السلطة ، ديكتاتورية البروليتاريا

يعتقد البعض ان السلطة هي ضد الاستقلال و التنمية و ، بل و الحرية ايضا . و هم يرون في السلطة وجهها السلبي ، أي السلطة التي تعمل فيهم اضطهادا ، وتنكيلاً ، و تشريداً قسرياً ، و يميزونها باحتقارها لمواطنيها، و تسخيرهم لخدمة مصالحها الشخصيّة . مع ان هناك من ينظر الى السلطة على انها عنصرا اساسيا في تحقيق متطلبات النظام و الحرية في المجتمع(1) . و عبر التاريخ الانساني ، واجه الجنس البشري مقدارا كبيرا من الخوف و الرعب و خطر الفناء ، عبر فوضى الحياة القديمة ،و مخاطرها ، لولا قيام سلطة معينة في كل عصر، قامت بتنظيم القدرات ، و الطاقات المتوفرة للانتقال بالانسان من مرحلة الى مرحلة ارقى ، و أكثر امنا ، من اجل استمرار النوع ، عبر نشر النظام و توفير الحلول المناسبة للمشكلات التي كان يواجهها المجتمع في كل عصر(2).
و السلطة ، حسب الموسوعة الفلسفية ، هي النفوذ المعترف به كليّاً لفرد ، أو نسق، من وجهات النظر، أو لتنظيم ، مستمدّ من خصائص معيّنة ، أو خدمات معيّنة مؤدّاة. و قد تكون السلطة سياسيّة ، أو أخلاقيّة ، أو علميّة. و السلطة السياسية هي قدرات تملكها فئة من الناس تسيطر على المجتمع بقوات مادية و روحية لتتمكن من تنفيذ أهداف و طموحات تسعى الى تحقيقها . و السلطة السياسية ، هي اعلى مراتب السلطة ، اذ هي اعلى مرتبة من السلطة الروحية (الدينية ) في المجتمعات المعاصرة . فالسلطة هي ثمرة القوة . و بواسطة القوة التي يملكها شخص ما ، او طبقة ما ، او فئة ما ، فانه يصبح قادرا على السيطرة و الاخضاع و الالزام ، بغض النظر عن رضى المهيمن عليهم . فالقوة هي جوهر السلطة السياسية في اية دولة قامت عبر التاريخ . ولا يمكن ان تقوم دولة او تنظيم اجتماعي ، او بنية اجتماعية مستقرة ، بدون سلطة سياسية تضمن النظام و الاستقرار في ذلك المجتمع ولو الى حين من الزمن , و المجتمع عادة لا يسلم السلطة لاحد ، بل ان السلطة هي امتياز قوة ، يؤخذ ولا يعطى . فالحائز على السلطة شخصا فردا (الديكتاتور، او الامبراطور..الخ ) كان ، او طبقة ( كبار الملاك ، اقطاع او راسماليين ) هو في العادة قوة سياسية و اجتماعية متميزة داخل مجتمعها ، و تملك مقومات النفوذ و القدرة على الهيمنة و السيطرة و التسيد . و من غير المعقول ان نتصور ان يحوز على السلطة شخص لا نفوذ له ، او مال ، او رجال ، او اداة متميزة تجعله فوق الجميع . و الكلام ينطبق ايضا على الطبقة . فما سادت في التاريخ طبقة لم تمتلك مقومات القوة و منعتها ، او كثرة المال ، او عديد الرجال ، او سيطرة حقوقية على اراض او اموال او عقارات و مؤسسات و مصارف ، و ربما على اسلحة فتاكة لا يحوزها غير تلك الطبقة .
ففي الازمنة السحيقة في القدم ، كان اول شكل من اشكال السلطة يتمثل بهيمنة ساحر القبيلة ، كما الشامان في بعض الحضارات، و يدعم سلطته زعيم القبيلة ، الذي يسيطر على مجموعة من الرجال الذين يقدمون له من الحماية ، و الاحترام ، ما يجعله سيد القبيلة دون منازع . و يتحدث البعض عن مرحلة ، كانت فيها السلطة بيد جنس المراة ، حيث كانت المرأة تمثل الام ، و الساحرة ، و القائدة في مجتمعها . كونها كانت تمثل المصنع الوحيد للانتاج البشري في عصر عزت فيه الحياة و صعبت المحافظة عليها .
و السلطة قد تقع في ايدي طبقة من كبار الملاك و التجار الذين يتاجرون بكل شيء ، حتى بالجسد البشري ، كما كان تجار الرقيق سابقا ، و يمتلكون المال و الارض . و ذلك منذ بداية ما يسمى بالتشكيلة الاجتماعية التي سادت فيها العبودية ، حتى بداية المرحلة الاقطاعية . و قد تكون السلطة بيد طبقة اجتماعية تملك اعلى مقادير الثروة الاجتماعية ،كما كان الاقطاع ، من جاه ، و مال ، و عقارات ، و رجال . و قد تكون الطبقة المهيمنة هي طبقة ملاك المال و المصارف و العقارات و المصانع ،و هي ما يسمونها بالطبقة الراسمالية . و هي الطبقة التي تبلورت بعد ان تمركز راس المال بيد فئة من الناس ، استطاعت ان تقضي على النفوذ الاقطاعي ، و تهيمن على السلطة ، حتى يومنا هذا . و قد تحوز على تلك السلطة طبقة مختلفة عن الطبقة الراسمالية ،مثلا ، البيروقر اطية الستالينية في روسيا السوفييتية ، او ما اسماها اسحق دويتشر بالطبقة الثالثة ، التي تملك ولا تورث . و التي هيمنت على النظام السياسي في روسيا و الدول التي كانت تتبع لها منذ الحكم القيصري ، و نادت بديكتاتورية العمال ، بينما هي كانت تركب على ظهور العمال و تسحقهم بالعنف و الخوف و الحاجة على مدى سبعين سنة .
اما في الدول التي تنادي بالديموقراطية ، كالولايات المتحدة الامريكية ، فتتم فيها ممارسة السلطة ،من خلال القوانين والمؤسسات وسياسات القوة التي ما تزال موجودة . ولكنها سلطة تحكمية وغير مقيدة ) 3 ) .

و مما يثير الغرابة في النفس كيف ان فكرة - طوباوية ، بعيدة كل البعد عن الواقع الحقيقي المعاش – سيطرة على فكر الجماهير و القادة السياسيين في فترة من الفترات ابان انتشار الشيوعية في العالم ، و هي فكرة " ديكتاتورية البروليتاريا " ! و لقد تحدث عنها كارل ماركس و صاحبه ابو بكر الصديق الملقب بفريدريك انجلس ، وتلاميذه النجباء من بقية القادة الشيوعيين المشاهير مثلا ، لينين ، ستالين ، تروتسكي ، و غيرهم ! ففي حديثه عن كومونة باريس ، يقول كارل ماركس " لم تكن الكومونة ثورة ضد هذا الشكل أو الآخر من السلطة، شرعي، دستوري، جمهوري، أو ملكي، إنَّها ثورة ضد الدولة نفسها) . ولو ناقشنا هذه الفكرة ، للاحظنا البعد الفوضوي فيها ، حيث نجد ماركس ، ينكر دور الدولة ، ويتحدث عن سلطة جديدة ستظهر للعيان ،و هي سلطة العمال ،و التي ترجمت فيما بعد فلسفيا باسم ديكتاتورية البروليتاريا . و العجيب في الامر ان المرء اذ يفكر بتلك البروليتاريا ، فهو يلاحظ انها طبقة تمثل اناسا ضعفاء ، فقراء ، ذوي تعليم متدن ، لا يملكون سوى عضلاتهم التي لولاها لماتوا جوعا . ثم يلاحظ ان هناك من يعقد آمالا على ان تلك الطبقة التعسة ، الوضيعة فعلا ، ستصل يوما الى السلطة ، لتثور المجتمع و تحقق العدالة و الرخاء الاجتماعي . و كما سبق ان اشرنا اعلاه ، فان المجتمع لا يقدم السلطة لاحد على طبق من ذهب ، بل ان الاقوياء الذين يملكون المال و الجاه و السلطة تاريخيا ، هم قادرون على المحافظة على السلطة ، ما لم تتغير موضوعيا مقومات السلطة لديهم . و نحن نعلم كيف عان العبيد عبر قرون ،و لم يتمكنوا من الحصول على السلطة ، بالرغم مما يخبرنا ياه التاريخ عن محاولات سبارتاكوس المضيئة ، لكن الفاشلة . كما نلاحظ معاناة الفلاحين عبر آلاف السنين ، مع تغير الممالك و الامبراطوريات ،لكنهم لم يصلوا الى السلطة ابدا . ثم جاء دور العمال ، الذين تاجر باسمهم المثقفون الشيوعيون ليصلوا الى السلطة فوق اجسادهم ، ثم يستغلونهم لعقود ،و بعد ذلك تتشكل طبقة برجوازية و عصابات مافيا من هيكل سلطة نادت لعقود بديكتاتورية البروليتاريا . فهل يعقل لمن يستولي على السلطة ان يسلمها لغيره ؟ لم يفعلها عبر التاريخ فرد ،ولا فئة ،و لا طبقة! فعندما نجح المثقفون الروس ، و معهم من أيدهم من العمال و الفلاحين و الطلاب و الضباط ، في الاستيلاء على السلطة ، ظلوا لعقود يتحدثون في خطابهم المنافق ، عن اهمية و ضرورة و دور العمال في السلطة . ثم استبعدوا العمال من السلطة بعد ان استقرت الامور لصالح النظام الجديد ، و تحقق الامن بعد الحرب الاهلية . فاصبحت السلطة بيد بضعة اشخاص يتحكمون بمئتي مليون روسي عبر قوة المخابرات و الجيش و الشرطة .
فبأي عقل ركبت ،و كيف تم تسويق تلك الفكرة ، لا اعلم ! طبقة من الذين يكاد يلفظهم المجتمع باطنيا ، لكنهم ظاهريا يحظون باحترام سياسيين مراوغين ، يخاطبونهم على انهم الطبقة التي ادركت نفسها ،و عرفت انها سيدة المستقبل . كلام انفعالي ، عاطفي طوباوي ، صدقته تلك الطبقة المسكينة ،و وقعت في الفخ ، و اصبحت مطية لثعابين السياسة و السلطة . و بعد ان ادركت الجماهير العمالية في الدول التي خرجت من نير الشيوعية الستالينية ، بدات تدرك انها ليست مؤهلة لقيادة مصنع فكيف بقيادة دول ، او مجتمع ، او قيادة حضارة انسانية بكاملها . فالطبقة التي تقود هذا الكون ، يجب ان تكون طبقة ، او تحالفا من عدة قوى اجتماعيا ، يملك اسباب القوة ، من علم و فقه و قدرات مادية و اداوت تحكم ،و اجهزة قادرة على جعله يكسب الرهان و ينجح في صراع القوة و السيطرة على السلطة . اما الرهان على طبقة العمال الاغبياء ، و الذين يتلقون دروسا في السياسة الموجهة من قبل مثقفين طامحين لامتطاء تلك الطبقة البائسة ،و الوصول فوق ظهرها ، الى السلطة ، فما هي الا مأساة عاشها عمال روسيا ، في القرن العشرين، بكل أسى . و لكم هاجم لينين النقابات الاوروبية ، ليبرر خطابه السياسي في استغلال طبقة العمال ، و لكم انتقد الشيوعية روزا لوكسمبورغ ، لكونها وجهت نقدها للمركزية الديموقراطية التي استخدمها الحزب الشيوعي ، للتحكم بالشعب الروسي ، بعد ان تم تحويل ذلك الشعب بكامله الى أدوات انتاج ، أي عمال ، لصالح البيروقراطية الشيوعية السائدة بقيادة لينين ، و من بعده لتعاني تحت نير ستالين . وما زلنا نقرا اليوم في خطابات كتاب عرب متعطشين للسلطة ( فؤاد النمري ، حسقيل قوجمان ، و غيرهم ) ، و مهووسين بتعمشق ظهور العمال ، حيث تجدهم يتحدثون دوما عن ديكتاتورية البروليتاريا ، بعد ان تخلت اغلب الاحزاب الشيوعية في العالم عن تلك الفكرة الرعناء . وهم عندما يتحدثون بتلك الفكرة تجدهم لا يختلفون عن المسلمين المتطرفين ، الذين تعشش في عقولهم نصوص مقدسة ، لا يمكنهم الحياد عنها ، او تقبل فكرة ان الزمن قد تجاوزها. .

السلطة هي ثمرة القوة ،و لا يمكن ان يصل الى السلطة الا من أوتي اسبابا تجعله اقدر من غيره للوصول و التحكم و الهيمنة . أما طبقة العمال فلا تملك من حظوظ السلطة الا اقل القليل ، و هي غير مؤهلة ، بنيويا ولا موضوعيا ، من اجل الوصول الى السلطة ، بل هي مقبلة على الانقراض لصالح طبقة جديدة هي طبقة المشرفين الفنيين، الذين لديهم القدرة على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة . و هم يشكلون جزء مهما في البنية الضرورية لعالم المستقبل . و من يراهن على وصول العمال الى السلطة في أي مجتمع هو كاللص الذي سجن مع يسوع المسيح ، وكان يحلم بان يصبح امبراطورا ، فكانت نهايته وخيمة .

(1) - A General Theory Of Authority- Yves R. Simon
(2) - دارسي ميرفي – مسألة السلطة
(3) - كريس هدجز – امبراطورية الوهم
.

:Asmurf:

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	الإرادة , الحرية , السلطة	نبيل حاجي نائف	0	2,065	03-05-2010, 08:15 PM آخر رد: نبيل حاجي نائف
	نعوم ضد فوكو (السلطة والعدالة)فديو يستحق المشاهدة لعشاق الفلسفة	محارب النور	4	1,591	04-27-2007, 07:43 AM آخر رد: سيناتور
	السلطة واللغة	oskar	4	1,490	03-19-2006, 10:17 PM آخر رد: عادل نايف البعيني