الدولة المهزوزة
لأمن الأردن.. أولا
توجان فيصل
لا يبدو أن رواية الحكومة المتعلقة بقيام حماس بتهريب أسلحة للأردن تحظى بالتصديق الكافي محلياً. فبالرغم من أن هنالك عددا غير يسير من الصحفيين الجاهزين للترويج لكل ما تأتي به الحكومة نجد هؤلاء على غير العادة صامتين. بل إن تصريح واحد من أكثر الصحفيين محاباة للحكومة لفضائية عربية بأن هذه "مسرحية" يعتبر "ضربة من الداخل" !!
ولسكوت الصحافة سببان رئيسيان, الأول بديهي وهو أن القصة غير قابلة للتصديق وبالتالي لا يمكن أن يتبرع أي صحفي بحرق نفسه بتأييد قصة كهذه أمام شارع مؤيد لفوز حماس بدرجة عالية على اختلاف ألوانه, من إسلاميين إلى قوميين يساريين أو ليبراليين أو علمانيين.
السبب الثاني أن الحكومة فيما يروي المطلعون لم "تلح" على كتابها للقيام بالفزعة المألوفة على طريقة "انصر الحكومة ظالمة أو مظلومة", لأن بعض العقلاء من كتابها نصحوها بأنها أوقعت نفسها في رمال متحركة, فآثرت الابتعاد عن صغار الكتاب الذين سيورطونها أبعد مما ورطت نفسها, وستستتبع كتاباتهم ردوداً وتفتح أبواباَ وخزائن, وقد تستخرج هياكل عظمية.
لهذا اضطرت الحكومة لخيار سحب الموضوع من التداول المحلي على الأقل, وأعلنت أنها "ستعرض الحقائق في هذه القضية عبر القنوات المتخصصة, مدعومة بالأدلة غير القابلة للتشكيك حول ضبط الأسلحة"!!
وبعد هذا الاتهام العلني لحماس عبر القنوات الإعلامية يبقى السؤال الملح هو: ما هي "القنوات المتخصصة" الأخرى التي سيتم عبرها "عرض هذه القضية وأدلتها غير القابلة للتشكيك"؟؟ هل هي "البيانات" الحكومية التي تتلى ولا يتاح لأي من الصحفيين المتلقين طرح سؤال حولها أو مناقشة ما ورد فيها؟؟ وهل هنالك أدلة تتجاوز ما يقال عن اعتراف متهمين اثنين في قبضة المخابرات؟؟ وماذا عن أكوام الاعترافات لمتهمين سابقين كثر لم يلبثوا أن قالوا في المحكمة إنها اعترافات أخذت منهم تحت التعذيب لدى المخابرات؟؟ بل وماذا عن أحكام لمحكمة أمن الدولة بنيت على اعترافات كهذه وبيانات ردتها محكمة التمييز مرارا, ودون الخوض في حال استقلال القضاء العسكري أو المدني لكونه ليس موضوعنا هنا؟؟
أنا شخصياً باعتباري كاتبة مستقلة وأردنية أصيلة من سلالة مؤسسي عمان العاصمة ذاتها أي بما يسبق قيام الأردن كدولة, أصر على مناقشة حرة مع الحكومة لهذه الأدلة.. وهذا حقي ومن باب الحرص على الأردن وأمنه الذي لا يحق لأية حكومة أن تدعي احتكاره.. بل ليت حكومتنا وثقت بنا وناقشتنا قبل أن يبدأ العالم مناقشتها على كل الفضائيات والصحف!!
وأبدأ بما قيل عن "تهديد الأمن الوطني" الذي لا يتأتى فقط من تهريب أسلحة وتخزينها في البلد لغايات أوحى البيان الحكومي بأنها استهداف "أهداف حيوية في عمان وغيرها". فقد يكون التخزين لغايات الاستعمال في عمليات ضد الاحتلال الصهيوني. ومن تحتل أرضه يهرب أسلحة عبر كافة الوسائل والطرق, كما أن "التخزين" إن صح أنه تم على يد حماس متوقع مع توقف حماس عن العمليات العسكرية منذ زمن لأسباب عدة معروفة.
وهذا ليس دفاعاً عن حماس, ولكنه تفسير مشروع لوجود سلاح مخزّن أو مهرب عبر الأردن أو أي بلد عربي مجاور, في ضوء ما نعرفه عن تاريخ طويل لمقاومة الاحتلال كان لآبائنا وأجدادنا "الأردنيين" شرف المشاركة فيه.. وقبول الرواية الحكومية لا يعني بالضرورة قبول التفسير الحكومي دون نقاش أو تمحيص.
وحتى عند قبول "كامل" الرواية الحكومية, يظل لنا عليها تحفظان, الأول: نشرها في هذا الوقت وبهذه الطريقة. فحالة الحصار الدولية المضروبة على الفلسطينيين ليست ضد حماس بقدر ما هي ضد شعب بأسره. وتوجيه تهمة "إرهابية" من "ذوي القربى" لحماس, يقوي حجج من يجوعون الشعب الفلسطيني في عقاب له على خياره الديمقراطي.
ولأننا لا نؤمن بأن في السياسة صدفا "خيرا من ألف ميعاد", فإننا لا يمكن أن نفصل بين هذا الكشف لما قيل إنه مؤامرة كانت تتم متابعتها منذ زمن, في مساء اليوم السابق لزيارة الزهار للأردن, وبين إلغاء تلك الزيارة إرضاء لأميركا أو خضوعاَ لضغوطها المعروفة على جميع الدول العربية بدون استثناء.
فقد استنكف وزير الخارجية المصري عن لقاء وزير خارجية فلسطين بزعم انشغاله, في رسالة مصرية مشابهة لأميركا, ولم نعتبر الأمر بهذه الخطورة. بل إن مصر اكتشفت حديثاً أيضاً أن لبعض القياديين الفلسطينيين يدا في عمليات تمت ضد أمنها, منها اختطاف الدبلوماسي المصري حسام الموصللي وحادثة إطلاق النار على الجنود المصريين عبر الخط الفاصل في رفح, فما كان من عمر سليمان إلا أن استدعى محمد دحلان قبل حوالي شهر واتهمه بأنه مسؤول عن الحادثتين في نبرة وصفت بأنها غاضبة جداً, وقال له إن "هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي ستسمح فيها مصر بأن يتم التعامل معها بهذه الطريقة" وإن سليمان لم يستدعه (أي دحلان) "إلا بعد أن تأكدنا من أنك تقف وراء هذه الأحداث".
والسيد سليمان رجل أمن أساساً, فهو مدير المخابرات المصرية السابق, ومع ذلك تصرف بطريقة سياسية دبلوماسية. وكان الأجدى بالحكومة الأردنية التي يرأسها عسكري سابق (ضابط جيش) أن لا تدع الأمني يطغى على السياسي, كي لا تكرس تهمة أن قدومها كان لأجل "تغليب الملف الأمني على السياسي والاقتصادي, في محاولة للتراجع عن مقولات الإصلاح", وهو ما لمحت إليه الصحافة وقوى سياسية عدة عند تشكيل هذه الحكومة بعد حوادث التفجيرات في فنادق عمان.
بل إن جزءاً من الشارع كان يقول "إن العمليات مدبرة من بعض الجهات الأمنية لتبرير حملة مقاومة ثقافة الإرهاب والتكفير, وإن هنالك من شكك في صدق الروايات الرسمية المتلاحقة", وهو ما جهرت به صحفية بارزة, وأمكن نشره لكون الكاتبة محسوبة تاريخيا على الموالاة (رنا الصباغ, " متى سن**ر حاجز الصمت", جريدة "العرب اليوم", العدد 5-12- 2005).
التحفظ الثاني يعود للوضع التاريخي والسياسي والديمغرافي الخاص بالأردن, مما يستدعي حذراً وروية سياسية أكبر بمراحل, فليس أخطر على أمن الأردن مما يمكن أن يبث الفرقة والتشكيك بين أبناء شعبه.
فعلاقة الأردن بحماس (أو أي تنظيم فلسطيني آخر) غير علاقتها بأية دولة عربية أخرى لكون العديد من قيادات حماس وحتى من كوادرها يحملون الجنسية الأردنية. حتى من حمل الهوية الفلسطينية منهم أو طلب منه التنازل عن الجنسية الأردنية يبقى أهله في الأردن أردنيين يتمتعون بكامل حقوق المواطنة.
و"المساس بالوحدة الوطنية" يعتبر من التهم التي يحال الأردنيون بزعم اقترافها كلما شحت التهم لمحكمة أمن الدولة الذائعة الصيت, خاصة منذ أن أطلق الملك الراحل عبارته الشهيرة: "من يمس بالوحدة الوطنية عدوي إلى يوم القيامة"!!
صحيح أنه ندر من صدق رواية الحكومة, ولكن قلة زعمت التصديق لأغراض نفعية تسترضي بها الحكومة. ولا نتحدث هنا عن حزبين هامشيين "غير معارضين" مع أنهما ليسا في الحكم, مما يوضح وسائل مثل هذه الأحزاب التي بدأت تشكيلها زمر صغيرة من رجال العهد العرفي للوصول للمناصب, ومنها للأسف صب الزيت على النار بتصريحات من مثل "المحاولات الآثمة " و"نشاطات استطلاعية يائسة".
لا نتحدث عن هؤلاء لأنهم ليسوا على الخارطة السياسية الأردنية بأي شكل من الأشكال, ولكننا نتحدث عن مجلس النواب, أو من سمحوا لأنفسهم بإصدار بيان باسم المجلس (غير المنعقد) في اليوم التالي لإعلان الحكومة الذي صدر مساء, أي قبل الإعلان عن أية أدلة, ناهيك عن تدقيقها وتمحيصها وتداول أعضاء المجلس لها مما يستوجبه شأن جلل كهذا.. والبيان يقول إن المجلس "فوجئ بمثل هذه الممارسات", ويعلن "رفضه الشديد" لأي تجاوز على الأمن الوطني "من جانب أي كان ولأي مبرر كان"!!!
مجلس النواب الذي لم يرفض -لا بشدة ولا بلطف- قرار الحكومة الأخير رفع أسعار الوقود بنسب رهيبة أدت لرفع جنوني للأسعار عموماً يهدد الأمن الغذائي والدوائي والمعيشي والاجتماعي للغالبية الساحقة من الشعب الأردني, ومما يستوجب سذاجة متناهية أن يقال إن أنواعاً أخرى من "الأمن" التي تعني الحكومات وحدها ليست مهددة.
مجلس النواب هذا يتطوع برفع وتيرة تهديد الأمن الوطني بالنفخ في شرارة "بيان حكومي متسرع " على أحسن حال ليبرر صمته عن "قرار حكومي" أطاح بأمن الأردنيين المعيشي!! فأي لعب بالنار هذا, وفي فترة ساخنة بكل المعايير؟؟!! وهل هنالك دليل أوضح على أن الشعب خارج عن هذا التحالف الحكومي النيابي, من الصمت الشعبي والصحفي طوال أسبوع من الإعلان ؟؟!!
وهل من دليل أكبر يقدم للعالم على وعي الشعب الأردني واستحقاقه للديمقراطية التي كانت ستنتج مجلساً وحكومة مختلفين تماماً.. لولا أن قيادة العالم الأحادية لا تريد لنا الديمقراطية, بل تريد بيانات واتهامات ومعارك نخوضها بدلاً عنها لإسقاط حكومة ومجلس نواب فلسطينيين منتخبين بديمقراطية و"نزاهة" عالية شهدت عليها "قيادات" هذه القيادة العالمية الأحادية !!
ولكننا حين نخوض هنا في الأردن معركة غيرنا مع حماس فإننا نخوضها ضد أنفسنا مباشرة وحرفيا ضد وجود الدولة الأردنية. فحين تفشل حكومة حماس أو حين " تنجح" الضغوط عليها أو على الشعب الذي انتخبها لإسقاط خيار المقاومة أو حين نمكن أعداءها منها بتثبيت تهم "الإرهاب" عليها، فإننا نفسح المجال للمخطط الصهيوني الجاري تطبيقه والذي يجاهر به كل زعماء إسرائيل بلا استثناء وبشكل خاص أرييل شارون وأتباعه, وهو مخطط "الوطن البديل".
أفلا يكفينا هذا الخطر وحده لنزيد عليه بالمجازفة بإشعال الساحة الأردنية بإعلان أن إرهاصات الاقتتال الداخلي بدأت, و"بتخطيط وترصد قائم منذ زمن", وبإدخال "أسلحة خطيرة ", وصولاً إلى القول بأن "الأوامر بالتنفيذ" قد أعطيت؟؟!!
نعرف بالمنطق البسيط أن الجبهة التي تقف عليها حماس أكبر مما يقدر عليه فصيل أو حكومة, مما لا يتيح لها أن تفتح جبهات حتى مع أعداء معلنين لها وللأمة, كما لا يعقل وهي محاصرة أن تفتح أية جبهة مع الأردن الداعم شعبه لها والذي يشكل بوابتها الأوسع إن لم نقل الوحيدة على العالم.
ونحمد الله على وعي الأردنيين, من يقول بالأردن أولاً ومن يقول بقضايا الأمة الأسخن أولا.. فهؤلاء جميعاً رفضوا تسخين ساحتنا, ورفضوا استيراد التوتر الداخلي الفلسطيني الذي شارف الانفجار بين فصائل المقاومة كلها وليس فقط حماس, وبين من يعتقد أن عمليات المقاومة "حقيرة" .
كما يرفضون استيراد الانتفاضة الموشكة على الاندلاع في الأراضي المحتلة المحاصرة. فهذا "التصدير" كان ببال من نصح حكومتنا, ولا نقول إنه كان ببال الحكومة.. ولكن "ليس في كل مرة تسلم الجرة"!!
ــــــــــ
كاتبة أردنية
|