابعه النحيلة
المليئة بأوردةٍ زرقٍ كالأخاديد)
عرفنا
أنَّه غير قادرٍ بالفعلِ
على منع تسرُّبِ الحكاياتِ القديمةِ من دماغه
أو الحدّ من رعشة الكفين
وانتفاضة البرد التي ألمتْ – فجأةً –
بصدره المفتوح.
أرقدناه على الفور
فوق فراشه المزحوم بدمىً مشوهةٍ
قُطِّعتْ أطرافها بقسوةٍ شديدةٍ
واكتشفنا تحت الغطاء
دميةً طريةً لحدِّ الليونة
في حجم امرأةٍ كاملةٍ
دميةً
جفَّتْ ملايين الحيوانات المنويَّة
فوق سُرَّتها وعانتها
دميةً
ممحوُّةِ الوجه
كان مستمراً في الكلام
وصوتٌ
كخشخشةِ الورقِ المصقولِ
يسقط من فمه
مع كلِّ حرف.
(2)
الحصاة التي في يدي
لم تكن باردةً
ولا ساخنةً
حاولتُ بقدر الإمكان أن أفتِّتُها قليلاً
ولم أستطع
كانت المسافة التي بيني وبين إضاءة الشُّباك تزدادُ
كلما حاولتُ من جديدٍ
إضاءة الشُّباك النَّاعسةِ أيضاً
جعلتْ لكلِّ قطعةٍ من أثاثِ الحجرةِ
ظلاً نهارياً خفيفاً
والحصاةُ
ظلَّتْ على حيادها المطمئنّ
في كفي
وللوهلة الأولى
خيِّل لي
أن سرباً طويلاً من الفراشات
يتسرَّبُ إليَّ ببطءٍ
من فتحة الشُّباك
وارتعاشةً حادةً جداً
ألمَّتْ فجأةً
بكفِّي التي تشيل الحصاة
أجنحةُ الفراشات هي الأخرى
ظلَّت تعكس ضوءاً غريباً
وهْي ترفُّ
وبصدقٍ
أجهدتُ عينيَّ
خلف خيوط الضُّوء الملون
وهْي تنعكس بسرعةٍ هائلةٍ
على مرآة الحائط المقابل
دون فائدةٍ.
فجأةً أيضاً
تسرَّبتْ مقاطع موسيقيةٍ هادئةٍ
من زحمة الشَّارع
صار الأمر بالضِّبط
وكأنَّني أبدأُ في النُّعاس بعد تعب يومٍ طويل
كأنَّني
أصبتُ فجأةً بالخفَّة
الخفَّة
التي جعلتني أعلو مع سرب الفراشات
لفراغ الغرفة الدَّافئ
الدِّفء
الذي أغمض عينيَّ
وحطَّ كطفلٍ
ابتسامةً ملتذَّةً على وجهي
كان الأمر
وكأنَّ ضباباً رهيفاً
سوف يلفّ الحوائط
ويبعث ريحاً تشاغلني كمومسٍ
برعشة شعري على الجبين
كأنَّني عدتُ
مرةً أخرى
طيباً
ووديعاً
ظلَّت الفراشات تدور من حولي
وهْي ترفُّ الهواء
وظلَّ الضوء يرتدُّ عن الأجنحة
لوجهي
كنت أحسُّه طرياً
وأليفاً
كما إصبع امرأةٍ
ينساب على صدغي
أثناء قبلتنا الأولى
...............
..........
......
كأنَّ زحمة الشَّارع
لم تعد موسيقى
وكأنَّني ما طرْتُ
ولا إصبع امرأةٍ
ينساب – ناعماً –
فوق صدغي
حتَّى الفراشات
وسربها الطويل
لم يبق شيء !
كلُّ ما في الأمر
انتصابٌ عجوزٌ في الهدوم
وكفٌ
قابضةٌ – بقوةٍ - على حصاةٍ
تفتَّتْ تماماً
هذه المرَّة !
(3)
في اللحظة الأولى
ظنَّتْ أنها عوَّرتْ إصبعها
بسكينة المائدة
فارتبكتْ حركات كفِّها المبلولة
بماء ثمار الطَّماطم
بحثتْ في البداية عن فوطة المطبخ
ولم تجدها
تذكر أنها كانت في يدها منذ لحظةٍ واحدة
"أين راحت إذن ؟!"
كانت تعرفُ:
بعد قليلٍ ستبدأ ملوحةٌ في التسرُّب لفتحة الجرح
لتشعر مرةً أخرى
بتلك الحرقة المؤلمة
لم تشأ أن تقوم
لتبلِّل يدها
تحت ماء الحوض المجاور
فقطْ
أغمضتْ عينيها الواسعتين
وأراحتْ رأسها فوق كرسيها الطويل
حاولت بجهدٍ
أن تتذكَّر آخر مرةٍ بكتْ فيها
ولم تستطع
كلُّ شيءٍ سكت فجأةً من حولها:
- صوت مواتير المياه عند الجيران
- الرَّنين المراوغ فوق سلَّم البناية المجاورة
- حفيف ستائر الصَّالة عند اصطدامها بالهواء
- ضحك عيال الأسرة الأجنبية
على درجات السُلَّم الخلفيِّ
كلُّ شيءٍ سكت تماماً
لم يبق سوى إبرةٍ
تنسلُّ – بعذوبةٍ – لروحها
ودمعةٍ مالحةٍ
تنسابُ فوق مسامِّ خدِّها ببطءٍ
بطءٍ
لم يلحظه أحد !
(4)
الوردة الوحيدة
التي اشتراها من "ميدان التَّحرير"
كانت مسودَّة الأطراف
بشكل محزن
ولأنَّه – في المسافة الطويلة حتى دكانة الورد –
سأل نفسه أكثر من مرةٍ:
هل من المجدي أن أشترى واحدة ؟!
قرر بصوته المخنوق:
سأشتري واحدةٍ
واحدة فقط
في اللحظة الأولى
ارتعش شيءٌ غامضٌ في صدره
لمَّا تناولها من يد البائعة الصغيرة
وحين ارتبكتْ يداه
أمرها بلطفٍ
أن تلفُّها بورقٍ بلاستيكيٍّ شفَّاف
كي لا تتجرَّح أوراقها الصغيرة
وهو في الطريق إلى البيت
عندها
تساءل فجأةً في سره:
كيف سأجعلها مناداة هكذا
حتَّى الصباح ؟!
(5)
في اليوم
الذي جاؤا فيه
قرَّر الرُّجل الوحيد
أنَّ الليلة – لابد –
ينام في حضن دميته
عرفنا هذا
من عود الكبريت الذي وجدناه – مصادفةً –
فوق سطح البوتاجاز المسطَّح
ومن علبة السَّمن التي مُلئت بالماء
فوق شعلته
وفوق هذا كله
دلَّتنا غنوته التي ارتجلها – للمرَّة الألف –
على اعتدال مزاجه الشاذ هذه الليلة
الليلة
التي سوف يقضيها – رغم دوخته –
في غسل الباروكة المتآكلة
ثم محاولته الصادقة لمدة ساعتين
في تسليك شعيراتها المتداخلة
كسلْك المواعين
نعرفُ:
سوف يستعين بصبر سبعة ملائكةٍ
حتى يكْمل تضفير شعرها الطويل
فيما لا يقل عن تسعٍ وتسعين ضفيرة
كل خصلةٍ منها
تحوي شعرة واحدةً بيضاء
هكذا
تعلَّم أن يجعلها مستعدةً تماماً
لاستقبال حرارة جسمه
فوق برودتها
نعرف:
سوف يحملها بين ذراعيه كدميةٍ
ويحطُّها – برفقٍ – فوق كرسيِّ التسريحة الصَّغير
ظهرها
سوف يثبته بكفه الشِّمال
(كفِّه المسكينة
ظلَّتْ ترتعش بنشوةٍ غامضةٍ
تضخّها قماشة فستانها الخفيف
حتى وصلتْ رعشتها
لعموده الغائر في منتصف الظهر)
(قلم الكحل
ستمحو خطوطه المرسومة
دمعتها النَّشوانة بقسوته الزائدة
وأحمر الشفاه
سينتقل – كلَّه – إلى خديه وشفتيه
من أول حضْنٍ يشدُّها فيه
حتى شخبطة قلم الفلوماستر فوق الحاجبين
ستذيبها قطرات عرقه المحموم)
هكذا
بمنتهى البطء الحذر
أزال وجهها الذي طالعتْه به
لمدة أسبوعٍ
مسح كلَّ الملامح التي شبع منها
وشكَّل وجهها الجديد:
وسَّع العينين بنظرةٍ جنسيةٍ وقحةْ
وزاد من سوادهما
رقَّق الشَّفتين بقدر المستطاع
حتى تناسب لعب لسانه
في فمها
(الشفتان
اللتان تعضَّان على بعضهما
لحظة القذف
وهْي خجلانةٌ !)
جعل ذقنها مدبَّبةً بدرجةٍ تكفي
لتكوين كدْمة أسفل كتفه الأيسر
ليختبر وجودها – يومياً –
أمام مرآة الحمَّام
بفرحٍ مكتومْ
نحنُ نعرف:
سوف يُلبسها القميص الأسود نفسه
ويشدُّ على نهديها المتهدلين
سوتيانها القديم
وهْو يعيد إدخال قطع القطن
التي بانتْ من تمزُّقات جلد جسمها الرَّهيف
ثم .. ؟!
يحملها من جديدٍ إلى فرْشتهِ
لن ينسى
– في البداية –
أن يأخذها بالمُلاطفة:
يعني .. ؟!