هناك تصور للغة عند النحاة واللغويين خارج عن دائرة عمل اللغة داخل الكلام، أو وجودها في الكتابة الفعلية؛ أي تصور لما يجب أن تكون عليه هذه اللغة، وان كان هؤلاء بنوا تصورهم لها من استقرائهم لها أيضا، إذ أصبح هذا التصور محصوراً ظمن نظام محدد، وليس ظمن فاعلية اللغة.يتضح ذلك من خلال اعتمادهم على نموذج معين للغة يبنون و يقيسون عليه. هذا التصور جعلهم يرفضون كل ما يمكن أن يخرج من إمكانية اللغة. وهذه الإمكانية غير واضحة، أو لا يمكن الإمساك بها، فهي تعمل ضمن نظام خفي في اللغة التي يكتنزها الإنسان. في حين كانوا مشغولين بالإمساك بها.إننا نعثر على مثل هذه الأقوال في كتاباتهم:
1- لم تقل العرب هذا الكلام.
2- لم يعرف عن العرب مثل هذا.
مثل هذا الكلام، هو تصور لشكل اللغة ظمن مخزون محدد للغة وليس نظرا في اللغة ذاتها. اللغة كفعالية، وفعالية ممكنة التشكل باستمرار. داخل اللغة نفسها تكمن إمكانية الخروج على قواعدها.لقد فكروا في اللغة بهذه الطريقة: كيف قال العرب؟ والجواب: قالوا هكذا...
هناك إذن رفض للصياغات التي لم تعرف عن العرب مع أن العرب مارست اللغة بأكبر وأوسع ما يمكن، إلا أن النحاة رسخت لنموذج القاعدة ولم ترسخ للغة، لذلك ركنت ما يخالف القاعدة في ركن مشبوه أطلقت عليه الكلمة اللاأخلاقية "شاذ".
هذا لا يمنع وجود متسامحين جدا من النحاة قبلت بهذا "الشاذ" وحجتهم الكريمة " لا أمنعه لورود السماع به".
2
عند مجيء القرآن صدرت ممارسة جديدة للغة، جاءت كتحد وجودي لقيمة معترف بمكانتها ومقدسة في عرف خيال أهلها. فقد تضمنت امكانات ومخالفات لممارسة العرب للغة ولبعض القواعد النحوية التي استخلصها النحاة من كلام العرب. اللغة الشعرية الفاتنة والبديعة للقرآن أعطت إحساسا للعرب أن الرسول يريد قول الشعر وبما أنه لا يسير سير المتبع في خيالهم وحسهم الشعري أو خوفا من أن يهدم سلطتهم الدينية والأدبية اتهموه بالجنون.
مع هذه المخالفة ظهرت مشكلة عويصة: إذ لا يمكن أبدا تخطئة القرآن الكريم لغويا ونحويا فهو جاء كمعجزة. فمالذي صنعه النحاة أمام هذه المشكلة. هناك تفكير قلب القاعدة هكذا: أصبحت اللغة القرآنية أساسا لحكم نهائي، وأولي وما عداه يمكن محاسبته ووضعه في دائرة الخطأ والشاذ. فلقد كان هناك خلاف في قضية الاستشهاد باللغة . قسم من النحاة واللغويين يأخذ اللغة زمنيا من مئة وخمسين سنة قبل الإسلام، ومئة وخمسين بعده، وقسم منهم لا يأخذ ولا يطمئن يقينه إلا بما قبل الإسلام.
3
لقد كتب القرآن الكريم إملائيا، كتابة تخالف الكتابة الإملائية المقعد لها، وهذه المخالفة يمكن النظر إليها على أنها امتياز وإعلاء وتمييز لمكانة القرآن، وليس نتيجة فهم وإدراك للغة. أي أنه تمايز ديني وليس معرفيا بحتا.
4
إن الأخلاق أيضا تدخلت في النظر إلى القاعدة والى اللغة كما نرى في قاعدة ومعنى "لا الناهية" لنقرأ المقطع التالي:(اعلم أن طلب الفعل أو تركه، إن كان من الأدنى إلى الأعلى، سمي "دعاء " تأدبا. وسميت اللام و"لا" حرفي دعاء نحو:" ليقض علينا ربك" ونحو:"لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا" وكذلك الأمر بالصيغة يسمى فعل دعاء نحو:"رب اغفر لي ")(جامع الدروس العربية ج 2 الصفحة 186 ) لاحظ إن الفعل فعل أمر ولكن يسمى في هذا المنعطف الإلهي فعل دعاء، وكذلك لا الناهية ولام الأمر يسميان حرفي دعاء. ماذا تقدم هذه الانعطافة الأدبية الإلهية لوعينا باللغة أو فهمنا لها ؟ هل هو دليل آخر على اتساع اللغة العربية التي لاينكرها سوى منطق العصمة النحوي الذي لا يأتيه الخبل والعبث من شتى المخارج والملاعب ؟أم هي حيلة لغوية بدل أن تكون شرعية هذه المرة لنبلغ الملاك الحارس بأدبنا الجم تجاه الخالق؟!!
5
كان أحد الأساتذة يقول لنا نحن المختصين بالعقل البسيط من الفهم:"خلاص خذ القاعدة أُطبأها ومتشغلش بالك بالكلام اللي مينطبئش على القاعدة اللي ينطبىء ينطبىء واللي مينطبئش ملناش شغل فيه ذا بيسموه شاز عن القاعدة"
6
أثناء تفكير النحاة في تراكيب اللغة يقومون بافتراض بعض التراكيب، إما للاعتراض على الغير أو لاختبار نظريتهم، هنا نجدهم يفكرون في مدى تحمل مقولاتهم لشتى الاحتمالات والصيغ المختلفة، وليس في اللغة. أنهم يمتحنون النظرية، فهذه التراكيب التي يفترضونها إما أن تجوز أو لا حسب شرع النظرية، فهم يحاكمون هذه التراكيب المفترضة وفق ما ترسخ في مقولاتهم.
7
نحويا القاعدة تقول: الحرف لا يدخل على الحرف. لذلك لا يجوز دخول حرف الجر على أخية في الوضيفة والعائلة. فالمشهور حسب القاعدة هذه أن "على" حرف جر، لكن المثال البسيط التالي:"أخذت الكتاب من على الطاولة" جعل سيبويه يستعيض رجحان المقولة هذه برجحان أن "على" اسم بناء على المثال السابق، لان المقولة التي جعلته ينحو هذا المنحى، هي أن من خواص الحرف دخوله على الأسماء. لكن حض المقولة هذه لم يحض بتواتر اللغة، فأصبحت شاذة !.
8
تواتر بعض التراكيب يرسخ القاعدة، ويضر بفهم اللغة وعلاقتها بالكائن.
9
بدأ سيبويه حياته العلمية بدراسة الحديث والعلوم الشرعية، ثم تركها، موليا عقله شطر النحو قائلا قولته:(إن الحديث مما يطلب به الآخرة ) كان خياره علما يقوم بتوفير لقمة حياته، وتدبير أنفاسه على البقاء. هذا الخيار ناتج عن رؤيته لواقع لا سبيل إلى تجاهله. كان الجو العلمي آن ذاك مليء بالمضاربات العقلية بغية الحصول على حظوة تقرب من يلمع في الأدب والنحو إلى بلاط خليفة من الخلفاء لكي يقوم بتدريس ملائكته المؤجلين إلى قدرهم ذي الحصانة الإلهية، أو أن يحظى بمريدين كثر وطلاب يتهافتون عليه من شتى الأقطار، حيث كان الدارس يدفع مالا لتربية عقله وأنفاسه. هذا الحضور القوي للمعيش ساهم في تحول دراسة اللغة إلى هدف في ذاتها، كما ساهم التنافس القوي بين النحاة في ظهور المدارس النحوية ذات الفذلكات اللغوية و النحوية، وبعضهم ليدلل على أصالته اتخذ الغريب من اللفظ هدفا ليتقعر به أمام شيوخ الحداثة في ذلك المنعطف من الوقت الأصيل !.إلى حد جعل المعرفة والدراسة محض لعبة كريات زجاجية بكل اقتدار على إنشاء المجادلات النحوية والمنطقية.
10
لقد أشار أحد أساتذة النحو اللغة في بحث له قدمه في إحدى ندوات قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود إلى دور التنافس بين العلماء بسبب المعيش وأثره في نشوء الكثير من الفنتازيا النحوية، ومن ثم فساد المقدس النحوي، غير أنه لم يلق قبولا من كثير من سدنة اللغة العربية في قسم متتاليات الجحيم.
11
بعض الدارسين من كرماء الأصل يوجه منبع الفساد إلى الخارج إلى العقل الدخيل على طيبة ونظافة العقل العربي الأصيل، إلى المنطق اليوناني. مسكين هذا المنطق لا حول له ولا قوة إلا بخيال الكلام فيه، فمرة يكتشف منابع الهدم فيه للغة والشريعة، ومرة يبنى به اللغة والشريعة، كانت العصمة في عونك أيها المنطق.
12
مع ذلك أدى هذا الصراع والتنافس لبروز أكبر وأشهر مدرستين في النحو العربي: البصرية والمشهورة بصرامتها القواعدية ومحافظتها في ذلك.أما الأخرى: الكوفية فهي أكثر تساهلا منها وأخذا بالاختلافات، وأقل تقعيدا منها(كان الجواهري يحب التجاوزات في شعره وتأويله الدائم على صحتها يستند فيه على المدرسة الكوفية). والسؤال المسكين في ذلك، لماذا يختار الموكلون بحفظ القول لمهابة عقولهم وعلومهم، أو لمهابة الشرع فيهم ، لماذا يختارون البصرية كمدرسة شرعية للنحو واعتمادها في دراسة النحو وتدريسه ؟!أما المدارس الأخرى تحضر فقط لتبيان الفروق و الاختلافات، وليست للتطبيق كتابة وقولا. هل هو اختيار نزيه أو لتنزيه العقل وصيانة الشرع من أبدية لانهائية اللغة ومن ثم لانهائية المعنى ؟!
13
في النقاش الدائر حول انتحال الشعر توجه أسهم النقد غير المثلومة إلى النحاة بأنهم ساهموا في انتحال كثير من الشعر للتدليل على الجذور الصحيحة لقواعدهم، أو لإعطاء مهابة شرعية لقواعدهم، أو لامتحان وتوريط خصومهم في مشكل الكلام، وفي هذا المنحى الإشكالي النقدي رمى طه حسين بعقله، فلم تسلم نياته العلمية من الخيانة.
14
وجه النحاة شرع قواعدهم تجاه الشعر المنتج في عصرهم، بالنقد وتخطئة الشعراء، فتولى الشعراء أمرهم بالهجاء والسخرية، حتى سرت مهابة الخوف منهم إلى جذور خيالهم، فكف كثير منهم عن التعرض لشعر من اشتهر بالهجاء، لم يودوا أن يكونوا علكا بين أسنان الشعر ورواته، وبعضهم أبى أن تأخذه في العلم هجوة شاعر فتتبع الخلل أنى استبصره.
15
أحكام نحوية:
- يجوز الضم والنصب والأفضل الضم. (الأفضل على أي أساس )
_ في رواية من نصب (الشعر).
_ في قراءة من نصب(القرآن).
_ جاز في ذلك ثلاثة أوجه: الجزم إذا أردت التشريك، الرفع على تقدير حذف المبتدأ، النصب على معنى النهي عن الجمع بين الفعلين (لا حظ هنا أن الحركة الإعرابية تأتي مع إرادة المتكلم، لكن البحث النحوي لم يبحث في علاقة التكلم في بناء الكلام نحويا)
_أجاز الكسائي ذلك لأنه لا يشترط دخول أن على لا (هو الذي يشترط أم اللغة)
_ روي بالجزم والرفع والنصب.
_ يجوز صرف مالا ينصرف، وذلك في الضرورة.(إذا نظرنا في هذا التركيب الذي أنشأته الضرورة لا يوجد لبس في المعنى، وهذا يطرح إشكالا على القول النحوي الذي يقول أن العلامة ضرورية للتمييز بين المعاني، وأيضا سيطرح إشكالا على القراءات المختلفة للقرآن)
_ وهناك من لا يمنع ذلك لورود السماع به.
_ هناك من العرب من لم يعمل (إن) الناصبة للمضارع، أي أن وجودها قبل المضارع كعدمه الجليل. (لماذا تحدث العرب بهذه اللغة بهذا الشكل، لماذا رُفع الفاعل بدل أن ينصب، لماذا لم ينصبوا الفاعل ويرفعوا المفعول به؟! وكذا بقية التراكيب. بل لماذا تم استبعاد أوجه الخلاف في تراكيب اللغة واعتمد على ما يشكل سلطة سياسية ودينية؟!لغة قريش هي العاصم النبيل من فساد الاختيار)
16
في هذا الصراط الذي ليس صراطا يقول ابن خلدون في مقدمته:"...ثم طال الكلام في هذه الصناعة (صناعة النحو/اللغة) وحدث الخلاف بين أهلها في الكوفة والبصرة المصرَين القديمين للعرب، وكثُرت الأدلة والحجاج بينهم وتباينت الطرق في التعليم وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد، وطال ذلك على المتعلمين" ص 502
***
"...ولذالك نجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده، أخطأ فيها عن الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيرا ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول ولا المفعول من المجرور، ولا شيئا من قوانين صناعة العربية فمن هذا تعلم إن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة" ص 513
***
"...وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب إلا إن أعربوا شاهدا أو رجحوا مذهبا من جهة الاقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل وبعدت عن مناحي اللسان وملكته. وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن تفيده الملكة في اللسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، لكنهم أجروها على غير ما قصد بها وأصاروها علما بحتا، وبعدوا عن ثمرتها" ص 514
17
النحو العربي فرضية في تأويل سير اللغة في الكلام والخطاب، وليست نظرية في فهم اللغة وصيرورتها.
18
النحو محاولة لفهم انتظام اللغة، وتأويل ما لتراكيبها ونظامها، أما أن يدعي هو اللغة، واللغة الصحيحة هو، والحقيقة لا تكون ولا تنتظم مشمولة بحساب فلكي لا يأتيه الباطل من أي جهة كانت، إلا ببركة طرقه السالكة مسلك الأنبياء، فهو افتراء على خيال العرب واستبداد بحق الشساعة التي تمرح فيها اللغة.
mudh3@hotmail.com