علاقة الإنسان العربي -رجلا كان أو امرأة- بجسده علاقة يكتنفها الغموض: هل ينكره؟ أم أن هناك علاقة سرية بينه وبين جسده يحرص على إخفائها؟ وهل هذا الغموض وهذه السرية تميز علاقة الانسان العربي بجسده الخاص فقط أم بجسد الآخر ايضا؟
قبل فترة وجيزة طرحت علي فنانة تشكيلية أوروبية سؤالا حيرني طويلا: لماذا يغيب الجسد عن الفنون التشكيلية العربية ؟
صدمني السؤال في الواقع، وأبحرت في مونولوج طويل يطمح أن يجد تفسيرا لهذه الظاهرة في ادعاء أن تاريخ الفن العربي لم يبدأ إلا منذ حقبة زمنية بسيطة وهي فترة انهيار الخلافة العثمانية ونشوء الكيانات السياسية العربية، ومنذ تلك الحقبة فالجسد بدأ يمارس حضورا خجولا وتدريجيا في الفنون التشكيلية.
اكتشفت فيما بعد أن هذا ينطوي على مغالطة، فقد اعتمدت في مرافعتي على أن الحقبة الزمنية التي شهدت مولد الآداب والفنون في منطقتنا تسمى في تاريخ الفنون "حقبة الحضارة الإسلامية"ـ، وقد كانت الفنون خالية فعلا من الجسد في تلك الحقبة، وبالتالي ما أسهل أن نعلق هذا الخلل على مشجب المفهوم الإسلامي الذي ساد إبان ازدهار تلك الحضارة، والذي يستهجن، بل يحرم رسم وتصوير الشخص بشكل عام، والجسد بشكل خاص، وهذا يفسر اتجاه الفن نحو الزخرفة والخطوط.
الفنانة اقتنعت بعض الشيء، ولكني للأسف لم أقتنع: فهناك حقيقة موضوعية وهي أن هذا الجزء من الحضارة الإسلامية الذي نتحدث عنه له خصوصية الحضارة العربية، لذلك فنحن نسميها الحضارة العربية الإسلامية، لتمييزها عن الحضارات التي تطورت في بلدان اعتنقت غالبية شعوبها الإسلام دون أن يطمس ذلك خصوصيتها القومية.
إذن كان علي أن أعترف أن ملاحظة صديقتي في مكانها ، ولو جزئيا، وأن الجسد العربي مغيب في الفنون التشكيلية فعلا.
حتى في العصر الحديث حين تكاثرت علينا التماثيل فانها لم تكن سوى تجسيد لفكرة سياسية، وأن آخر شيء يدعي الحضور في تلك التماثيل هو الجسد، الجسد بخصوصيته وملامحه وإشعاعاته وأسراره. حين النظر الى التمثال أول ما يخطر ببالك هو فكرة سياسية أو شعار سياسي، وليس قيمة جمالية.
إعادة الاعتبار للجسد" ؟
هو مشروع ثقافي بالدرجة الأولى ذاك الحلم الذي راود الشاعرة اللبنانية جمانة حداد ، وجندت من أجل تجسيده في دنيا الواقع اسماء لامعة من عالم الشعر والنثر والفن التشكيلي في العالم العربي، بل والعالم.
حرف الجيم يأخذ شكل قيد مكسور
هي أرادت أن تصدر مجلة باسم "جسد"، تصوروا براءة الفكرة ؟ ولكنها في النهاية فجرت قنبلة صوتية اخترقت ذلك السكون شبه الشامل الذي يلف الفضاء العربي.
في زمن يبلغ اغتراب الجسد فيه ذروته، ويصبح إما مدعاة للشعور بالذنب أو مصدرا للمضايقات بل حتى التحرش، في وقت تحتل أكثر مظاهر ذلك الجسد براءة وسطحية واجهة الصراعات السياسية والإجتماعية والأيديولوجية، يتبلور حلم جمانة حداد بإصدار مجلة ثقافية تنطلق من "أن هناك معبداً وحيداً حقيقياً على هذه الأرض، هو جسد الإنسان"، على ما كتب يوماً الشاعر الألماني نوفاليس.
وتعلن "جسد" في بيانها التأسيس أنها ستحوي"مجموعة كبيرة من الريبورتاجات والأبحاث والنصوص والترجمات والرسوم والمقالات المتنوّعة بأقلام كتّاب وريش فنانين لبنانيين وعرب وأجانب حول محور الجسد وتشعّباته اللامتناهية، من الايروتيكيا الى التصوّف مروراً بالبرودة، إلى جانب باقة من الأبواب الثابتة بدءاً من أخبار معارض وكتب وأفلام من العالم، وصولاً الى الاختبارات النفسية والأبراج الجنسية ووصفات الطعام المثيرة للشهوة".
فهل حلمت جمانة في الوقت الخطأ، أم على العكس، اختارت الوقت الأكثر ملاءمة؟
أسأل جمانة حداد عن توقعاتها لردود فعل الشارع الثقافي والإجتماعي العربي على جرأتها هذه، فتقول بأنها لن تفاجأ إن أتاها الرجم من أكثر من مصدر: فمن جهة سيعبر ذوو التفكير المحافظ عن سخطهم لتسليط الأضواء على الجسد، وهو شيء يدعون الى إخفاء كل ملامحه، خاصة فيما يتعلق بالمرأة.
اما نشطاء حركات التحرر النسوية فسيعترضون على التركيز على الجسد، جسد المرأة تحديدا، لأنهم يرون أن المرأة ليست مجرد جسد، بل الجسد ليس أهم كياناتها، فهي عقل وروح وشخصية الى جانب كونها جسدا.
جمانة قالت انها وأسرة تحرير المجلة ليسوا في وارد "الدفاع عن النفس" ولذلك فهي لا تحبذ اعتبار المجلة "صرخة احتجاج على تغييب الجسد في الثقافة العربية" بل تفضل اعتبارها مساحة حرية للفنانين المحرومين منها لسبر أغوار الجسد في قالب فني ترى فيه وسيطا للتعبير عن الجسد ليس فقط كملامح (شكل) إنما كروح (مضمون).
من الملفت للانتباه ان شعار المجلة لا يتضمن أي عنصر ايروتيكي، بل شكلت الفنانة التي صممته ،ماري جو رعيدي، حرف الجيم في كلمة "جسد" ليشبه شكل قيد مكسور.
وجمانة تعتقد أن التعبير عن الجسد بشكل ثري ممكن ليس في الشعر والنثر فقط، بل في الفن التشكيلي أيضا، فهي ترى أن الفنان التشكيلي أو النحات لا يقومان بعملية "نسخ لفيزياء الملامح" بل يذهبان أبعد من ذلك ليعكسا الروح أيضا.
مأزق لا مفر منه
المأزق الذي لا بد أن تواجهه هذه المجلة يتمثل في خلط الكثير من القراء بين جمالية الجسد وإباحية العري، فربما نظر اليها البعض كـ "بلاي بوي" عربية، ولكن جمانة، التي تدرك، كما تقول، ان هذا وارد، تحيل المسؤولية على المتلقي، فان عجز عن وضع خط فاصل بين المنطقتين رغم أن محتويات المجلة تجعل ذلك ممكنا، فهذه مشكلته.
ويتفق مع جمانة الكاتب والشاعر عيسى مخلوف الذي سيشارك بمادة عن فنان تشكيلي ياباني في العدد الأول، والذي يقول ان صدور هذه المجلة التي تغزو عالم المحرمات في وقت تتوقف فيه مجلات طليعية عن الصدور هو شيء مدهش.
يقول عيسى ان المجلة ليست مجلة أباحية بل مجلة تتحدث عن "الجسد الذي يحب والذي يكره، الجسد في جماله وفي قبحه، جسد الرغبة والشهوة، جسد الجروح والقروح، والجسد الذي يتحول قنبلة وينفجر مطيحا بنفسه وبالآخرين من حوله، "جسد" هي صرخة إدانة للذكورية المنتصرة، البذيئة، تلك الذهنية التي تنادي بالأخلاق ولا تتردد بارتكاب أبشع الجرائم، ونحر النساء تارة باسم الشرف وطورا باسم الدين. جسد الانسان قيمة اخلاقية، وينبغي أن تكون هناك حرية في الحديث عنه".
الناقد فخري صالح لم يكن ضمن المشاركين في العدد الأول ولكنه قال لي إنه لن يجد غضاضة في الكتابة للمجلة، للتعبير عن معارضته للمفهوم السائد من أن الجسد ليس الا تعبيرا عن الأباحية الجنسية، ولردود الفعل التي صدرت عن البعض كما يقول، حتى قبل صدور العدد الأول، والتي تعكس ازدواجية بين الادعاء والممارسة.
فخري يقول ان الكتابة هي موقف، والذي يتنصل من اتخاذ هذا الموقف يخون الرسالة السامية للكتابة والتي تتمثل في أحد جوانبها في محاولة تحرير القارئ من القيم والقوالب الجامدة.
خطوة جريئة بلا شك، في وقت اختزل فيه الجسد ككيان كلي الى مجرد رمز ايروتيكي خال من أي مضمون جمالي أو فني أو حتى عملي، وأصبح فيه كشف أجزاء الجسد الأكثر حيادية "سلوكا فضائحيا" في نظرالبعض يثير ردود فعل غاضبة قد تتجاوز مجرد الاحتجاج والاستهجان الى الملاحقة والتحرش.
http://www.jasadmag.com/