al masdar the links al rabeeet
الحضارة العربية الإسلامية.. قراءة في قصة التدهور والانحطاط
الحضارة فعل إنساني، قابل للنمو والتقدم، كما أنها معرّضة للفساد والضياع، ولا مندوحة لأي باحث في قضايا الحضارة وإشكالاتها من أن يتناول مسألة تدهورها وانحطاطها.
يُعد موضوع تدهور الحضارة العربية الإسلامية من الموضوعات الشائكة والمعقدة، وكل من تناوله بالدراسة والتحليل، وقع في إحدى الغلطتين المنهجيتين التاليتين: الأولى - أن بعض الباحثين استخدم الأسباب أو العوامل التي أدت إلى سقوط حضارات أخرى، كالحضارة اليونانية والحضارة الرومانية في تفسير أسباب تدهور الحضارة الإسلامية، دون الاهتمام بمسألة الفروق بين الحضارات، وما تميّزت به كل حضارة من خصوصية، والثانية - أن معظم الباحثين، الذين عالجوا مسألة انحطاط الحضارات، انطلقوا في عملهم من نظريات مسبقة، وحاولوا فرضها على الوقائع التاريخية فرضاً، أي التلاعب بالحقائق التاريخية لتأييد وجهة نظر مادية أو مثالية. الغلطة المنهجية هنا هي الانتقال من النظرية، من الإيدلوجية، إلى التاريخ، في حين ينبغي أن تستمد النظرية من التجربة ذاتها، أي من الوقائع التاريخية. ومقالنا هذا لا يطمح أكثر من أن يكون محاولة متواضعة لإلقاء الضوء على بعض الأسباب، الداخلية منها والخارجية، التي أدت إلى تدهور الحضارة العربية الإسلامية بغية الوصول إلى أقرب صورة ممكنة للحقيقة التاريخية.
مراحل التطور
إن الحضارات التي شهدها التاريخ الإنساني، قد مرت، بثلاث مراحل رئيسة وهي: مرحلة التكوين، ومرحلة الازدهار، ومرحلة التدهور والانحطاط. ولاشك في أن الحضارة العربية الإسلامية لم تخرج عن هذه التجربة. ففي مرحلة التكوين، التي استغرقت قرنين من الزمان تقريباً (الأول والثاني للهجرة - السابع والثامن للميلاد)، نجح العرب والمسلمون في بناء حضارة من عناصر ومصادر متعددة، أولها - ما جاء به الإسلام من قيم ومبادئ، تتناول شئون الدنيا والآخرة. وثانيها - تراث العرب القديم وقيمه الإيجابية، وثالثها - تراث الشرق القديم الذي كان منبعاً ثرياً لحضارة الشرق والغرب في العصور القديمة، ورابعها - إنجازات الحضارة الإغريقية والفارسية والهندية والصينية التي أفاد منها العرب والمسلمون في تكوين حضارتهم. أما مرحلة الازدهار، (العصر الذهبي)، فقد استمرت زهاء ثلاثة قرون (الثالث والرابع والخامس للهجرة - التاسع والعاشر والحادي عشر للميلاد)، وفيها أبدع العرب والمسلمون في كل ميادين الحضارة وتزعموا العالم خلالها في العلم والنظام والتسامح والاقتصاد والسياسة. وتتلمذ الأوربيون على أيديهم في كل ميادين العلم والمعرفة. أما المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التدهور والانحطاط، فقد بدأت طلائعها منذ القرن السادس - الثاني عشر للميلاد تقريباً - واستمرت بالنسبة إلى المشرق العربي الإسلامي حتى أواسط القرن الثالث عشر للهجرة (التاسع عشر للميلاد).
سمات مرحلة التدهور
قبل أن نتناول أسباب التدهور والانحطاط، ينبغي أن نشير إلى بعض الحقائق التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، لأنها تشكّل مدخلاً علمياً لمعالجة الموضوع. 1 - أن التدهور الذي أصاب الحضارة العربية الإسلامية لم يحدث حدوثاً مفاجئاً، دون مقدمات أو مؤشرات، وإنما كان عملية بطيئة تجمّعت عناصرها خلال فترات زمنية طويلة، أي لم تنبثق على الساحة في عصر واحد أو في مكان واحد. 2 - أن ضعف حضارتنا لا يعود إلى عامل أو سبب واحد مهما كان هذا العامل أو ذلك السبب فعالاً ومؤثراً، وإنما يرجع إلى جملة من العوامل التي تفاعلت مع بعضها خلال فترات تاريخية معينة، وأدت إلى تحوّل نوعي في مسيرتها، ولهذا فالمنهج العلمي يقتضي أن نأخذ كل العوامل بعين الاعتبار في دراستنا لهذه المسألة. 3 - على الرغم من تبني الكثير من المفكرين للنـظرية التي تقول إن الحضارات تنتحر ولا تُقتل، أي أن الحضارة تنهار من الداخل بالانحلال البطيء للقوى الداخلية الفاعلة قبل أن تسقط بفعل غزو خارجي، أقول على الرغم من شيوع هذه النظرية فإننا نتمسك بمبدأ ضرورة تقصي كل الأسباب، الداخلية والخارجية، التي أسهمت في سقوط الحضارة العربية الإسلامية، فالعلاقة بين الانهيار الداخلي والأخطار الخارجية علاقة جدلية. 4 - أن تدهور الحضارة العربية الإسلامية، لا يعني بالضرورة الموت المطلق لكل أشكال النشاط الفكري على امتداد العالم العربي والإسلامي خلال قرون الانحطاط التي أشرنا إليها، بل ظلت بعض الجهود العلمية هنا وهناك، وإن انصبّت في ميدان الشرح والتلخيص.. إلخ. 5 - أن الانحطاط لم يحدث في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي في زمن واحد، فطلائع الانحطاط ظهرت في المشرق العربي والإسلامي منذ القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد) في حين لم تظهر في المغرب والأندلس، إلا في القرن السابع للهجرة (الثالث عشر للميلاد).
أهم أسباب الانحطاط
هناك جملة من الأسباب التي أدت إلى تدهور الحضارة العربية الإسلامية وانحطاطها، بعضها داخلية وبعضها الآخر خارجية.
أسباب سياسية
1 - ما أصاب العالم العربي الإسلامي من تمزّق في وحدته السياسية، إذ حلّت الكثرة محل الوحدة، وقامت على أنقاض الدولة الواحدة ممالك ودول عدة، في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، فإذا كانت سلطة الخليفة في العصر الأموي قد امتدت من الأندلس غرباً إلى سمرقند شرقاً، فإن هذه السلطة لم تعد تتجاوز في القرن الأخير من التاريخ العباسي (السابع للهجرة ) الثالث عشر للميلاد ( مدينة بغداد وضواحيها. ولقد تعزز هذا الانقسام السياسي بتمزق الوحدة الدينية، إذ أخذ يتنافس على زعامة المسلمين، منذ القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد) ثلاثة خلفاء: عباسي في بغداد وأموي في قرطبة، وفاطمي في القاهرة. ولاشك في أن هذه الانقسامات جميعاً، أدت إلى اندلاع الحروب بين القوى الإسلامية، ودفع المسلمون عامة الثمن غالياً من أرواحهم واقتصادهم ومدنيتهم. ويكفي أن نقرأ ما دار في المشرق العربي والإسلامي من حروب بين السلاجقة والفاطميين والعباسيين. لندرك كيف استُنفدت طاقات الأمة، المادية والأدبية، وكيف قطف الصليبيون ثمار هذه الحروب في أواخر القرن الخامس للهجرة (الحادي عشر للميلاد). كما علينا أن نتذكر قصة الحروب التي دارت في الأندلس بين ملوك الطوائف وأثرها على مصير العرب المسلمين وحضارتهم. 2 - إن الإرهاب السياسي الذي عمّ العالم العربي والإسلامي، كان له أبلغ الأضرار على كل ألوان النشاط الحضاري في المجتمع الإسلامي. فقد أصبحت مبادئ الإسلام في الشورى والمساواة والعدالة والتسامح في واد، والممارسات السياسية في واد آخر. فقد تحكم الأتراك المرتزقة بمصير الخلفاء العباسيين منذ أواسط القرن التاسع الميلادي، فكم من خليفة قتل أو خُلع وسُملت عيناه أو ألقي في نهر دجلة. ثم حلّ طغيان البويهيين منذ أواسط القرن الحادي عشر الميلادي. واستمر هذا الإرهاب السياسي في عصر المماليك (1250 - 1517م) الذي كان فيه الحكم لمن غلب. ولنتذكر، مثلا، كيف كان مصير السلطان عز الدين أيبك وشجر الدر والسلطان قطز.. إلخ. وخلال هذه العصور من الإرهاب السياسي والصراع على الحكم لم تتردد القوى الإسلامية في استخدام أكثر الأساليب وحشية لتثبيت سلطانها وتصفية المنافسين لها. أما جماهير الأمة، فقد كانت تحتضن همومها وآلامها، ولا علاقة لها بصنع القرار، بل سُحق شعورها بالانتماء إلى الأرض والحضارة، وأخذت تبحث عن قوتها اليومي قبل القرطاس والقلم.
أسباب اقتصادية
لا يستطيع أي باحث، مهما كان انتماؤه الأيديولوجي أن يتجاهل أثر الاقتصاد في ازدهار الحضارة وسقوطها. فالزراعة في المشرق العربي والإسلامي خضعت منذ القرن الخامس للهجرة (الحادي عشر للميلاد)، إلى نمط جديد في الإنتاج، وهو ما عُرف بالنظام الإقطاعي - العسكري، ويقضي هذا النظام، بأن يقطع السلطان كل قائد في جيشه إقطاعاً من الأرض بدلاً من المرتبات التي كان يتقاضاها من الدولة، وفي المقابل يتعهد هذا القائد، أي المُقطع، بأن يخضع للسلطان مباشرة، ويؤدي ما عليه من التزامات مادية واجتماعية وعسكرية، وهذا النظام أطلق أيدي القادة والأجناد في الأرض والفلاحين الذين يعملون فيها، دون أن يكون هناك رقيب أو قانون يحاسبهم، اللهم إلا السلطان نفسه. وقد اكتمل تطبيق هذه النظم في مصر والشام في العصر المملوكي. وبغض النظر عن التفاصيل المتعلقة بهذا النطام، فإنه ألحق الكوارث بالأرض والفلاح. وقد تجلى ذلك في الضرائب الشرعية وغير الشرعية، النقدية والعينية، التي انتزعت من الفلاحين، هذا فضلاً عن الطرق الوحشية التي كانت تجبى بها. وبالرغم من شكاوى الفلاحين، فإنها لم تصل في معظمها إلى مع السلاطين. وقد دفعت هذه الاضطهادات الفلاحين إلى الفرار من الأرض إلى المدن، مما ترتب عليه خراب الأرض الزراعية من ناحية، وخلق المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في المدن من ناحية أخرى. وبالإضافة إلى هذا، علينا أن نتذكر ما أصاب عناصر الإنتاج الزراعي من تعاقب الأوبئة والطواعين والفياضانات والجفاف. كما تدهورت التجارة في العالم العربي والإسلامي تدهوراً كبيراً لا بسبب الضرائب والمكوس الشرعية وغير الشرعية وعمليات الابتزاز والمصادرة التي كان يعاني منها التجار فحسب، وإنما أيضاً نتيجة تجزئة العالم العربي والإسلامي والحروب الأهلية، وما ترتب عليها من انعدام الأمن والسلام على امتداد الطرق التجارية وانتشار القرصنة في البر والبحر، وإهمال الطرق والمسالك والمحطات البريدية ووضع العراقيل أمام انتقال التجار بين الدول الإسلامية المتنازعة. كما أن احتلال الصليبيين للساحل الشامي، ولمدة قرنين تقريباً (1098 - 1291م) أدى إلى حرمان التجار العرب والمسلمين من البحر المتوسط وأسواقه وموانئه، ومن دورهم كوسطاء بين الشرق والغرب، حيث انتزع هذا الدور الأوربيون عامة والإيطاليون خاصة. كما أصيبت الحركة التجارية بأضرار بالغة من جراء الصراع بين العرب والصليبيين والغارات الصليبية على القوافل التي كانت تنقل السلع والمتاجر بين الشام ومصر والجزيرة العربية، كما ألحقت الغزوات المغولية المتلاحقة بدءا من أيام جنكيز خان (ت 1227م) وهولاكو (1265م) وحتى تيمور لنك (ت 1406) كوارث حقيقية بالتجارة العربية والإسلامية، حيث نهب المغول ودمّروا عشرات من المدن التي كانت تشكّل مراكز تجارية كبرى مثل سمرقند وبخارى وبغداد.. إلخ. وأخيراً تلقت التجارة العربية والإسلامية ضربة مميتة على يد البرتغاليين، ذلك أن اكتشاف رأس الرجاء الصالح عام 1498 على يد فاسكو دو جاما، فتح طريق جديداً بين أوربا والهند، وبالتالي خسر العرب والمسلمون دورهم في التجارة الدولية، كما فقد البحر الأحمر أهميته كطريق رئيس بين الشرق الأقصى وأوربا، وخسرت دولة المماليك في مصر والشام مورداً ضخماً من مواردها الاقتصادية.
ولم تكن الصناعة بمنأى عمّا تعرضت له الزراعة والتجارة من مصاعب. بل إن تدهور الصناعة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بتدهورهما، فقد عانى الصنّاع والحرفيون من عمليات الابتزاز والمصادرة، التي كانت تمارسها الدول الإسلامية، ومادامت معظم الصناعات كان تتركز في المدن، فقد عانت مما كان يجري في المدن من دمار وخراب وقتل وسلب وحرائق، كام تلقت الصناعة ضربات مؤلمة على يد المغول، حيث نقل جنكيز خان مئات الصنّاع والحرفيين من المدن الإسلامية، التي استولى عليها مثل نيسابور وغيرها إلى منغوليا.
ثالثاً: تدهور العلوم ومؤسساتها
يعد تدهور الحياة العلمية سبباً من أسباب انحطاط الحضارة العربية، ومظهراً من مظاهره. فقد غابت الأفكار المبدعة واختفت العقلية العلمية لتحل محلها الخرافات والغيبيات، فالأدب انشغل - منذ العصر الأيوبي وحتى العثماني - في تطريز العبارات وزخرفة الكلمات دون الاهتمام بالمحتوى الفكري. كما استمر المؤرخون - باستثناء بعضهم أمثال ابن خلدون (ت 1406م) والمقريزي (ت1441م) - في الاهتمام بسير الخلفاء والسلاطين والملوك والأعيان، ولاشك في أن هذا الانحطاط الفكري يعود إلى أسباب عدة منها: 1 - غياب رعاة العلم من خلفاء ووزراء، فالضعف أصاب مؤسسة الخلافة نفسها، فقد انتهى عصر العباسيين الأوائل الذي كان يعد فيه الخلفاء من العلماء، ويعقدون مجالس العلم والأدب في بلاطهم وينفقون على المؤسسات العلمية ورجالها، ويدفعون الذهب ثمناً لشراء المخطوطات وترجمتها. أما خلفاء العصور العباسية المتأخرة فلم يعد العلم هماً يشغلهم.
2 - إن الدول الإسلامية، ربطت العلم ومؤسساته ربطاً محكماً بمصالحها، منذ بدايات العصر السلجوقي، حقيقة أسس الوزير السلجوقي نظام الملك (ت 1092م) المدارس وبنى الأيوبيون والمماليك الكثير منها في مصر والشام، ولكن ذلك لم يؤد إلى نهضة علمية شاملة، لأن هذه الدول هيمنت على التعليم ومؤسساته ووجهتها نحو ميادين تخدم مصالحها السياسية والمذهبية والإدارية. والدليل على ذلك: أ - ارتباط التعليم في تلك المدارس بالأوقاف التي خصصت لها، أي أن النفقة عليها كانت مرهونة بتنفيذ شروط الواقف، فأي خلل بهذه الشروط تتوقف النفقة وتغلق المدرسة. أي أن استمرار هذه المدرسة أو تلك مرهون برضاء صاحب الوقف - سواء أكان سلطاناً أو أميراً - على مناهجها وأساتذتها وطلابها. ب - إن الذين كانوا يتخرجون في هذه المدارس لم يشكلوا طبقة من العلماء، وإنما طبقة من الموظفين، يعملون في دواوين الدولة ومرافقها العامة. ج - إن معظم العلوم التي كانت تدرّس آنذاك هي العلوم الدينية، لأن الهدف من تدريسها كان دينياً ومذهبياً، وقد برز هذا واضحاً في الدولة الأيوبية، التي قامت على أنقاض الدولة الفاطمية، ومن ناحية أخرى، فقد أهملت العلوم الطبيعية والفلسفية، حيث عزفت المدارس - مثلاً - عن تدريس الفكر الإغريقي الذي كان مصدراً من مصادر الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي.
3 - وكان الإرهاب الفكري الذي مارسته الدول الإسلامية منذ العصر العباسي الثاني عاملاً أساسياً في تدهور الحياة الفكرية للحضارة العربية، وقد بدأت تباشر هذا الإرهاب في القضاء على المعتزلة، الذين كانوا يحملون راية العقل. ووصل الإرهاب الفكري إلى ذروته في العصرين البويهي والسلجوقي. وتروي المصادر أنه عندما دخل عضد الدولة البويهي (ت 983م) بغداد أمر رئيس ديوان الرسائل (الإنشا) آنذاك، وهو إبراهيم بن هلال الصابني، بأن يؤلف كتاباً في تاريخ دولة بني بويه، قديمه وحديثه. فامتثل إبراهيم للأمر وأخذ يشتغل في تصنيفه، ولكن أبلغ عضد الدولة أن صديقاً لإبراهيم دخل عليه فرآه في شغل شاغل من التسويد والتبييض، فسأله عمّا يفعل، فقال «أباطيل أنمّقها أكاذيب ألفّقها». فأمر عضد الدولة بأن يلقى إبراهيم تحت أرجل الفيلة. ولولا شفاعة كبار كتّاب الديوان لقضى إبراهيم نحبه، حيث وافق عضد الدولة أخيرا على إبقائه على قيد الحياة، وأن تصادر أملاكه ويُزج به في السجن. وظل هذا المؤرخ العظيم في السجن إلى أن أطلق سراحه في أواخر أيام عضد الدولة.
رابعاً - أسباب أخلاقية
يرى فريق من الباحثين أن انصراف الطبقات الحاكمة والفئات المتحالفة معها، ولاسيما منذ العصر البويهي عن قيم الإسلام وأخلاقه ومثله، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يُعد عاملاً مهماً من عوامل انحطاط الحضارة العربية الإسلامية، فالفصل بين الدين والحياة، وبين القيم والأخلاق الإسلامية والممارسات السياسية، أدى إلى الانغماس في الكثير من المفاسد والانحرافات الأخلاقية والأمراض الاجتماعية التي هدّت المجتمع من الداخل، واستنفدت قوى أبنائه العقلية والجسدية معاً. هذا فضلاً عن هيمنة ثقافة الخوف وقيم الخنوع والاستسلام للواقع، وانتشار الرياء والنفاق والتزلف الذي كانت تشجعه الطبقات الحاكمة.
الأسباب الخارجية
مع تسليمنا بما ذهب إليه الكثير من الباحثين، من أن العوامل الخارجية لا تُسقط الحضارة - إن لم تكن هذه الحضارة نفسها قاب قوسين أو أدنى من السقوط - فإننا لا نستطيع أن نغفل أثر بعض هذه العوامل في تدهور الحضارة العربية الإسلامية، وأهمها:
1 - سقوط صقلية بأيدي النورمان. من المعروف أن النورمان استغلوا الانقسامات التي دبت بين الأمراء العرب في صقلية ونجحوا في انتزاعها منهم عام (1091م)، وقد خسر العرب بذلك مركزاً مزدهرا ومتقدماً لحضارتهم في جنوب أوربا، وموقعا استراتيجيا مهماً في البحر المتوسط.
2 - الحروب الصليبية (1098 - 1291). لاشك في أن الحروب الصليبية قد استنفدت الموارد الاقتصادية لدول المشرق العربي، التي حملت لواء الجهاد ضدهم، وبخاصة الدول الزنكية والأيوبية والمملوكية. فقد كانت مسألة شراء الأسلحة والحديد والأخشاب والرقيق وبناء القلاع والحصون، تأتي في أولويات مشاريعها ونفقاتها، كما أن حالات التوتر والقلق والحماس الديني، الذي عمّ أبناء المشرق العربي، وعلى امتداد قرنين من الصراع مع الصليبيين، قد شغل الناس عن مسائل العلم والثقافة من ناحية، وألحق أبلغ الأضرار بالاقتصاد الذي يستند إليه التقدم الحضاري من ناحية أخرى.
3 - الغزوات المغولية: تعد الغزوات المغولية أكثر الغزوات التي تعرض لها العالم العربي والإسلامي قسوة ووحشية. فقد دمر المغول أيام جنكيز خان عواصم العلم والثقافة والتجارة في شرق العالم الإسلامي مثل: سمرقند وبخارى ونيسابور وغيرها، وبما كانت تحتويه من مئات المساجد والمدارس والمكتبات والأسواق، هذا فضلاً عن قتل وتشريد آلاف العلماء والأدباء. ونهب كنوز وثروات تجمّعت فيها عبر العصور. وفي أيام حفيده هولاكو، اجتاح المغول المشرق العربي، وكان نهب بغداد (عاصمة الخلافة العباسية) وتدميرها كارثة حضارية وإنسانية. ثم جاءت غزوات تيمورلنك لتذكر العالم بفظائع أسلافه المغول.
4 - سقوط الأندلس بأيدي الإسبان: قبل سقوط جزيرة صقلية بيد النورمان كان قد بدأ الإسبان. ما عرف باسم «حرب الاسترداد»، أي استرداد الأندلس من العرب المسلمين. ونجح هؤلاء في انتزاع الأندلس قطعة قطعة، حتى انتهى الوجود العربي فيها بتسليم بني الأحمر غرناطة للإسبان عام 987 - 1492. وقد خسر العرب بذلك بلداً متميزاً بثروته الاقتصادية وموقعه الاستراتيجي على الشاطئ الغربي للمتوسط. كما أن خروجهم يعني أنه لم يعد لهم موطئ قدم في القارة الأوربية، هذا فضلاً عن أنهم فقدوا بلداً حضارياً مزدهراً، بل كان متفوقاً في الكثير من الميادين على حضارة إخوانهم في المشرق آنذاك. ويهمنا أن نؤكد على أنه قد رافقت الحروب الطويلة، بين العرب والإسبان، في الأندلس، الكثير من أعمال التدمير لمظاهر الحضارة العربية، كما فرّ الآلاف من العلماء العرب المسلمين إلى المغرب العربي ومصر والشام. ومما زاد الأمر سوءا أن الإسبان أنفسهم اتخذوا موقفاً مناقضا لموقف نورمان صقلية تجاه الحضارة العربية، حيث انتهجوا سياسة استهدفت محو آثار العرب المادية وتراثهم العلمي، بل لم يتردد الإسبان المتعصبون، وفي مقدمتهم رجال محاكم التفتيش، في إحراق الكثير من المكتبات ودور العلم العربية التي كانت تزخر بها المدن الأندلسية، فأحد رؤساء الأساقفة، مثلاً، قام بإحراق ثمانين ألف مجلد من كتب التراث العربي بعد جلائهم عن الأندلس.
الخاتمة
هذه بعض جوانب قصة ضعف حضارتنا وانحطاطها، وهي قصة طويلة ومعقّدة، ومسرح الأحداث فيها واسع وفسيح. والعوامل التي أسهمت في صوغ فصولها كثيرة ومتداخلة، بحيث لا يمكن الفصل فيما بينها فصلاً قاطعاً. وتبقى هذه القصة، في حقيقتها، هي حكاية تمزّقنا، ومنازعاتنا، وفشلنا في حفظ حضارتنا «كما يحفظها الرجال..»، هي قصة اغتيال العقل والحرية في تاريخنا، أمة وأفراداً.
عادل زيتون