حسان م. الحسون
لا شك أن لإبن خلدون المتوفي قبل ستة قرون، قصب السبق على الزعيم الفرنسي الخالد شارل ديغول، عندما ربط في مقدمته الشهيرة بين التاريخ والسياسة. لذا فإنه صار من المقبول أن معظم قراءاتنا لكتاب التاريخ، لا تخرج عن هذا الربط العضوي، إلى درجة قد تبيح لنا – غالبا – أن نقرأه قراءة إنتقائية ذرائعية، تتفق مع رؤيتنا نحن للتاريخ، لا لما هو التاريخ على حقيقته، وما قد نحتاجه نحن من التاريخ وليس في سياقه العام .
ولا يبدو أن ابن خلدون ذاته قد شذ عن هذه القاعدة، وعن قواعد أخرى وضعها هو لنفسه ولقراء التاريخ من بعده، عندما وجد نفسه مضطرا بين حين وآخر إلى الإعتماد على " آفة الأخبار " من النقلة والرواة، وله كل العذر في ذلك. ذلك أنه كان يحاول سد فراغ تاريخي بالغ الغموض في حياة العرب وأيامهم وعاداتهم وقبائلهم. فعلى الرغم من تحذيره من هؤلاء، وعلى الرغم من انتقاده لجهابذة كتبة التاريخ ممن أتوا قبله، كالمسعودي والطبري مثلا، لاعتمادهم روايات مبتذلة ومتهالكة عن العرب والبربر، إلا أنه هو نفسه لم يجد بدا من تبني قصصا مشابهة عن العدنانية والقحطانية وبني إسرائيل والعرب العاربة والمستعربة والكلدان والآرام والبربر. مما لم تجد له الأبحاث والكشوفات الحديثة أصلا، إلا في نقولات الرواة وأساطير الأمم وكتب المؤرخين القدماء، وتخرصات علماء الأنساب والروايات التوراتية التي هي بذاتها معلما في " تسييس التاريخ " وتجييشه .
إنتهج إبن خلدون في مقدمته الشهيرة – ولا شك - منهجا بحثيا لم يسبقه إليه أحد قبله، في محاولة لقراءة تاريخ الأمم قراءة منهجية، حسب " طبائع العمران التي ترجع إلى أحوالها الأخبار وتحمل عليها الروايات والآثار". إلا أن ستة قرون على مقدمته أزالت أطنانا من الركام عن صدر التاريخ، ليثبت الكثير منها أن ابن خلدون لم يختلف كثيرا عن سابقيه، ممن كتبوا التاريخ في النحل والحشو. هذا – بطبيعة الحال - ليس منقصة لجهده الفذ، بقدر ما هو قصور طبيعي عن الإلمام بحوادث وأخبار لأزمنة غابرة، ما كان لابن خلدون ولا لمن أتى بعده أو قبله أن يعرفوها، قبل أن تزيل البعثات الأثرية هذا الركام عن وجه التاريخ .
عاربة ومستعربة
حتى الآن – على الأقل –، لم تتفق المصادر التاريخية، حديثها وقديمها، على تعريف قاطع للعرب، والكيفية التاريخية لظهورهم، أو لظهور تلك التسمية التي ستتخذ فيما بعد طابعا قوميا يشير إليهم. وهل العرب هم مجموعة من البدو الرحل الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربية وحدها قبيل ظهور الإسلام، والذين أشار إليهم ابن خلدون بقوله أنهم اذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب ، وأن الملك لا يحصل لهم إلا بصبغة دينية ذلك أن " الأمم الكثيرة القبائل لا تستحكم فيها الدول "؟ أم أنهم تلك الشعوب السامية التي بدأت زحفها خارج الجزيرة منذ الألف الرابع قبل الميلاد حسبما يذهب إليه معظم المؤرخون وحتى الفتح الإسلامي ؟!
يرى ابن خلدون أن العرب إنما هم عرب عاربة منقرضة وعرب مستعربة ثم عرب " مستعجمة "وهم الذين استعربوا بعد الفتح الإسلامي، ربما اتكاء على حديث شريف يحدد أن كل من تحدث بالعربية فهو عربي. وبالتالي فإنه من الواضح أنه لم يتحدث عن العرب بشكل عام، بل عن عرب الجزيرة قبل الإسلام حصرا حسب الدكتور محمد بيومي مهران في كتابه " تاريخ العرب القديم "، رافضا هذه التقسيمات واصفا إياها بأنها " متعسفة " لاختلاطها بآراء النسابة وأهوائهم القبلية واعتمادهم على التقسيم التوراتي للعرب كعرب عاربة ومستعربة طبقا لصلتهم بإسماعيل عليه السلام وما يستتبع هذا التقسيم من إسقاطات دينية معروفة. هذا الخلط بين عرب ما قبل الإسلام والعرب عامة، سوف يتواصل عبر قرون لأسباب معظمها دينية أو إقليمية أو " فانتازية " فكرية لا أكثر.
للوهلة الأولى ، يبدو أن إثبات هذا الأمر أو نفيه غاية في الصعوبة، بسبب تلك الفجوة الزمنية الكبيرة والممتدة من القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وهو القرن الذي نزل فيه إسماعيل بجوار جرهم القحطانية في مكة، وحتى القرن الخامس الميلادي، حيث عاد هذا الجزء من العالم للظهور من جديد في عهد قصي بن كلاب وحربه مع قبيلة خزاعة على زعامة مكة بمساعدة الروم. فالروم –حسب بعض الروايات - أوعزوا للغساسنة، الذين أوعزوا بدورهم لقبيلة عذرة المسيحية لنصرة ربيبهم وابن أختهم قصي . تلك حقبة تاريخية ما كان لها أن تظهر هي الأخرى لولا كونها إرهاصات لظهور محمد عليه السلام بعد حوالي قرنين من الزمان. وهي الفجوة التي دفعت علماء الأنساب والأخباريين – طوعا أو كرها – لملئها بروايات ما أنزل الله بها من سلطان عن عاربة ومستعربة، وإرجاع جزء من العرب لإسماعيل والعدنانية وآخر للقحطانية، وهي روايات لا تتفق لا عقلا ولا نقلا مع ما ستكشفه الدراسات والأبحاث. ويبدو أن للفضاء القبلي الذي كان شائعا في صحراء قاحلة مترامية أكبر الأثر في تزكية هذا الإتجاه في سنوات القحط الحضاري الذي سببته الهجرات الجزيرية المتعاقبة وتخلف عرب ما قبل الإسلام عمن سبقوهم من هجرات عربية تخلصت شيئا فشيئا من الأفق القبلي الضيق، وانتقلت إلى آفاق أكثر حضارة. كان هذا أمراً منطقياً ، فحياة عرب الجاهلية في صحراء بخيلة قاحلة صعبة المراس كتلك، جعلت العصبية القبلية عاملا أساسيا من عوامل البقاء والإستمرارية، وهو ما لم يعد بحاجة إليه أقرب المهاجرون نزوحا كالأنباط مثلا – رغم قرابتهم اللصيقة بقريش -، تماما كما لم يعد بحاجة إليه أبناء القبائل العربية التي خرجت مع الفتح إلى الشام ومصر والمغرب العربي، فيما بقي ذات " الهم " القبلي حتى عصرنا هذا فاعلا ومؤثرا في بوادي تلك الأمصار وجزيرة العرب.
هنا يبدو أن المؤرخين العرب قاطبة – وللأسباب ذاتها - ركزوا جل اهتمامهم على عرب الجزيرة ما قبل الإسلام من عدنانية وقحطانية، مكتفين بالنزر اليسير من المصادر التي كانت متوفرة لديهم، والتي قامت أساسا على الشعر الجاهلي وكتب الأنساب، والتي من الصعب جدا التعويل عليها في هذا الصدد. ولو جاز لنا أخذ هذه المصادر على علاتها فسنكتشف أن الحرب القبلية المستعرة بين قحطان وعدنان تحدثت عن " تفاخر " كلا الطرفين بصلات قربى بقبائل فارسية، وهذا غريب جدا. في حين سنرى وفي خضم هذه الحرب أن بعض هؤلاء النسابة والشعراء يعتبر أن اليمن القحطانية ليست عربية لا نسبا ولا لغة ، فيما سنجد أن طلائع المؤرخين اليونان يضعونها في صلب تقسيمهم الجغرافي للبلاد العربية كما سنرى ، وبالتالي فسيجوز لنا بكل تأكيد أن نسأل عن صحة ما وصل إلينا من روايات عن عدنانية وقحطانية وعاربة ومستعربة ، وهل هذا التقسيم القبلي – إن صح أساسا – يتحدث (( فقط )) عن من تبقى من عرب في الجزيرة أم يشمل العرب قاطبة ، وإن كان يشملهم قاطبة فهل كان إبراهيم عليه السلام قحطانيا أنجب عدنانيا على اعتبار أن قحطان أبعد زمنا أو عاربة أو مستعربة ، وإن كان ليس عربيا من الأساس فكيف لإبنه البكر إسماعيل أن يكون أبا لقوم ليس منهم وليسوا منه ، أم أن الحديث برمته ليس إلا كحكايا الجدات حول مواقد الثبات الشتوي ؟! .
هذا الخلط لم يعد مقبولا الآن ومواصلة اجتراره على علاته ودون قراءته في سياقه التاريخي والإجتماعي الصحيح ليس إلا جزءا من الحروب القبلية القديمة والإقليمية الحديثة في محاولة يائسة لإثبات مالا يمكن إثباته من أن الفجر العربي إنما بدأ مع بزوغ شمس الإسلام مكتسحا أمامه حضارات الشعوب الأمر الذي لا يعدو كونه أكثر من " فكرا متحفيا " كما يسميه الدكتور عبد الوهاب المسيري وتخندق فكري ليس له مبرر ولا سند تاريخي أصيل .
من هم العرب ؟!
هل يمكن اعتبار الأمم التي خرجت من الجزيرة العربية بداية من الألف الرابع قبل الميلاد – وربما قبل ذلك – على أنهم عرب ؟!
بعيدا عن الإسقاطات القومية لبعض المؤرخين القوميين العرب كالمؤرخ السوري الدكتور أحمد داوود مثلا الذي قد " يعربن " آدم ذاته من أن تلك الشعوب هي عربية قطعا مع كونه يقدم أدلة تأريخية مقنعة على ذلك ، إلا أنه نعم يمكن تأكيد ذلك ولهذا التأكيد ما يبرره من خلال الكشوفات والأبحاث التي قام بها مؤرخون أوروبيون قديما وحديثا ..
هناك جدل تاريخي حول الظهور الأول لمصطلح ( عرب ) وماهو المقصود منه وهل هو تعبير قومي لأمة ما عرفت ذاتها به أو مجرد تسمية إصطلاحية أطلقها عليهم الغير للتدليل عليهم ؟!
المؤرخون العرب القدماء أجهدوا أنفسهم كثيرا في " اجتراح " معنى لغوي وتأصيلي لكلمة " عرب " أوصلهم إلى شبه إجماع إلى أنها نسبة ليعرب بن قحطان قريب العهد بسام بن نوح الذي كان أول من عدل بلسانه عن السريانية إلى العربية ، وهذا محض هراء لم يؤيده أي دليل تاريخي ولم تثبته أيا من الكشوفات الأثرية والدراسات اللغوية التي تمخضت عنها.
ويبدو أن كلمة " عرب " بحد ذاتها مثار خلاف ليس في الزمان وحسب بل في المعنى والقصد منها أيضا، ففي حين نرى أن مصادر صرغون ( سرجون ) الأكادي تتحدث عن قبائل بدوية صحراوية ترعى الإبل في الصحراء دون إشارة لإسمهم ، نجد أن المعينيون - وهم عرب بلا ريب - يتحدثون عن قبائل " الأعراب " التي تعيش في البادية كناية عن التفريق بينهم وبين سواهم من الحضر، وهو ليس أمرا مستغربا، إذ أن هذا المصطلح لا يزال مستخدما حتى الآن لدى العرب، بل استخدمه القرآن نفسه للتفريق بين أهل الحضر وأهل البادية من العرب ذاتهم.
ثم سنجد إشارات واضحة ومحددة للعرب في القرن التاسع قبل الميلاد في عهد الملك الآشوري شلمنصر الثالث، الذي تحدث عن معركة " قرقر "، التي اشترك فيها أمير عربي اسمه " جندب " ، ثم يتحدث ملك آشوري آخر هو تجلات بلاسر في القرن الثامن ق.م عن جبايته الضريبة من الملكة " زبيبة " ملكة بلاد العرب ، ثم اطلاق هيرودوت على سنحريب الآشوري لقب " ملك العرب والآشوريين " ، وهو ذات التقسيم الذي استخدمه الفرس الأخمينيون في القرن السادس ق.م كتقسيما إداريا للإقليم السوري تحت إسم الولاية العربية الآشورية " مرزبانه عربايا آسيريانا" ، كونها تشتمل قوميتين آشورية في الشمال وعربية في الجنوب.
ويقول الدكتور جواد علي في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام" أن لفظة " عربي " لدى الآشوريين كانت كناية عن البدو، وقد لا يكون إسما فعليا لهم تماما. كما عبر العرب عن سواهم من الأمم بلفظة " عجم " من العجمة في اللسان، حتى كاد أن يتحول هذا التعبير مع الوقت إلى مصطلح قومي بالفعل ، وبالتالي فإن تلك اللفظة لا تعدو كونها مصطلحا لا يعبر بالضرورة عن الإسم الصحيح والأصيل للعرب، خاصة إذا ما عرفنا أن الآشوريين، خلافا لجميع حضارات الهلال الخصيب كالأكادية والبابلية والكنعانية والكلدانية السامية الجزيرية المصدر، إنما هم نتاج اختلاط عرقي بين الساميين والسومريين حسب أغلب الآراء التاريخية .
عليه، فإن اعتبار العرب هم كل من هاجر من الجزيرة العربية منذ الإنسياح الأول حدود الألف الرابع ق.م، واعتبار أن كلمة " عرب " بذاتها ليست إلا تعبيرا اصطلاحيا غامضا ، واعتبار أن هذه الهجرات حملت معها لغتها السامية من الجزيرة، التي هي الجذر الأول للغات الشرقية في العالم القديم من بلاد الرافدين إلى الشمال الأفريقي مرورا بمصر حسب ما يراه أرنولد توينبي وغيره من المؤرخين، يعد اعتبارا صحيحا موثقا، بغض النظر عن التسمية القومية الجامعة التي ينضوي تحتها كل هؤلاء.
الإقليم العربي
لم يعد من الشطط القومي – والحالة هذه - أن نحدد ما يعرف بالعالم القديم في مصر والعراق على أنه " الوطن العربي " فعلا لا قولا"، على اعتبار أنه الموطن الأول للجنس العربي، ناهيك عن شمال أفريقيا التي وصلها الكنعانيون ( الفينيقيون ) في القرن الخامس عشر ق.م من الشاطئ السوري، واستمروا فيها حتى سقوط قرطاج في القرن الميلادي الثاني بيد الرومان. يقول شارل جوليان في كتابه " تاريخ أفريقيا الشمالية " أنه قبل الوصول العربي الفينيقي لم يكن هناك أي أثر لحضارة في شمال أفريقيا، وأن الفينيقيين هم أول حضارة معروفة هناك . هذا سوف يعطي لأسطورة القبيلتين البربريتين "صنهاجة" "وكتامة"، على أنهما بقايا غزو يمني مزعوم إلى تلك الأصقاع، ما يبررها. خاصة وأن اللغة البربرية ذاتها تنتمي إلى عائلة اللغات السامية المشرقية .
غير أننا يمكن أن نحدد توثيقا أكثر مصداقية لهذا الإدعاء من خلال تقسيمات المؤرخين والجغرافيين اليونان، ابتداءً من هيرودوت في القرن الرابع ق.م، إلى ديودوروس الصقلي في القرن الميلادي الأول، الذين أطلقوا على هذا الجزء من العالم الممتد من مصر النيل إلى العراق فالجزيرة العربية جنوبا ( أرض العرب ) ، وقسموها إلى ثلاثة أقاليم رئيسية هي العربية الصحراوية والعربية الصخرية والعربية السعيدة .
إن في السماء لخبرا
لاشك بأن تسلسل سقوط تلك الحضارات ( العربية ) منذ القرن الخامس ق.م على يد الأخمينيين ثم اليونان والرومان والساسانيين، وصولا إلى ظهور الإسلام في القرن السادس الميلادي، أدخل المنطقة العربية في فترة طويلة من الإنقطاع " السياسي " وليس الحضاري. بل على العكس، فقد رأينا أن اللغة الآرامية التي تدرجت في التطور من العربية القديمة حتى وصولها إلى أن أصبحت في طورها النبطي لغة القرآن كما يرى فيليب حتي، كانت عبر قرون، اللغة الثقافية – بل والدينية - للعالم القديم كله حتى لدى الفرس الأخمينيين أنفسهم. متجاوزين عن أسطورة انتقال الألفبائية الكنعانية إلى اليونان في القرن الثامن ق.م بواسطة قدموس وأخته الأميرة " أوروبا " في سياق طويل .
إلا أن الغياب السياسي في الحقيقة لم يكن نهائيا وقاطعا ، فقد عادت الدول العربية في الشمال إلى الظهور السياسي منذ القرن الخامس ق.م في والبتراء ( الرقيم ) والثاني ق.م في تدمر، وكلتاهما حضارات " نبطية " آرامية، وفي بصرى الغساسنة وحيرة المناذرة مع كونهما حامياترومية وفارسية على حدود الصحراء. ناهيك عن استمرارية الممالك العربية في الجنوب العربي منذ القرن الخامس عشر ق. م حتى الغزو الحبشي ثم عودتها قبيل ظهور الإسلام .
رغم ذلك ، لماذا لم يقم للعرب في الجاهلية كيان سياسي موحد ؟!
اذا ما عدنا إلى الفرض القائل بأن تلك الأمم السالفة إنما هي شعوب عربية ، فستكون أول إمبراطورية في التاريخ الإنساني هي تلك التي أنشأها صرغون الأكادي في الألف الثاني ق. م، واشتملت على المساحة الممتدة من عيلام ( إقليم الأحواز ) إلى البحر الأبيض ومن شمال الجزيرة إلى وسط الأناضول. وإذا ما اقتربنا أكثر بالتاريخ، فإن الدولة المعينية بسطت نفوذها على كامل الجزيرة العربية وأجزاء من الساحل الأفريقي للبحر الأحمر حتى أسوان ، وبتنازل أكبر، فإن دولا لسبأ وكنده في الجاهلية، كان يمكن أن تقوم بدور مشابه، لولا ظروف سياسية معينة، وإرهاصات كان لا بد منها، لتمهيد الطريق أمام بزوغ الدين الجديد .
غير أنه يصعب التأكيد على أن القبائل العربية التي كانت تعيش في الجزيرة قبيل الإسلام، لم تكن سوى قبائل متناحرة، إعتمادا على الشعر الجاهلي الذي كان يقوم بدور " وظيفي " في حياة القبائل كأحد آليات الحروب القبلية ذاتها، وهو ما ينقصه الكثير من مصداقيته في هذا الصدد. فطبيعة الجزيرة العربية القاسية كانت عامل طرد للشعوب عبر العصور وليس عامل جذب، كما يقول الدكتور محمد عصفور وغيره من الباحثين. فهاهو صرغون الأكدي الجزيري العربي، رغم كونه باني أول امبراطورية في التاريخ، لم يعد ليضم أرض الأجداد لتلك الإمبراطورية رغم قدرته على ذلك. والأمر ليس عصيا على الفهم ، فطبيعة صحراوية قاحلة، لم تكن عبر التاريخ عامل جذب لأي طامح، منذ فجر التاريخ حتى عصر الإستعمار الأوروبي، مرورا بالأخمينيين والمقدونيين الذين بسطوا نفوذهم على كامل العالم القديم عدا الجزيرة واليمن .
تلك الظروف، أدخلت الجزيرة العربية في غيبوبة تاريخية طويلة جدا، أبعدتها حتى عن الدراسات التاريخية وأدخلها عالم الأسطورة. و ما كان لها أن تخرج منها لولا ظهور الإسلام، كعامل شجع الباحثين والأخباريين على العودة لتسليط الضوء على عرب الجاهلية، الأمر الذي لا يعني - بالضرورة - غيبة حضارية لا نملك أدلة موثقة عليها ، ناهيك عن أن تلك الرمال البكر لا تزال بعيدة عن معاول الآثاريين لأسباب ومحاذير " دينية " معروفة، سوف يصعب إزالتها اذا لم ترفدنا بعثات نفطية جديدة، أو رحلة فضائية أمريكية أخرى، بنتائج تشبه تلك التي أكدت أن " إرم ذات العماد " إنما ترقد تحت رمال الربع الخالي على ضفاف بحيرة عظيمة.
بالتالي، فإن الحديث عن عدم قيام كيان سياسي موحد لعرب ما قبل الإسلام والحالة هذه، لا يعدو كونه طرحا جدليا تعجيزيا سيصعب جدا تقبله من الناحية ( العلمية )، وسيصبح كالسؤال عن لماذا الشمس حمراء محرقة وليست زرقاء رومانسية هادئة ؟؟!!!
وعلى أننا يجب أن نفرق بين مجتمع مكة بصفاته الحضارية وكيانه السياسي الذي كان شبيها بالجمهورية الإجتماعية الممثل بدار الندوة وحلف الفضول ومجتمع نجد القبلي الصحراوي ، على الأقل من منطلق أنه سيصعب علينا القبول أن مجتمعا متخلفا سيتمكن لاحقا من حمل أعباء الرسالة الجديدة أو أنه حري أصلا بأن يكون مجتمعا لآخر الأنبياء هذا مع عدم القبول قطعيا بتعميم الحكم – سلبا أو إيجابا - على عرب الجاهلية والنظر إليهم سواءا بسواء أكانوا أهالي حواضر كمكة ويثرب أو بدو رحل ، إلا أنه - وبرأيي المتواضع - فإنه ما كان لكيان سياسي شمولي أن يتحكم بهذه المنطقة قبيل ظهور الإسلام وما سيستتبع ذلك من عثرات ، ومن العجيب فعلا أن دعما من قبل الرومان لقصي بن كلاب بواسطة القبائل العربية المتحالفة معهم لم يتوج بسيطرة سياسية على مكة ، ناهيك عن فشل الحملة الحبشية عليها وتوقف حملة سبئية مزعومة أخرى صرفها يهود المدينة عنها كونها مهجر النبي المنتظر !!.
حروب متاحف .. صغيرة
إلا أن هذا تاريخ غابر لم يعد يجدي إلا في مسألة " تأصيل" الإنتماء للمكان والجنس معا ، فالتاريخ – على أي حال – حمال أوجه ومن الصعب جدا قراءته بتسليم كامل طالما أن قبره لا يزال يتقيأ معلومات جديدة تلغي أحيانا وترفد أحيانا معلومات قديمة ، إلا أنه – أيضا – لم يعد هناك جدوى تاريخية أو حضارية من مناقشة التساؤل الذي لا يزال متداولا عن هل يمكن أن نعتبر الفتح العربي الإسلامي تحريرا للشعوب العربية أو مجرد احتلال " قومي " نال مشروعيته من البعد الديني المصاحب ؟ وهل هذا الغزو العربي المزعوم أزال إلى الأبد آثار حضارات سابقة من قبطية وآشورية وبربرية وفارسية ورومية وغجرية ولاتينية وسماوية وأرضية ؟؟!! .
حقيقة لم يعد الرد على هذا التساؤل مهما لا سلبا ولا إيجابا، رغم المغالطة الكبيرة التي يحملها السؤال من الأساس. فتلك الحضارات التي يتباكى عند قبورها البعض لأهداف دينية أو إقليمية أو شعوبية أو قومية ... أو كيفما كانت. تلك الحضارات لم تكن قائمة من الأساس حتى فجر النبوة، فالحضارة البربرية قامت أصلا على قاعدة حضارية كنعانية، وكانت قد زالت بالفعل مع الإحتلال الروماني. والحضارة الفرعونية وحضارات الرافدين ذابت مع تعاقب الإحتلال الأجنبي. وحتى لو سلمنا بوجودها فعلا، فمن أي منظار سنحكم على سرعة تقبل هذه الحضارات للذوبان الحضاري واللغوي لآخر موجة عربية خرجت من الجزيرة العربية مع طلائع الفتح رغم مقاومتها الطويلة للإندماج الحضاري بحضارات أخرى وافدة، ورغم أن اندماجا كهذا قاومته فارس قرابة قرن ونصف من الوجود العربي ( المباشر ) فيها في العصر الأموي؟ كذلك استعصت الجزيرة الإيبيرية على هذا الإندماج رغم القرون الثمانية من الوجود العربي فيها، وفي المقابل فلم تستطع قرون أربعة من الحكم العثماني الشمولي أن " تعثمن " العرب رغم الإستبداد الذي صبغ هذا الحكم. بل لماذا لا يدعي القوميون العرب أحقيتهم بأسبانيا على غرار ادعاء اليهود بأحقيتهم بفلسطين رغم بقائهم الزمني القصير جدا فيها ورغم خروجهم منها منذ قرابة العشرون قرنا ؟؟!!.
وعودة لرأي المسيري عن " متحفية " هذه الآراء التي ما عادت في الحقيقة صالحة للإستهلاك الآدمي ، فالتاريخ – كما يرى المسيري – ليس كائنا جامدا منقطعاً بل متحركاً متواصلاً . فالكلام الآن عن حضارات انقطعت تماما عن التواصل منذ 15 قرنا، مقابل وجود عربي لا يزال مستمراً في هذه الأصقاع ليس سوى " فنتازيا " فكرية، ومحاولة يائسة لنفخ الروح بمحتويات المتاحف، التي ما عادت تصلح إلا لفاترينات العرض، ولمسيرات الحزن المقدس، وللتواصل " البحثي " الدراسي لبقايا مستحاثات أمم ماتت بشكل إكلينيكي طبيعي، ولم يعد بالإمكان حتى لعصا موسى أن تقيمها من مرقدها. كما أنه ليس من السهولة إنشاء برامج إصلاحية قائمة على " تفكيكية " قناعات الأمم القومية والدينية، كيفما كان شكلها، بشكل جذري مفاجئ، لإقامة زمن آخر جديد تماما. هذا مستحيل، وقد أثبتت التجربة الأمريكية في العراق استحالته، كما فشلت ستة عقود من الحكم الشيوعي الشمولي القهري أن تنسي روسيا أرثوذوكسيتها ، و هو الخطأ الفادح الذي وقع فيه أنطون سعادة في كتابه " نشوء الأمم "، عندما اصطدم بالقناعات القومية لأمة كان يفترض أنه يحاول بناء عظمتها، وهي الأمة السورية " الهجينة "، على حساب انتمائها الأوسع، ليموت الرجل والفكر معا.
لا ليس قومية
حقيقة، مسألة التاريخ ليست مسألة خلافية إذا ما توافر الدليل القاطع عليها. وحتى مع عدم وجود الدليل، فالموضوعية تقتضي أن نقرأه في سياقه الصحيح، لا أن " نفلسف " مجرياته حسب رؤيتنا السياسية أو الفكرية الخاصة، و حسبما نريده أن يكون لا حسبما هو كائن فعلا. تلك حالة " إنهزامية " ومحاولة يائسة للعودة إلى الوراء. إلا أنه أيضا لم يعد مقبولا أن نحول التاريخ إلى شعار خشبي جامد و فرمان سلطاني قومي إلزامي بمقتضى " المصلحة القومية العليا وظروف المرحلة الراهنة "، بل علاقة " تراض " نجح شارل ديغول في صياغتها إتحادا مصلحيا راقيا ومثالا يحتذى، فيما فشل هتلر على فرضها بقوة السلاح والقومية معا.
لم يعد الحديث الآن عن وحدة عربية شاملة جامعة، تتكئ على عاملي الجغرافيا والتاريخ فقط كلاما منطقيا، بل حلما شاعريا قد ننتظر نبيا آخر يحققه بنبوءة جديدة. على الأقل، هذا ما أثبتته التجربة السورية – المصرية التي أتت بنتائج كارثية، كان للعشق السديمي والرومانسية الوردية المفرطة السذاجة الدور الأكبر فيها. فدورة التاريخ لا تنتظر الحالمين ، والكمنجات التي بكت على العرب الخارجين من الأندلس هي ذاتها التي بكت مع الغجر العائدين إليها.. وضحكت على العرب أيضا .
http://www.josor.net/article_details.php?t...id=289&catid=36