لا يشك المتابع للشأن العراقي في عظم الورطة التي يعاني منها الاحتلال الأمريكي والتي اتخذت أبعادا مختلفة جعلت الحديث عن الانسحاب من العراق مطروحا بقوة على مائدة الأكاديميين والخبراء العسكريين الأمريكيين, ولكن في ظننا أن هذا الانسحاب متى تم فانه ليس كافيا ولا مرحبا به وحده, فثمة استحقاقات أخرى ودين واجب الأداء يجب على المحتلين على اختلاف جنسياتهم أدائه.
مظاهر الورطة الأمريكية في العراق
نقول أن مظاهر تلك الورطة تعددت وتنوعت ولعلنا نذكر بعضا منها كالتالي:
1ـ تزايد وتيرة العمليات وتنوعها
ـ فقد صرح وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد قبل عدة أسابيع أن قواته تتعرض لـ500 عملية أسبوعيًا, وهو ما يزيد عن 71 عملية يوميًا.
ـ ارتفع معدل عدد القصف المكثف من صفر خلال الأشهر الأولى من الاحتلال الأمريكي إلى ما يقرب من 13عملية قصف في اليوم الواحدخلال العام الحالي.
ـ مع نهاية عام 2003 قدر قادة عسكريون أمريكيون عدد رجال المقاومة بخمسة ألاف، وخلال هذا العام ذكر مدير الاستخبارات العراقية إنه يوجد حالياً حوالي 20 ألف رجل مقاتل في العراق.
ـ صرح أحد ضابط التوجيه السياسي والمعنوي في وزارة الدفاع العراقية أن الجيش الأمريكي والجيوش المتحالفة معها والجيش العراقي والشرطة العراقية تتعرض بشكل يومي إلى هجمات بعدد يتراوح ما بين 60 إلى 65 عملية.
وقال:إن من يدعي أن عمليات العناصر المسلحة قلّت فهو متوهم؛ لأنهم ما زالوا يتحركون بمطلق الحرية وينفذون العمليات التي يريدونها في أي مكان يريدون.
2ـ الفشل في التصدي للمقاومة
فبرغم كثافة عمليات الاحتلال الأمريكي ضد عناصر المقاومة والتي تتخذ مسميات عدة منها 'البرق' و'السيف الأحدب' و 'مصارعة الثيران' و'الفئران القارضة', إلا أن ذلك لم يكن له كبير اثر على المقاومة.
ويعبر جيفري وايت، وهو محلل سابق في وكالة استخبارات الدفاع في مركز واشنطن لسياسة الشرق الأدنى عن وضع العمليات في العراق فيقول: 'نستطيع فقط أن نسيطر على الأرض التي نقف عليها وعندما نغادر تسقط مرة أخرى في يد المسلحين'.
وفي اعتراف ربما يكون الأوضح صرح السفير الأمريكي في العراق زلماى خليل زادة : إنه لا يمكن هزيمة المسلحين بالعمل العسكري وحده ، بل هناك حاجة لمخطط سياسي لعزل وإضعاف مكانتها في المجتمع العراقي.
ـ ويقول العريف غلين الدويتش: 'إن رجال المقاومة أذكياء في كل الأوقات، ولقد شاهدنا الكثير من التغييرات في أساليبهم [...] إنهم يتعلمون ويتطورون بشكل كبير وباتت مواجهتهم أكثر صعوبة'.
3ـ انهيار معنويات الجيش
فقد أكدت دراسة قام بها الجيش الأمريكي أن أكثر من نصف الجنود الأمريكيين في العراق يعانون من روح معنوية منخفضة للغاية، وذلك بسبب تصاعد هجمات المقاومة العراقية.
وأظهرت الدراسة التي قام بها الجيش الأمريكي في الفترة من أواخر شهر أغسطس إلى منتصف شهر أكتوبر العام الماضي أن الروح المعنوية لـ 54% من الجنود الأمريكيين منخفضة.
وقد تجلت في عدة مظاهر منها:
ـ انتشار المخدرات على نطاق واسع, فقد كشفت صحيفة 'دايلي تليجراف' البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 23 يوليو 2005م أن المخدرات أصبحت تمثل تهديدًا لجنود الاحتلال الأمريكي بالعراق.
وبحسب الصحيفة فان بعض المجندين الأمريكيين تحولوا إلى اتجاه المخدرات والإدمان بسبب تساقط زملائهم من قتلى وجرحى بصورة يومية, وفرارًا من الرعب الذي تمثله عمليات القتال ضد عناصر المقاومة.
وقالت انه تم توجيه اتهام بتعاطي المخدرات والمواد الكحولية لـ2% من أعضاء السرية 256 المقاتلة.
ويقول كابتن 'كريستوفر كرافتشيك' - محامي دفاع عسكري-: إن بعض الجنود قد لجئوا لذلك لأنهم لم يتمكنوا من مقاومة الضغوط والإحباط.
ـ الهروب من الخدمة, فوفقا لأرقام البنتاجون، فإن السلطات المختصة تلاحق أكثر من خمسة آلاف جندي لهروبهم منذ بداية حرب العراق، فضلاً عن تخلي 800 جندي من الاحتياط للاستدعاء إلى وحداتهم، كما أنهم طالبوا بإعفائهم لأسباب عائلية أو صحية.
وساقت صحيفة 'لوموند' الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 19 يوليو 2005 قصة أحد هؤلاء الجنود ويسمى 'مويسس فيرنانديز' - الذي عاد من العراق في الخامس من يونيو– حيث طلب من أحد أقربائه إطلاق الرصاص على ساقه كي لا يتم إجباره على الذهاب مرة أخرى.
ويروي والد مويسس حالته عقب عودته من العراق قائلاً: إنه 'يستيقظ بالليل ويمشي في المنزل ويوقد الأنوار ثم يطفئها'، إن الجندي مصاب بحالة من القلق نتيجة خدمته في العراق حيث يرى الموت يوميا.
وقالت الصحيفة الفرنسية: إنها ليس المرة الأولى التي يلجأ فيها جندي إلى مثل تلك الخطة لعدم الذهاب إلى العراق، حيث أصيب جندي آخر في منتصف شهر ديسمبر، بعد أن أطلق أحد أقاربه الرصاص على ساقه قبل أسبوع من انضمامه إلى الوحدة.
ـ تفشى الأمراض النفسية, فقد اضطرت القوات الأمريكية إلى سحب 65% من جنودها من إحدى قواعدها العسكرية.
وذكر مترجم يعمل مع الاحتلال أن أغلب الجنود الذين تم سحبهم من قاعدة عين الأسد الجوية
ـ وفقًا لتقارير طبية صادرة من الجيش الأمريكي ـ هم من المصابين بداء الأرق أو الصرع أو الهستريا المستفحلة، أو ممن حاول الانتحار وتم اكتشافهم، أو من الجرحى الذين يسقطون يوميًا بسبب العمليات العسكرية.
وذكر أن حالات العراك والشجار بين الجنود استفحلت كثيرًا ، كما ذكر أن حالات عصيان الأوامر باتت مألوفة في الجيش الأمريكي، حتى إنهم اضطروا لسن قوانين انضباط جديدة.
4ـ فشل عمليات تدريب القوات العراقية
بحسب إحصائية وزارة الدفاع الأمريكية[البنتاجون] فإنه يوجد في الوقت الحالي أكثر من 100 كتيبة للقوات العراقية ووحدات الشرطة الشبه عسكرية، تضم 173 ألف عراقي، وتعمل قوات الاحتلال على زيادة هذا العدد إلى 270 ألف بحلول الصيف القادم.
وأكد تقرير للبنتاجون أن القوات العراقية ليست جاهزة لمواجهة المقاومة المسلحة, وأوضح التقرير الذي أوردته صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر بتاريخ 21يوليو 2005أن نصف فرق الشرطة العراقية لازالت تحت التدريب ولا تستطيع إجراء عمليات عسكرية، بينما النصف الآخر من وحدات الشرطة وثلثي كتائب الجيش لا تستطيع تنفيذ عمليات عسكرية إلا بمساعدة أمريكية.
وقال التقرير: عدد صغير من قوات الأمن العراقية قادرة على قتال المقاومة بدون مساعدة أمريكية، بينما قرابة الثلث من الجيش قادر على التخطيط وتنفيذ عمليات لمكافحة المقاومة.
ـ وفي تقرير حكومي أمريكي آخر أوضح أن جهاز الشرطة العراقية يضم متطوعين لهم سوابق إجرامية بل ومسلحين.
وقال التقرير الذي أردته مجلة تايم في نسختها يوم الاثنين 25 يوليو 2005 والذي استند إلى دراسة أعدتها مكاتب المفتشين العموميين بوزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين: إن عددًا كبيرًا للغاية من المتطوعين 'يعرفون القراءة والكتابة بشق الأنفس' وإن بعضهم انضم لجهاز الشرطة رغم أن له سجلات جنائية أو حتى به إعاقات بدنية.
وقال التقرير: 'الشيء الأكثر إثارة للقلق هو تسلل المسلحين, فهناك أدلة كافية تثبت أن مثل هؤلاء الأشخاص موجودون بالفعل بين صفوف جهاز الشرطة العراقي.
5ـ تزايد المعارضة الداخلية
فقد كشف استطلاع للرأي أجراه مهد غالوب ومحطة CNN وصحيفة يو إس إيه توداي نشر يوم27/7/2005 أن 58% من الأمريكيين يعتقدون أنهم لن ينتصروا في الحرب على العراق، كما أنهم قالوا إن واشنطن لن تتمكن من تأسيس دولة ديمقراطية في العراق.
وأظهر الاستطلاع تغيرا في موقف الأمريكيين مقارنه بالعامين الماضيين, وقال 51% إن إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش تعمدت تضليل الشعب الأمريكي وكذبت بشأن وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق.
الانسحاب بات الخيار الأفضل
نقول مع هذه الورطة التي تعاني منها جيوش الاحتلال فإنه بات مطروحا بقوة 'فكرة'الانسحاب من العراق, على الأقل من وجهة نظر الخبراء العسكريين الأمريكيين.
فقد اعتبر خبير عسكري أمريكي - استدعي إلى الكونجرس لبحث كيفية تحسين الوضع الأمني في العراق - أن المقاومة العراقية ستكون في أوجها خلال ستة أشهر, وأن بدء الانسحاب الأمريكي سيكون لا مفر منه خلال عام.
وقال الجنرال المتقاعد 'باري ماكافري' الأستاذ في الأكاديمية العسكرية في 'ويست بوينت' الراقية ـ والذي قام بزيارة ميدانية للعراق استغرقت أسبوعا: 'إن التمرد سيكون في أوجِه خلال الفترة الممتدة من يناير إلى سبتمبر 2006'.
وذكر 'أن التوجهات الإيجابية بعد الانتخابات التي ستجري في يناير 2006 , في حال تأكدت، ستتيح على ما يبدو انسحابًا كبيرًا للقوات الأمريكية قبل نهاية صيف 2006'.
وكان خبير آخر وهو 'أنتوني كوردسمان' ـ من مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية ـ قد صرح بأنه 'في الأشهر الستة إلى الـ18 المقبلة إما ستنجح الاستراتيجية الأمريكية في العراق أو ستفشل', وقدر فرص النجاح بنسبة 50% فقط.
الانسحاب وحده ليس كافيا
ولكن في ظننا أن الانسحاب الأمريكي ـ على فرضية تحققه ـ ليس كافيا, بل إن الإدارة الأمريكية عليها مجموعة من الاستحقاقات واجبة الأداء قبل المغادرة, وحتى إن خرجت فمن الواجب ملاحقتها وإن تمادى الزمن و تباعد.
ويمكننا الإشارة إلى بعض هذه الاستحقاقات كالتالي:
أولا: إعادة الشرعية
فالحرب التي شنتها الولايات المتحدة لم تستند إلى أسس من الشرعية, ولذلك فان ما ترتب عليها من إسقاط النظام القائم وتولية نظام آخر موال تفتقر كذلك للشرعية, وعليها أن تعيد الأمور إلى نصابها وأوضاعها قبل الحرب.
والحرص على إعادة الأوضاع إلى صورتها الشرعية لا يعنى بحال الموافقة على طول الخط عن ممارسات النظام السابق, ولكن ما يجب التنبه له أن الأمور الداخلية لكل دولة تحددها الشعوب بمحض إرادتها لا من خلال الغزو الخارجي الذي ينصب العملاء والمرتزقة.
ثانيا: تعويض القتلى والمرضى
فقد أكدت عدة دوريات طبية أن الولايات المتحدة استخدمت في حربها أسلحة محظورة ومحرمة دوليا ضد المدنيين العراقيين, وهو ما أدى إلى تزايد نسبة الإصابة بالإمراض الخطرة.
فقد أعلن الدكتور محمود العامري مدير قسم أمراض السرطان في مستشفى اليرموك في بغداد أن الحرب الأخيرة والمستمرة على العراق نتج عنها أمراض فتاكة في الشعب العراقي.
وقال العامري في حديث صحفي يوم27/04/2005 أن الولايات المتحدة استخدمت في حربها الحالية في العراق 61 صاروخا غير مجرب من قبل, كما استخدمت اليورانيوم والنووي المحدود بكمية كبيرة جدا خاصة في الفلوجة والرمادي وسامراء والموصل وتلعفر وبعقوبة والنجف مع جيش المهدي مما تسبب في ازدياد حالات السرطان.
ونقل عن إحصائية رسمية لوزارة الصحة أن 40 حالة سرطان شهريا تفتك بالعراقيين فيما سجلت 7500 حالة سرطان للجلد في نهاية العام الماضي.
أما مجمل الإصابات التي سجلت في صفوف العراقيين من بداية الاحتلال وحتى الآن فقد بلغت 140 ألف حالة سرطان في الجلد والدم ـ قسم كبير من تلك الحالات هي لأطفال تتراوح لعمارهم ما بين تسعة اشهر إلى تسعه أعوام.
أما عن القتلى فقد أظهر مسح أجرته مجموعة إحصاء جثث العراق ـ وهي جماعة أمريكية بريطانية غير حكومية ـ أن ما يقرب من 25 ألف من المدنيين قتلوا منذ مارس 2003.
ووفقا لتقارير الإعلام التي اعتمدت عليها المجموعة في دراستها المسحية فان نصف عدد الوفيات وقع في بغداد حيث يعيش خمس العراقيين الذين يبلغ عددهم 25 مليون نسمة.
وحصر مسح آخر نشرت نتائجه دورية لانسيت الطبية في بريطانيا في أكتوبر الماضي حوالي مئة ألف وفاة في الشهور الثمانية عشر التي تلت الغزو .
ووجدت الدراسة المسحية أن ثلث وفيات المدنيين تقريبا وقعت خلال الغزو نفسه في الفترة من 20 مارس إلى أول مايو 2003 عندما نفذت القوات التي تقودها الولايات المتحدة عملية قصف بغداد التي حملت اسم 'الصدمة والرعب'.
ثالثا: الاعتذار عن الانتهاكات وتقديم مرتكبيها لمحاكمة دولية
فما حدث للشعب العراقي من انتهاكات شهدت فصولها سجون أبوغريب وغيرها لا يجب أن يطويها النسيان, ولا يمكن بحال الاكتفاء بتقديم بعض المجندين إلى محاكم يعقدون معها 'صفقات ادعاء' ويقضون عدة شهور في سجون مكيفة الهواء ويكون هذا هو الجزاء.
فلابد من تقديم كبار المسؤولين الأمريكيين بمن فيهم وزير الدفاع لمحكمة جرائم الحرب الدولية, باعتبارهم المسؤولين عن تلك الجرائم والانتهاكات, وما كان الجنود الذين ارتكبوا تلك الممارسات إلا دمى متحركة.
كما يجب على الإدارة الأمريكية أن تسجل اعتذارها للشعب العراقي عن تلك الجرائم المنكرة, التي هي جريمة في حق الإنسانية قبل كونها جريمة في حق شعب العراق وحده.
رابعا: إعادة تأهيل البنية التحتية وإرجاع الممتلكات المنهوبة
فالقصف العشوائي الأمريكي الذي استهدف البنية التحتية ودمرها عن آخرها لا يجب أن يمر مرور الكرام, ولا يجب أن يتحمل الشعب العراقي نتيجته, ومن ثم يتوجب إجراء دراسة دولية دقيقة عن وضعيات البنية العراقية قبل العراق ويتكفل الاحتلال الأمريكي ومن دعمه في حربه غير الشرعية ببناء تلك البنية من جديد أو دفع تعويضات المناسبة لإعادة تأهيل المجتمع العراقي مرة أخرى.
كما يتحتم على قوات الاحتلال أن تعيد الآثار والممتلكات التي نهبتها أبان الغزو وبعده, وسوار تلك التي كانت مملوكة للدول أو للأشخاص.
وأخيرا فإن ما نسطره في تلك الكلمات لا نودعه حقيبة الأماني والخيالات, بل هي استحقاقات لأمة انتهكت حرمتها وشعب سلبت حريته, وما ينبغي للقاتل أن يذهب بجريرته يعيش هادئ البال.
عن
http://www.islammemo.cc/taqrer/one_news.asp?IDnews=466