لهث خلف الورقة، حتى كادت أنفاسُه تنقطع، أمسكها أخيرًا وتَمسّك بها، ثم راح يجرف أمامه الكيلومترات الخمسة، بليراتٍ خمسٍ وجدها مختبئة بين ثنيّات جيبه.
وعلى باب المشفى وقف ساكنًا يخشى أن يطلب ما يريد حتى بادره البواب بالسؤال، وبعد أن أخبره ما يريد أفسح له الأخير الباب وهو يشير إلى مكانٍ ما.
دخل وخرج سريعًا وبيده زجاجة، وما أن أصبح على الشارع، دسها في جيبه. متحسسا معها بعض النقود في الجيب المسن. تساءل ؟ هل يصل في الوقت المناسب. عصر النقود وهو يشير لأول مرة في حياته لسيارة صفراء. دلف إليها وعيناه تتجه إلى العداد.
= عين الديك من فضلك.
وبدلاً من أن تنهب السيارة الطريق، أخذ العداد بنهبِ نقوده، تململ، ارتعب عندما بدأ رقم العداد بقضم آخر الليرات. هتف مرعوبًا.
= هنا أرجوك.
= لكنك لم تصل بعد.
واضطر أن يخرج علبة الدواء ليخرج النقود. سأله السائق:
= دواء لمن ؟ لابد الحالة خطيرة أنا أعرف هذا الدواء.
= نعم لابنتي وهي في حالة خطرة. وأموالي لا تكفي أجرة عدادك النهم.
انطلق السائق كالبرق قائلاً: = دلّني على الطريق.
أمام البيت المتهدم نزل الرجل وأصابعه الخجلى ما تزال تعصر النقود، وعيناه المتهدلتان تستعطفان السائق، ولكن ما إن استوى على الطريق، حتى انطلقت السيارة كالسهم، تاركة الرجل غارقًا في ذهوله.

محبتي ومودتي (f)
محمد الدرة

عزيزي محمد الدرة،

ندرة نادرة باتت تقدر القيم الإنسانية هذه الأيام.

نعم، نحن بحاجة إلى من يذكرنا بأن الإنسان للإنسان وأن النقود وسيلة لا غاية، وأن هناك أولويات في حياة الإنسان وظروف اضطرارية وأخرى مأساوية، تستدعي جميعا المروءة والشهامة وهي قيم باتت نادرة بسبب الإهمال.

اسمح لي بالتعقيب قليلا على نقطتين في قصتك القصيرة يا صديقي.

شخصيا أجد أنها جاءت غامضة بعض الشيء في فاتحتها وأيضا في خاتمتها. فأنا، ولأني محدود المخيلة بعض الشيء، لا أستوعب الأمر إلا بعد أن يتم علكه ومضغه ووضعه في فمي لأبتلعه، وجدت صعوبة في فهم معنى:

اقتباس:ثم راح يجرف أمامه الكيلومترات الخمسة، بليراتٍ خمسٍ

فهل عثر عليها في الطريق صدفة ، خبأها وراح يجري نحو وجهته، أم أنه استغلها ليستقل حافلة أو سيارة نحو وجهته؟!

أرجح أنه سار على الأقدام.

والخاتمة أيضا في قولك:

اقتباس:وعيناه المتهدلتان تستعطفان السائق، ولكن ما إن استوى على الطريق، حتى انطلقت السيارة كالسهم، تاركة الرجل غارقًا في ذهوله.

احتاجني الأمر إلى إعادة قراءة الفقرة الأخيرة ثلاث مرات لأتأكد أن صاحب التاكسي لم يأخذ من الرجل فلساً واحدا.

ولكن، علي أن أكرر أنني من النوع الذي يحتاج إلى "تنقيط" اللقمة حرفاً حرفاً في فمي حتى أستوعبها.

:97:

تحياتي القلبية

قصة ذات مغذى رائع...اعتراضي فقط على مبلغ 5 ليرات..ربما القصة حدثت 1970 عندما كان لليرة قيمة حقيقية....ربما 50 ليرة أكثر منطقية..

بداية شكرا لمرورك (f).
أما بخصوص تساؤلاتك فقد دأبت القصة يا صديقي هذه الأيام على أن تترك للقارئ مجالا للتفاعل مع الحدث، وهذه من مقومات القصة الحديثة ، حيث كما ترى قد حفزتك على أن تغوص في أعماقها لتصل لشيء ما.
أولا الليرات الخمس ذات دلالة زمانية للنص بأنه جرى ماقبل الثمانينات وهذا استنتاج صحيح لديك.
ثانيا : الكيلو مترات الخمس هي المسافة التي قطعها الرجل بالمبلغ وهو يركب سيارة أجرة.
ثالثا : استنتاجك حول الخاتمة صحيح حيث انطلق سائق التاكسي دون أن يقبض نقودا للدلالة على التواصل الانساني الذي تفرضه الحالة الاجتماعية، لإنسان ما.
فالمحصلة العامة من الأقصوصة أن أشير أؤكّد على أهمية التواصل الاجتماعي الإنساني في زمن الترف والرغد تذكيرا بما سلف.
محبتي ومودتي (f)
محمد الدرة

عزيزي محمد الدرة،

شكراً جزيلا لتفاعلك مع ملاحظاتنا.

ونحن فعلاً بأمس الحاجة في هذه الأيام التي تجتاحها الرأسمالية والرغبة في تحقيق الثراء العاجل بشتى السبل، إلى توعية الضمير الإنساني وتوجيهه نحو المبادئ الإنسانية التي تجعل من الإنسان إنساناً فعلاً.

:97:

برأيي المتواضع، فاتحة القصة تحتاج إلى إشارة ما على أن الرجل قطع تلك المسافة في سيارة أجرة. لأنني اعتقدته ذهب جريا على الأقدام.

:wr:

تحياتي القلبية