محنة العروبة مع بعض العرب ... بقلم : سليم الحص مقالات واراء
يشهد العراق سجالاً حاداً بين أهله حول هويته القومية. كانت عروبة العراق من القضايا التي أخّرت الاتفاق، أو بالأحرى جعلت الإجماع متعذراً، حول صيغة جديدة لدستور البلاد. والأدهى أن المسألة صُوّرت كأنها مسألة نزاع فئوي، عرقي من جهة ومذهبي من جهة ثانية.



يا لسخرية القدر. العراق الذي كان دوماً حصن العروبة الحصين، العراق الذي كانت تهابه إسرائيل لكونه يختزن قوة التحدي العربي الأعظم للكيان الصهيوني، انقلب بسحر ساحر الى مادة للجدال بين أهله حول حقيقة هويتهم وانتمائهم. لا عجب، لعل هذا كان الدافع وراء حرب الدولة العظمى على العراق: القضاء نهائياً على فكرة العروبة بدءاً بالقضاء على عروبة العراق.

كانت في لبنان مثل هذه المحاولة غير مرة قبلاً. كانت أزمة 1958 الدامية في جانب منها صراعاً حول هوية لبنان القومية، فكانت المجابهة في هذا البلد الصغير بين حلف بغداد (بغداد بالذات) حيث حشدت الدولة العظمى، ومعها لا بل من ورائها الدولة العبرية، قوّتها في جبه المد القومي العربي الذي كان يقودهالرئيس جمال عبد الناصر. فانتهت تلك الأزمة بتسوية عنوانها <<لا غالب ولا مغلوب>>، وبقي موضوع عروبة لبنان معلقا، مادة للتجاذب المتواصل داخل الوطن الصغير، ثم تفجّرت الأزمة الوطنية الكبرى، والتي عصفت بأقصى العنف بالوطن الصغير على امتداد خمسة عشر عاماً، ما بين 1975 و1990، فكانت عروبة لبنان هدفاً مركزياً من أهدافها، وانتهت باتفاق الطائف على توافق بين اللبنانيين حسم السجال المدمّر بتكريس هوية لبنان وانتمائه العربيين.

العروبة، كونها رابطاً لأمة يترامى انتشارها من المحيط إلى الخليج، وهي أمة تلقت بقيام الكيان الصهيوني في فلسطين طعنة نجلاء في قلبها، وجدت فيها الصهيونية منذ البداية مصدر التحدي الأساسي لوجودها، وقد شهر الرئيس جمال عبد الناصر سلاح العروبة في وجه الصهيونية على وجه فاعل إذ استنفر الرأي العام العربي في مواجهة التحدي الصهيوني وبسط نفوذه في طول العالم العربي وعرضه وضرب شبه طوق حول الكيان العبري بإقامة الجمهورية العربية المتحدة التي جمعت مصر وسوريا في كيان مشترك. فلا غرو إن أضحت العروبة، منذ ذلك الحين، هدفاً رئيساً للصهيونية ومعها الولايات المتحدة الأميركية. أضحى تدمير العروبة، كرابط قومي، أول مقتضيات الحماية الاستراتيجية للصهيونية وكيانها في قلب الأمة العربية.

هذا الاستهداف للعروبة الذي لم يحقق مراميه في أزمة العام 1958، ولا في أزمة الخمسة عشر عاماً التي انتهت باتفاق الطائف، عاد فوجد أرضاً خصبة في العراق بفعل حرب أميركا عليه، وكذلك في لبنان مجدداً بفعل الفشل الذريع للتجربة السورية في هذا البلد.

في لبنان استطاعت الحركات الشعوبية تحويل النقمة على سوء ممارسات أجهزة الأمن السورية إلى موجة عارمة مناهضة لعروبة البلد وشعبه. وفي العراق وظّفت قوات الاحتلال الأميركية الواقع التعددي، في ظل تداعيات حكم صدام الاستبدادي والبطّاش في استثارة الحفائظ والعصبيات إلى حدود التصادم العنيف والدامي، فإذا بعروبة العراق مادة خلافية تحول دون الاتفاق على دستور جديد للبلاد: ولولا جرأة بعض القيادات الاستثنائية الواعدة، من مثل السيد مقتدى الصدر، لاتخذ الخلاف منحى فئوياً مدمراً لا حدود لأبعاده. والخطر يبقى ماثلاً في ظل الاحتلال.

إلى ذلك تتعرض العروبة لامتحان في ليبيا. معمر القذافي انطلق داعية للعروبة في كل مكان من الوطن العربي الكبير، واقترن عهده لسنوات طويلة بتحرّك نشط داخل شتى المجتمعات العربية بلغ في اندفاعه حدود الاستعداء لأنظمة قائمة وحدود التحدي لمشاعر جماعات من الناس. وشهدت تلك الحقبة حادثة منكرة هي حادثة تغييب وجه لبناني متميز هو الإمام موسى الصدر. وقدم الليبي نفسه طوال سنوات رافداً لحركة الرئيس جمال عبد الناصر القومية، واتهم في بلاد الغرب بافتعال تفجيرات أمنية مزلزلة أودت بحياة عدد لا يحصى من المدنيين. فاكتسب في بلاد الغرب صورة الخارج على القانون الدولي، ووصم بالإرهاب المتمادي، وأضحت الإطاحة بنظامه هدفاً معلناً. فإذا بالرئيس الليبي ينقلب فجأة، في لحظة من الزمن، مهادناً مسالماً، يدعو إلى التعايش والسلام، متخلياً عن برنامج نووي كان قد أطلقه فألهب مخاوف الغرب. فإذا بالغرب يُبدّل نظرته إليه جذرياً، وتغدو العاصمة الليبية محجّة لرؤساء الدول الأوروبية، الذين أخذوا يتسابقون على خطب وده: وقد انطبع هذا التبدّل في موقف الرجل بطابع الاشاحة عن العروبة، ميمماً شطر افريقيا، فبات يتحدث في الوحدة الافريقية معرضاً عن العروبة.

هذه نماذج من محنة العروبة مع بعض العرب. فأين العروبة، في جوهرها، مما يثار حولها من غبار؟ أين تقف العروبة، في حقيقتها، من الارتدادات القطرية والشعوبية عليها؟ ما هو موقف العروبة من دعوات التمايز لا بل الانفصال من جانب بعض الجماعات بدعوى الانتماء الى أصول اثنية غير عربية؟

العروبة لم تكن يوماً دمغة إثنية عنصرية. بين العرب من يتحدّر من أعراب الجزيرة العربية، وبينهم من يزعم تحدّره من أصول فينيقية أو أشورية أو آرامية أو طورانية، كما بينهم من يعرّفون أنفسهم بأنهم أكراد أو بربر أو أفارقة أو خلاف ذلك. هذه هي الأمة العربية في تعدديتها. ليس في الدنيا أمة لا تتسم بتعددية الأصول والألوان والمشارب. تعددية العرب لا تنتقص من كونهم أمة، ولا تنفي وجود رابط العروبة وبالتالي القومية العربية. فالعروبة ما كانت يوماً، وليست هي اليوم، رابطاً إثنياً أو عرقياً.

إنها تستوعب كل من يختار الانتماء إليها، سواء من أعراب الجزيرة أم ممن يخيّل إليهم أنهم متحدّرون من أصول فينيقية أو أشورية أو تركية، أو من يسمّون أنفسهم أكراداً أو بربراً أو أفارقة ولا نستثني الأرمن.

العرب قوم، إذن العروبة قومية، العرب قوم متعددو المشارب، كذلك هم، وإن ربما بدرجات متفاوتة، الأميركان والفرنسيون والبريطانيون والألمان والروس وسواهم.

العروبة لم تكن يوماً، وليست هي اليوم، رابطاً إثنياً عنصرياً، بل هي رابط ثقافي تراثي تاريخي، معزز بلغة واحدة وثقافة مشتركة ومصالح آنية واستراتيجية متبادلة، وشعور بالمصير الواحد. في العراق أكراد كما في سوريا وفي لبنان. وفي المغرب العربي بربر. وفي الجنوب العربي أفارقة. كلهم عرب، والعروبة تجمع بينهم. صلاح الدين الأيوبي من الأبطال العرب الذين تعتز الأمة بهم وتفاخر، ولو انه من أصل كردي. وكذلك هو طارق بن زياد ولو انه من أصول بربرية.

نقول هذا من دون ان نغفل ان الأمة تنخر فيها حركات انعزالية انفصالية تحت عناوين متفاوتة. هناك بين أكراد العرب من يصر على التمايز وغُلاتهم يدعون إلى الحكم الذاتي لا بل الانفصال. وبين البربر في المغرب العربي تيارات مماثلة. وكذلك بين أفارقة العرب.

موقفنا من هذه الظواهر هو بكل بساطة: العروبة، بما هي رابط قومي، لا يمكن إلا ان تكون تعبيرا عن اقتناع ذاتي، عن إرادة حرة. نحن عرب لأننا قررنا بملء إرادتنا أن نكون عرباً. لذا نقول إن قدر العرب الاتحاد في يوم من الأيام، فالعرب أولى بالاتحاد من الأوروبيين نظراً للقواسم المشتركة التي تجمع بينهم. ولكن طريق الاتحاد إنما تمرّ، في نظرنا، بالتطوير الديموقراطي من جهة وبالتنمية الشاملة من جهة ثانية. إنها تمرّ بالضرورة بالتطوير الديموقراطي لأن الاتحاد لن يستقيم عملياً إلا إذا جاء تعبيراً عن إرادة الشعوب الحرّة، والشعوب لا تعبر عن ارادتها حقّ التعبير سوى عبر حياة ديموقراطية فاعلة. والاتحاد لا يستقيم طويلاً بين مجتمعات متباينة أو متنافرة، والسبيل إلى التأليف بين المجتمعات العربية وتعزيز أسباب التجانس بينها هو التنمية الشاملة في شتى الأقطار العربية.

هذه القاعدة تنطبق على كل الشعوب العربية، وكذلك على كل المجموعات التي تصرّ على نوع من التمايز العرقي مثل الأكراد والبربر والأفارقة. فكما لا إكراه في الدين، لا إكراه في العروبة. كل المجموعات التي تميّز نفسها هي من صلب الأمة العربية شريطة أن تكون هذه إرادتها الحرة. هي عربية تراثاً وثقافةً وتاريخاً، كما هي عربية في ما يشدّها من شعور بالمصير الواحد، وما يجمع بينها من مصالح متبادلة.

الوجه الآخر لهذا التعريف للعروبة هو: أن أي مجموعة تتكون منها الأمة العربية تقرر بملء إرادتها الحرة في يوم من الأيام الانفصال عن الأمة في كيان ينأى بها عن حلم الاتحاد الموعود، يجب أن تكون حرة في قرارها: هي التي تقرر في نهاية المطاف هويتها القومية وانتماءها. ولا يجوز لأحد منا أن يحول دون أن يأخذ الرأي الحر للشعوب مداه.

أما الخيار الفدرالي فليس نقيضاً لوحدة الأمة، بل هو شكل من أشكال التوحيد للأمة. فالأمم ذات الانتشار الجغرافي الواسع وذات التلاوين في المشارب والانتماءات، لا يمكن أن تقوم الوحدة بين أطرافها عملياً إلا على قاعدة اتحادية (فدرالية) ما. فلا غضاضة في مشاريع الفدرلة التي قد تأخذ بها بعض الأقطار أو الشعوب العربية، شريطة أن لا يكون الاتحاد مبنياً على قاعدة طائفية أو مذهبية، إذ إن ذاك سيكون سبيلاً للتقسيم وليس للتوحيد.

بعبارة موجزة، فالوحدة الوطنية والقومية لا تكون قسراً أو بالإكراه. أنا لبناني عربي بالاقتناع والاختيار، وأعتزّ بلبنانيتي كما أعتزّ بعروبتي.