من حماة إلى الفلوجة
محمد الحسناوي *
بمناسبة شهر شباط (فبراير) الحالي تمر الذكرى الرابعة والعشرون لمأساة ( حماة ) الدامية ، وهي التي ذهب ضحيتها عام 1982م ثلاثون ألف مواطن شهيد ، وهدم ما لا يقل عن ثلاثة وثمانين مسجداً وأربع كنائس والكثير من أحياء المدينة وأسواقها وحماماتها ومواقعها الأثرية مثل (حي الكيلانية ) المشهور .
تمر الذكرى-برغم تطاول الزمن-غضة طرية في نفوس السوريين تنبض بالأسى والمرارة ، لا لحجمها الكبير وللأهوال التي وقعت فيها، ولا لتذكيرها بمجازر المدن السورية الأخرى : جسر الشغور – سرمدا – تدمر–حي المشارقة بحلب، بل لأن أهم عناصرها ما تزال شاخصة تتفاعل وتعمل عملها حتى الآن ، وهما ضرورة تحديد المسؤولية على من اقترف هذه الفظاعات أولاً ، ومعالجة آثارها النفسية والاجتماعية والسياسية والعمرانية ثانياً .
إن جماعة الإخوان المسلمين من طرفها أبرأت ذمتها حين دعت باسم مراقبها العام في مؤتمره الصحفي لإعلان مشروعهم السياسي لسورية المستقبل في لندن/16/12/2004 إلى تكليف جهة مستقلة محايدة لتحديد المسؤولية على من اقترف مأساة (حماة) ، مع استعدادهم لتحمل ما تحملهم إياه هذه اللجنة من مسؤولية أو سواهم. وعلى الرغم من مضي أكثر من شهرين على هذه الدعوة الحضارية لم يبادر النظام السوري إلى الرد عليها، وهذا يعني فيما يعني محاولة للتنصل من المسؤولية الشرعية والأخلاقية ، أو التستر على من يريد التنصل منها، وقد آن الأوان لننتهي من التنصل أوالتستر على المتنصلين من أجل سورية جديدة حرة وقوية ومتماسكة وحضارية .
الركن الثاني من أركان مأساة العصر هو معالجة آثارها وتداعياتها التي ترتب عليها تشرد مئات الآلاف من سكان المدينة وهجرة ألاف آخرين منهم ، واعتقال آلاف لا يعرف مصير الكثيرين منهم حتى بعد مضي ربع قرن على اختفائهم، وتسميم التصور العام تجاه مواطني المدينة بين بقية المواطنين ، وممارسة سياسات غير لائقة تجاههم، واستمرار النهج الأمني القمعي الذي أدى إلى المأساة في معالجة مشكلات الوطن الأخرى حتى الآن، مثل قمع ( ربيع دمشق ) بقانون الطواريء ومحكمة أمن الدولة ،أو قمع اعتصامات طلاب الجامعات المهندسين، أو قمع جماهير المواطنين الأكراد في آذار الماضي بالقوة وبهراوة الأمن وحدها ، في الجزيرة السورية وبقية المحافظات السورية . ومن خطورة هذا النهج أنه مازال قابلاً للتوالد وإعادة إنتاج نفسه ، كما يحذر المفكر الأكاديمي السوري برهان غليون : ( لعل جناحاً قوياً في النظام لا يحلم بشيء أكثر من تكرار ما حدث في الثمانينات في سبيل تصفية الساحة السياسية الوليدة في سورية من التراكمات الإيجابية التي عرفتها في السنوات القليلة الماضية والتي تنزع جميعاً إلى تجريد السلطة السياسية من أي وسيلة لإضفاء المشروعية على استراتيجيا الحرب الأهلية التي تتبعها منذ عقود في سبيل إلغاء أي حياة سياسية ومدنية معاً ، وإجبار الشعب برمته على الإذعان والاستسلام الكامل والشامل لقرارات السلطة البيروقراطية وإرادة الحزب أو من يمثله ويتكلم باسمه ) ( نظام الحزب الواحد فقد مبرره ووجوده – ملحق النهار الثقافي – 25/8/2002م)
وبالمناسبة تعد مدينة (حماة ) إحدى المحافظات التي يشكل فيها المواطنون من أصل كردي نسبة عالية تعدل نصف سكانها ، وهي المدينة التي ظهر فيها الملك الأيوبي العالم العادل أبو الفداء من سلالة البطل صلاح الدين ألأيوبي ، واستعارت المدينة لقبها من لقب هذا الملك ، فسميت مدينة أبي الفداء .
إلى الآن لم تعالج آثار مأساة (حماة ) الدامية ، وتداعياتها الخطيرة ، لماذا ، ومن هو المسؤول الأول عن هذه المعالجة ؟
صحيح أن بعض النازحين عادوا إليها ، وأن بعض الجدران المهدمة قد أعيد بناؤه ، ولكن النفوس المحتقنة هي هي، والجراح النازفة الفاغرة هي هي ، والنهج الذي يتعامل مع بقية المواطنين هو هو ، والمهجرون قسرياً من الحمويين وبقية المحافظات في أرجاء المعمورة هم هم ، بلا جوازات ولا وثائق سفر ، ولا أمل منظوراً بالعودة !! فإلى متى وكيف وأنى ؟
أحرامٌ على بلابِلِه الدوحُ ، حلالٌ للطير من كلّ جنسِِ ؟
لما قررت االحكومة العراقية المؤقتة( حكومة إياد علاوي ) والقوات الأمريكية استباحة مدينة (الفلوجة) العراقية أواخر السنة الماضية تمهيداً لما يسمى الانتخابات البرلمانية ، ارتفعت أصوات في الشرق والغرب تحذر من مجزرة إنسانية ترتكب كمجزرة ( جنين ) والأراضي المحتلة ، بما فيها أصوات سورية ، فكان جواب المسؤولين العراقيين - كوزير العدل - والساسة الأمريكان : ليس الذي يتوقع أن يجري في الفلوجة غير الذي جرى في ( حماة ) السورية ، لضبط الأمن وحماية الوطن . وهكذا أصبحت مأساة (حماة ) مثلاً يُحتذى في ضبط الأمن العام ، وحماية الأوطان في الديموقراطيات العربية الوراثية والأمريكية على حدّ سواء . وقد رأينا وسمعنا ما جرى للفلوجة وجنين وما يزال يجري في العراق وفلسطين ، وما سبق أن جرى في ( حماة ) ، وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة .
هل كتب على هذه الأمة أن تشقى بفريق من أبنائها ، كما تشقى بأعدائها ؟
إنها ضريبة الصحوة والفرز والتمحيص والعودة إلى التاريخ من أبوابه العريضة .
وهنا يطرأ السؤال الملح : لماذا لم تبادر السلطات السورية المتعاقبة إلى علاج آثار مأساة ( حماة ) وتداعياتها ؟
الجواب أن العلاج الحقيقي هو التخلي عن النهج الذي أوصل الأمور إلى الاحتقان العام والأبواب الموصدة بين المواطنين والنظام الحاكم ، و التخلي عن هذا النهج يعني التخلي عن السلطة ، أو الدخول في منحنيات قد تؤدي عاجلاً أو آجلاً للتخلي عن السلطة . أما الحديث عن الحق والعدل والقانون والديموقراطية ، والحديث عن استحقاقات الانهيارات الداخلية والضغوط الخارجية ، فحديث خرافة ، يا أمّ عمرو ، أو شقشقة سوفسطائية من أطراف المعارضة الوطنية .
إن لسان حال النظام السوري يقول : هذه مشكلة النظام العربي ، وليس النظام السوري وحده .
والنظام العربي يقول : هذه مشكلة النظام الدولي ، وليس مشكلة النظام العربي وحده .
هذا منطق ذرائعي أقل ما يقال فيه : إنه يعوّم المشكلة للتهرب من المسؤولية المباشرة . والمسؤولية عامة متدرجة ، لا تعفي أحداً ، ولاسيما أصحاب القرار ، وكل مستوى له مستواه من المسؤولية بدءاً من المواطن العادي المقموع إلى رجل السلطة القامع . وهذا هو منطق العدل والقانون والحضارة .
عوداً إلى تشبيه مأساة(الفلوجة) بمأساة(حماة) ...
فعلاً إن الاستباحة الجماعية للسكان من رجال ونساء وأطفال ومسلحين وغير مسلحين وتدمير المرافق العامة والبنية التحتية واستخدام الأسلحة المتقدمة مع جمهور أعزل أو ما يعبر عنه بالأرض المحروقة طوال شهر كامل أو فترة زمنية متطاولة .واستهداف طائفة معينة من المواطنين ن هي الطائفة نفسها في العراق وسورية وفلسطين وغيرها ، لأمر يسترعي انتباه من لا انتباه لديه . وحتى الحجج أو الذرائع المتخذة هي نفسها،والأنكى أن المعتدي يستخدم معايير مزدوجة ، فيدين مثل هذه الاقترافات خارج ساحته الجغرافية، ويمارسها هو نفسه بامتياز .
النظام السوري مثلا يطالب بإعادة تعريف ( الإرهاب ) ، مع من يطالب بالبحث عن أسبابه لمعالجتها لا حصر المعالجة بالنتائج ، وهو نفسه لا يطبق هذا المعيار مع مواطنيه ، وأزمة (حماة ) والاحتقانات السورية كردية وغير كردية في هذا السياق مندرجة . وكما يسوغ لنفسه القياس على السياسات الدولية الخارجية ، تستعير القوى الخارجية المنطق نفسه ، وتتكئ عليه بصفقات ، أو مناقشات ، أو حتى غطرسة تضرب بمعايير الحق والعدل والشرعية وحقوق الإنسان عرض الحائط .
إن المطالبة العادلة بإعادة تعريف( الإرهاب ) وتخليصه من النظرة الاستباقية أو الأحادية أو العصابية يقتضي فيما يقتضي الانسجام مع الذات ، والبدء بالذات في التطبيق وضرب المثل والقدوة ، لا من أجل هذا الهدف النبيل وحده ، بل من أجل الحق والعدل والمصلحة الوطنية العامة أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً ..
مجزرة (حماة ) وقعت ، ومجزرة ( الفلوجة) وقعت ، ومجزرة ( جنين ) وقعت أيضاً ، ولم يعترف مفترفوها بالمسؤولية ، ولا عالجوا آثارها وتداعياتها ، فما المطلوب ؟
إن نبش الجرح لا للتلذذ بآلامه بل للتخفيف من آلامه أولا ً ، ولمحاولة منع تكراره ثانيا وثالثاً ورابعاً . ويبدو أن الذين اقترفوا ما اقترفوا غير مبالين حتى الآن بالإدانة ، أو عذاب الضمير ، أو العودة إلى الصواب من عند أنفسهم ، فعلى المعنيين من الأحرار والشرفاء من مواطنين عاديين أو قادة الفكر والرأي ومنظمات حقوق الإنسان أن يتدبروا أمرهم ، ما حكَ جلدك مثل ظفرك ، وأول هذا التدبير رفع الصوت بالإدانة والنكير. ومنه عقد المحاكمات الدولية ، وحملات التظاهر والاعتصامات الجماعية .
أما المراهنون على عامل الزمن لنسيان المأساة ، فواهمون كل الوهم ، بل إن تطاول الزمن على الجرح غير المندمل – وأي جرح هذه المأساة الإنسانية - عامل تفاقم وتصعيد في ميزان الواقع والتاريخ ، فأين يذهبون ؟
* كاتب سوري وعضو رابطة أدباء الشام
http://www.odabasham.net/
=========
ولنا لقاء،،