الإفلاس المالي في العرف التجاري حالة يقع فيها صاحب المؤسسة فيكون عاجزاً عن الوفاء بما يتوجّب عليه من ديون واستحقاقات. وثمة حالات تُسمى إفلاساً احتيالياً، وهي تلك التي يصطنع فيها رجل الأعمال أو يزعم عجزاً عن الدفع ولكنه في واقع الحال يخفي ثروة جناها على حساب أصحاب الحقوق، وفي الأمر سوء نيّة.

نحن في لبنان نعيش حالة إفلاس سياسي، حيث نجوم الساحة السياسية بلغوا حالة عجز مطبق عن الوفاء بأقل واجباتهم تجاه المواطن والمجتمع والوطن. وفي المضمار السياسي حالات من الإفلاس الاحتيالي حيث بين نجوم السياسة من يبني أمجاداً على عجز متعمّد عن القيام بواجباته الوطنية وتكون حالة العجز من صنع أيديهم. أولى أمارات الإفلاس المبالغة في تمويه الحقائق. فالكل يعمد إلى تضخيم أعداد المشاركين في التظاهرات والاعتصامات، فنسمع بمليون متظاهر احتشدوا في ساحة الشهداء ونسمع في المقابل بمليون آخر من فريق مضاد احتشدوا في ساحات الضاحية أو ملاعبها.
هذا التباري في المغالاة، في عملية عرض عضلات جماهيرية يستمد منها الفريقان قوة في المواجهة، لم يكن دقيقاً ولا مجدياً.
لم يكن مجدياً بمعنى ان أياً من الفريقين لم يستطع إظهار تفوق حاسم في هذا المجال، فكان أن عطلت إحدى التظاهرتين مفعول الأخرى على هذا الصعيد.
وكانت الصورة غير دقيقة ففقدت صدقيتها: هناك إجماع بين المطلعين على أن ساحة الشهداء لا تزيد مساحتها عن 50 إلى 80 ألف متر مربع.
فإذا اعتمدنا التقدير الأعلى، أي 80 ألف متر مربع، وإذا افترضنا أن المتر المربع لا يمكن أن يستوعب أكثر من ثلاثة أشخاص مهما ازدحموا وتدافعوا، فإن الحصيلة تكون 240 ألف متظاهر.
وإذا أدخلنا في الحساب بعض الطرقات والشوارع الفرعية المتصلة بالساحة لما خرجنا بأكثر من 300 ألف متظاهر.
فأين هذا من تقدير المليون متظاهر الذي يتردد على كل شفة ولسان. وما يصح على ساحة الشهداء يصح كذلك على الحشود المقابلة في الضاحية الجنوبية. فعلى الجانبين التزام شيء من التواضع والموضوعية في عرض العضلات الجماهيرية حرصاً على الصدقية.
في لبنان حالات من الإفلاس السياسي، بعضها احتيالي، وهي تعمّ كل مراتب الطبقة السياسية من قمتها إلى أخمص قدميها.
على مستوى القمة يرتضي رئيس الجمهورية التمديد لولايته مع علمه بالرأي الراجح ومؤدّاه أن في ذلك خرقاً للدستور، من حيث إن الدستور يشكّل مرجعا يضم أحكاماً عامة تسري في كل الحالات والظروف.
هي بالطبع خاضعة للتعديل بحسب أصول معينة بإحلال قواعد عامة جديدة محل قواعد عامة لم تعد وافية بالغرض أو بالمصلحة العامة.
أما أن يُعدّل الدستور استثناءً ولمرة واحدة لخدمة حالة معيّنة أو مصلحة خاصة، فأمر يتعارض مع روح الدستور ويعدّ خرقاً فاضحاً له.
والرئيس يتعرّض لحملة واسعة تطالبه بالتنحّي يومياً، فلا يجد ما يقول سوى أنه باقٍ حتى آخر لحظة من ولايته الممدّدة. انه اعلان إفلاس، وبات يتراءى في مظهر المتشبّث بالكرسي الرئاسي دون الالتفات لأي اعتبار آخر. وقد فوّت الرئيس فرصاً لمخارج لائقة للتنحّي، إحداها من ضمن مبادرة للإنقاذ الوطني طرحها منبر الوحدة الوطنية (القوة الثالثة) في وقت يبدو فيه الوطن مهدداً في وحدته وتالياً في وجوده. والمبادرة تضمن التنحّي في مهلة معقولة، فتنقذ البلاد من مأزق خطير مع المحافظة على كرامة الرئاسة الأولى والانسجام مع منطق الدستور والشرعية.
أما على مستوى سائر الطبقة السياسية فتسود حالة من الافلاس الخطير، إذ يتبارى رموز الساحة في استنفار المشاعر والعصبيات المذهبية والطائفية بين الناس في خطب ودّهم وطلباً لشعبية آنية رخيصة، فإذا بالساحة الوطنية ساحات، تتمزقها اصطفافات على خطوط التمايز والانقسام الفئوي، تهدد لبنان المجتمع والدولة في وحدته وتالياً في صميم وجوده. لا يتورّع بعضهم عن الدعوة إلى اجتماع مسيحي أو سنّي أو شيعي أو درزي لإطلاق مواقف تجعل فئة في مواجهة الفئات الأخرى، ولا يتورّع آخرون عن عقد تحالفات ظرفية عارضة بين فئتين في مواجهة الأخرى فلا يخدع هذا أحداً. فاجتماع الفئات يبقى اجتماعاً طوائفياً، ولا يرقى إلى مستوى اللقاء الوطني.
وتسمع من الطروحات والأقاويل والمزاعم والشعارات ما لا تصدّق أذناك:
هناك من يزعم انه تعرّض للتهديد والوعيد فأدلى بصوته دعماً لتمديد ولاية رئيس الجمهورية، مع العلم بأن سواه اعترض على التمديد ولم ينله سوء.
ويجهر البعض بهذه المزاعم وكأنما شرف لهم أن يكونوا قد رضخوا لتهديد أو وعيد، ولا يأبهون للقول انهم بذلك قد خانوا الأمانة التي أولاهم إياها المواطن الناخب يوم الاقتراع، حانثين بموجبات الوكالة التي آلت إليهم بنتيجة الانتخاب. وما خطر لهم أن يستقيلوا من النيابة إعراباً عن رفضهم للضغوط والإملاءات التي تتحدّى ضميرهم ووجدانهم.
وهم لا يتوقفون عند تساؤل مشروع: إن كنتم قد رضختم في حينه إلى صوت التهديد والوعيد، فما الذي يضمن أنكم اليوم، في ما تقولون وتفعلون، لا ترضخون لمثله من مصادر أخرى أليس هذا ما يعنيه بناء الأمجاد الشخصية الآنية على حساب المجتمع في وحدته واستقراره وهنائه؟
هكذا جعلوا البلد في حال انهيار اقتصادي اجتماعي مع وقف التنفيذ، وما كان وقف التنفيذ بفضلهم من قريب أو بعيد. بل أولاً بفعل اغتراب الشباب طلباً للرزق الحلال، فأبقوا على عائلاتهم عند خط الفقر أو ربما فوقه وحفظوها من محظور الانهيار الكامل. ثم ثانياً بفعل ارتفاع خيالي غير متوقّع في أسعار النفط العالمية، فتولّد عنها فوائض مالية لدى الدول المنتجة أخذت تبحث عن أبواب للاستثمار، فإذا بالمؤشرات الاقتصادية في لبنان تتلألأ على الرغم من الأزمات السياسية المحتدمة والمسلسل الأمني الاجرامي المروّع والانقسامات الفئوية الحادة. هكذا صمدت العملة اللبنانية وبقيت في أفضل حالاتها، وأخذت الودائع المصرفية في التصاعد ومعها أسعار الأسهم المصرفية. وربما، ثالثاً، إلى كل ذلك بفعل المال السياسي الذي يُبذل بسخاء من الخارج على شراء الذمم بين أهل الرأي والقرار، وفي استقطاب الناس إلى التظاهر في العاصمة ورفع اللافتات ونشر الملصقات. بفعل هذه العوامل جميعاً، ولو أن المال السياسي فاسد ومفسد، استمر دفق المال ينصبّ على البلد فصان المجتمع من انهيار محتّم. فإذا بنا في حال انهيار مع وقف التنفيذ.
وأخطر ما في هذا المشهد ما يلوح من مروق على الأخلاق والقيم. أليس أيضاً من تجليات الافلاس السياسي لا بل الاحتيالي، أن ترى البعض يتوانى، عن سابق تصوّر وتصميم، عن القيام بأدنى واجباته الوطنية؟ إنك لتسمع في هذا السياق من الكلام ما لا يطاق:
أحدهم يدعو الدولة العظمى إلى مهاجمة دولة شقيقة، سوريا، لمجرد انه قرر مناصبتها العداء بعد سنوات طوال من الاستزلام لها ومشاركة أجهزتها في لبنان مغانم السلطة المسلوبة. وأمثاله يريدون من الناس أن تنسى ما كانوا يقولون في تمجيد سوريا ومغازلتها والتملق إليها إبان حقبة عربدات الأجهزة في لبنان.
يتجرأ أحدهم على تحذير بني قومه من أن <<البحر من أمامكم والعدو من ورائكم>>، جاعلاً سوريا في موقع العدو وموحياً أن إسرائيل ليست عدواً.
ولا شأن له بما جاء في اتفاق الطائف من تكريس لعروبة لبنان انتماءً وهوية. كيف تستقيم عروبة لبنان باستعداء دولة عربية تحيط بثمانين في المئة من حدوده البرية؟
تطوع أحدهم إلى الحديث عن قرارات دولية بعد لقائه مع وزيرة خارجية أميركا فدعا إلى تطبيقها وعدم الاكتفاء باحترامها على ما جاء في البيان الوزاري للحكومة القائمة. وكأنما احترام القرارات الدولية هو غير تطبيقها! والغريب العجيب في هذا الموقف انتقائيته. فهو ركّز حصراً على القرار 1559، ربما إمعاناً في نكاية المقاومة اللبنانية، وتجاهل قرارات دولية أخرى حيوية ترتبط بها مصالح لبنان الاستراتيجية من مثل القرار 194 الذي يحفظ للاجئين الفلسطينيين حق العودة إلى ديارهم والقرار 242 الذي يؤمن جلاء الاحتلال عن مزارع شبعا.
وتسمع قول أحدهم إنه يقف وراء غبطة البطريرك الماروني في اختيار الرئيس العتيد للجمهورية، وهو الأمين على الدستور الذي يجعل من اختيار الرئيس شأناً نيابياً، وبالتالي لبنانياً، جامعاً، إذ يستوجب انتخابه أكثرية موصوفة تعبّر عن توافق اللبنانيين. وهذا الموقف يُزايد على مواقف باتت مألوفة حيث يدعو أساطين السياسة من شتى الطوائف إلى أن يكون رئيس الجمهورية اختياراً ليس فقط من بين الموارنة بل بقرار منهم، وأن يكون اختيار رئيس مجلس النواب ليس من بين الشيعة فقط بل بقرار منهم، وأن يكون اختيار رئيس الحكومة ليس من بين السنة فقط بل بقرار منهم. كأن الحكم لم يعد وطنياً لبنانياً جامعاً، وإنما فدرالي طوائفي. رباه، هل نحن على طريق التقدّم أم التخلّف؟
كل هذا من آيات الافلاس السياسي، وأكثره احتيالي بما ينطوي عليه من إعراض عن الوفاء بواجبات وطنية سعياً وراء مكاسب يجنيها أهل السياسة في هذا البلد.
أسوأ ما في هذا الافلاس السياسي أنه ليس ممقوتاً مرذولاً بل هو، ويا للغرابة، محمود في المجتمع. صور المفلسين تغطي الحيطان على جنبات الطرقات، واللافتات التي تلهج بحمدهم وإطرائهم تعترض الشوارع، وصفحات الجرائد كما شاشات التلفزة تغص بأخبارهم ومآثرهم. وبفعل كل ذلك تبقى المقاعد النيابية والوزارية مضمونة لهم وحكراً عليهم. ويُسمى هذا الواقع ديموقراطياً. ونحن لا نرى فيه إلا شاهداً على انعدام الديموقراطية. ومحنة لبنان في نهاية التحليل هي في أن حلم الديموقراطية سيبقى بعيد المنال ما دام تحقيقه لن يكون إلا عبر قانون للانتخاب لن يكون في مصلحة هؤلاء الذين يتحكّمون اليوم بالساحة السياسية، وفي يدهم قرار الإصلاح الذي لا يريدون.
هكذا يغدو إفلاس الطبقة السياسية إفلاساً فعلياً لمجتمع ووطن، وطريقاً مسدوداً في وجه المواطن المسكين.