بالأمس كان... واليوم؟ ما هي رسالة العرب إلى العالم؟

بالأمس كان العرب أمة ناشئة فتية مندفعة بحماس وشجاعة تقتحم المجهول من أجل اكتشاف حقيقة الأشياء. كانوا مقتنعين بأنهم يحملون رسالة إلى العالمين ونموذجا للعيش والتعايش أكثر انفتاحا من النماذج المعروفة آنذاك، وهم مدركون لهذه الحقيقة كما أدركها أيضاً الآخرون (الصليبيون مثلا المعجبون بشخصية صلاح الدين الأيوبي كمثال في التسامح والتعايش...). يلاحظ أن هناك شبه ما بين العرب الفاتحين آنذاك والأمريكيين الغزاة في يومنا هذا. فهؤلاء كما أولائك يريدون فرض نموذجهم في العيش والتعايش، لاقتناعهم بأنه هو الأفضل. وهل تنقص الحجج لإقناع المواطن الأمريكي العادي بأن نظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وكل ما يندرج تحت تسمية (ََAmerican way of life) هو الأفضل؟ بل تنهمر عليه الحجج من خصوم أمريكا قبل أن تأتي من حلفائها. لنأخذ مثال هجرة الأدمغة، لن نتناوال المكدونالد والكوكا كولا والمالبورو وغيرها. قد لا نلوم بلدان العالم الثالث إذا ما سجلت أعدادا كبيرة، بالنسنة للموجود إذا انوجد فعلا، من أدمغتها المهاجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن عندما يرى الأمريكي أن مئات من الأدمغة العلمية والطبية وغير ذلك تغادر سنويا أوروبا من فرنسا وألمانيا عداك عن روسيا والصين وحتى اليابان، لتستقر للعمل والعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت نفسه لا يوجد باحث أمريكي واحد غادر الولايات المتحدة للعمل في بلد من هذه البلدان، بصرف النظر عن الاتفاقات بين الشركات أو بين الدول، فلن يكون من الصعب إقناع الشاب الأمريكي المتطوع في الجيش من أجل العيش بأنه، إضافة إلى ذلك، يحمل قضية كبيرة حضارية وتحريرية.
وبما أن هناك، أو هنا، شعوبا تريد أن تتحرر من طغيان حكامها ولا تجرؤ على ذلك لأن الحاكم في نظر هذه الشعوب ما زال يشغل منصب وكيل الآلهة بل أكثر، ظل الإله على الأرض بل أكثر، باختصار الطاعة كل الطاعة لأولي الأمر مهما كان الأمر. فلا بد إذن من الاستعانة بقوات أجنبية، وشرعا لا يجوز أن تكون قوات عربية أو من بلدان إسلامية فحالها حال شعب البلد نفسه وبالتالي سيكون مفعولها باطلا. القوات الأجنبية لا ترحم ولا تقاتل لوجه الله، فالفاتورة ستكون باهظة بالسائلين الأحمر والأسود، عداك عن الخسائر في الألواح التي لم تنقل بعد ولم تترجم، صحيح أنها ليست أهم من الأرواح ولكنها أرواح أيضا ومهمة بصورة أخرى، ربما أهم.
هكذا إذن كان للعرب، يوم كانوا، رسالة سباقة في مقاييس عصرها. ولكن أين هم اليوم وما هي رسالتهم؟؟؟ خلال الفترة الزمنية الممتدة من سنة 1258 م إلى سنة 1798 م بالنسبة لبعض الأقطار أو إلى سنة 1920 بالنسبة لمعظم الأقطار العربية، كان مصير العرب، السياسي والثقافي بصورة خاصة، مرتبطا بإرادة غبر عربية وإن كانت هذه الإرادة تُمارس باسم الإسلام فإن الثقافة العربية لم تعرف الازدهار. يحاول البعض أن يعيد الاعتبار لهذه الفترة ولا يريد أن يطلق عليها تسمية "عصر الانحطاط" كما سماها رواد النهضة الأدبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ولكن منذ بداية عصر النهضة إلى يومنا هذا ما الذي يحرك العرب؟
برزت على الساحة العربية عدة دعوات من القومية بمستوياتها المختلفة إلى الاشتراكية بجناحيها، الشيوعية السوفياتية والاشتراكية الديموقراطية، إلى الدعوة لإقامة دولة إسلامية على اختلاف مذاهبها . كل هذه الدعوات لم تتصف بشيء من الأصالة وخاصة تلك الأكثرها أصولية هي الأبعدها عن الأصالة. فكل من هذه الدعوات تستند إلى نموذج أو إلى تجربة قامت بدورها التاريخي، سلبا أو أيجابا، ومضت!!!
بأي رسالة تخرج هذه الدعوات إلى الناس؟
يستلهم دعاة الدولة الدينية نموذج الخلافة الراشدة ناسين أو متناسين أن الكيان السياسي الناشئ خلال الفترة الممتدة من وفاة الرسول حتى مقتل علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، لم تقم أية مؤسسة من المؤسسات التي تقوم عليها الدولة بمقاييس ذلك العصر طبعاً. ولم يصمد هذا الكيان طويلا أمام الأزمات التي أعادت شياطين الجاهلية إلى الساحة السياسية وتتابعت الفتن الواحدة تلو الأخرى. أولاً الفتنة الصغرى، التي كان فيها مقتل عثمان ثالث الخلفاء الراشدين ثم تمرد طلحة والزبير بقيادة عائشة ضد خلافة علي وأخيرا ليس آخرا الفتنة الكبرى التي ما زالت نيرانها تحت الرماد إلى يومنا هذا تستعر بين حين وآخر لسبب أو لآخر. أبطال هذه الفتن كانوا بأغلبيتهم من الصحابة ومبشرين بالجنة. ولم يردعهم عن الاقتتال العنيف كتاب أو سنة أو شورى! وهكذا سقط مشروع الدولة الدينية بحكم تناقضاته الداخلية في المفهوم قبل الممارسة وبحجة أقوى عند الممارسة. أمّا عن التناقض الداخلي في مفهوم الدولة الدينية فهو ناتج عن وظيفة الدولة من حيث هي أداة تنظيم للمساحة المشتركة بين أفراد المجتمع الواحد قبل كونها أداة قمع اجتماعي وسياسي وإيديولوجي بيد فئة ضد فئة، في حين أنّ الدين هو شأن خاص بالفرد في علاقته المباشرة مع ربه، من حيث المبدأ وفي الأساس. أمّا تفاقم هذا التناقض إلى درجة التناحر والفتن عند الممارسة، فنجد سببه في طبيعة السلطة، وخاصة إذا ما اقترنت بالثروة. السلطة والثروة، كلتاهما قادرة على إفساد الحاكم فما هي الحال إذا اجتمعتا معاً؟ فتخرجه عن الدين وعن الأخلاق ولا يبقى له إلاّ النفاق. أليس هذا الوضع هو السائد في البلدان العربية في غياب أي سلطة مضادة تراقب وتحاسب الحكام وتضمن احترام القوانين من قبل الحكام قبل المحكومين؟
نموذج آخر يستلهمه بعض دعاة الدولة الدينية هو نموذج الدولة العثمانية. وإذا كانت الدولة العثمانية وريثة الدولة العربية الإسلامية بعد سقوط الخلافة العباسية تحت ضربات المغول والتتار، فقد تميزت الدولة العثمانية بقوة عسكرية لا تهزم على امتداد عدة قرون. ولكنها لم تول اهتماما كبيرا لتطوير الثقافة العربية إن لم تقمعها كليا كما حاولت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في صراعها ضد الدعوات القومية الناشئة مستعينة بالعنصر الديني الطائفي. يلاحظ المؤرخون أن أسباب قوة الدولة العثمانية عسكريا خلال قرون، هذه الأسباب نفسها تحولت إلى أسباب ضعفها على طول القرن التاسع عشر إلى حد الإفلاس وتسليم إدارة ماليتها إلى لجنة دولية أوربية. وجرت محاولات (تنظيمات) للإصلاح بدون جدوى. وكانت الإنكشارية قادرة على اغتيال سلطان وتنصيب سلطان. وأخيراً جاءت الحرب العالمية الأولى بمثابة الضربة القاضية بالنسبة للدولة العثمانية وتم تقسيم الإرث العثماني على الدول الأوروبية وقامت على أنقاض الأمبراطورية العثمانية دولة تركية أراد لها مؤسسها أتاتورك (أبو الأتراك) أن تكون دولة حديثة وجمهورية علمانية. فألغى الخلافة التي لم تعد تمثل أكثر من لقب من ألقاب السلطان العديدة الفارغة من أي مضمون.
حبذا لو استخلص دعاة الدولة الدينية الدروس من تجربة الدولة العثمانية لأدركوا أنها لم تكن في يوم من الأيام دولة دينية ولم تزد عن كونها دولة عقائدية تتخذ من الدين أداة إيديولوجية لتبرير أفعالها وتقديمها وكأنها تنفيذ للإرادة الإلهية تبعا للتقليد السائد الذي كرسه معاوية في الدولة الأموية وجدد هذا التكريس أبو جعفر المنصور في الدولة العباسية.
أما عن النماذج التي تستلهمها الدعوات القومية والاشتراكية فيمكن بسهولة أن نلاحظ أنها كانت بمثابة محاكاة لنموذج أصلي انتهى إلى الفشل نتيجة التعصب العقائدي إلى درجة التمييز العنصري. يضاف إلى ذلك التناقض الصارخ بين الأهداف المعلنة والوسائل المتبعة للوصول إلى هذه الأهداف حسب مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" الأمر الذي أدى إلى تعميم الانفصام في االشخصية وتعميقه إلى درجة الانهيار (الانفجار) من الداخل أو الانتحار في حرب ضد كل ما هو آخر مختلف.
يبقى عدد قليل جداً من التجارب أو النماذج الحية الجديرة بأن يستخلص منها دروس ودروس. وهذا لا يمنع أن تكون تجربة فاشلة غنية بالدروس أيضاً.
يبدو أن السلطة بما يرافقها من امتيازات تمارس نوعا من جاذبية تشد إليها كل من تسول له نفسه الاستئثار بها ولا يتخلى صاحبها عن أدنى قسط منها إلاّ على مضض وتحت ضغط سلطة مضادة. وقلما كانت السلطة تنتقل من سلالة إلى أخرى أو من نظام سياسي إلى آخر دون أن يرافق هذه العملية شيء من العنف. وقد اعتبر ماركس في حينه العنف في التاريخ بمثابة القابلة التي تساعد المولود الجديد على الولادة. وقد اقتضى الأمر قرنين أو ثلاثة قرون من الزمن، ما بين أخذ ورد، حتى تمكن عدد قليل جدا من المجتمعات من ترسيخ قواعد للحياة السياسية تضمن تداول السلطة بطرق قانونية سلمية، كما تضمن خضوع الحكام لسلطة القانون كأي مواطن آخر عادي، دون استخدام العنف.
وبما أن الدولة شأن سياسي عام يخص جميع أبناء المجتمع الواحد، والدولة الحديثة تحديدا تقوم على مفهوم المواطن ومبدأ المساواة بين المواطنين، مساواة في الحقوق والواجبات، مساواة أمام القانون، ومبدأ فصل السلطات الثلاث: تشريعية، تنفيذية، وقضائية، بحيث تراقب الواحدة الأخرى وتحاسب كل خرق للقانون الأساسي، أو لأي قانون آخر من القوانين، الأمر الذي يستوجب شفافية وعلانية العمل الحكومي على كل المستويات وفي كل المؤسسات المكونة للدولة وبالتالي مشاركة الرأي العام أو ما يسمى بالمجتمع المدني المفترض وجوده المستقل عن المؤسسات الرسمية، مشاركة فعالة في الحياة السياسية...إلخ
فلعله من المفيد أن تقوم كل الدعوات الموجودة حالياً على الساحة العربية بدراسة تجربتها الخاصة وتجارب الدعوات الأخرى، الماضية منها والحاضرة بأكبر قدر ممكن من الموضوعية! وهذا يعني أنه لا بد من قدرة على الانفتاح على الآخر المحلي والعالمي بدون خوف مهما بلغ اختلاف هذا الآخر ولا بد من الحوار مع الذات قبل الآخر للوصول إلى الحوار مع الآخر. وإذا كان هناك أغصان يابسة على زيتونة الحياة فلتكن لدينا الجرأة على قطع الأغصان اليابسة كل من على فنده، والإفساح في المجال للأغصان الحية والبراعم الخضراء لتتفتح وتخضر الشجرة المباركة قبل أن تقتلعها الأعاصير!

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	رسالة في التفكير	فارس اللواء	0	368	06-09-2013, 09:06 PM آخر رد: فارس اللواء
	رسالة في الإعلام	فارس اللواء	0	363	06-08-2013, 11:00 AM آخر رد: فارس اللواء
	رسالة في السياسة	فارس اللواء	0	339	06-06-2013, 12:15 AM آخر رد: فارس اللواء
	رسالة إلى العقيد	Nowruz	18	4,880	11-01-2011, 08:46 PM آخر رد: فخري الليبي
	مجرد رسالة	فكرعميق	5	1,846	05-13-2011, 02:04 PM آخر رد: فكرعميق