يتهم المؤمنين الملحدين عادة بالكثير من الإتهامات المشينة و لكن يمكن تلخيص تلك الإتهامات في إتهامين أساسيين :
1- أنهم ينزعون المعنى من الحياة الإنسانية و يتركوها حياة حيوانية لا تعني أي شيء لأي شخص.
2- أنهم يعيشون بلا مرجعية أخلاقية و لا قيم عظيمة و بالتالي من السهل عليهم إرتكاب الجرائم.
بالطبع يمكن الرد على الإتهام الأول كالتالي :
أ- أن الله لا يعطي معنى للحياة لأنه أساسا كائن بلا معنى و فاقد الشيء لا يعطيه و بالتالي فإن إخراج الله من الصورة لا يعني جعل الحياة بلا معنى.
ب- ليس الملحدون هم القائلين بان الحياة الإنسانية لها أصل حيواني طبيعي بل العلم و بالتالي فتلك ليست مسئولية الملحدين. لكن كل ما يدعو له الملحدين هو ألا ندفن رؤسنا في الرمال متجاهلين الحقيقة متمسكين بمعاني زائفة و هزيلة للحياة.
ت- الحياة عند الملحد ليست بلا معنى و هذا يعتمد على الفلسفة التي يتبناها في تأويل الحياة و التعاطي معها و مع مشكلاتها.
و لكن الرد على الإتهام الثاني أكثر صعوبة, لان الرد يجب أن يكون عمليا عن طريق وسيلتين :
أ- إختيار الملحد لأساس فلسفي علماني يمده بقيم و مبادئ بديلة للقيم و المبادئ الدينية فتكون مرجعية أخلاقية بالنسبة له.
ب- الإلتزام بالمرجعية الأخلاقية التي إختارها الملحد بنفسه و تقديم نموذج يحتذى به للملحد المحترم الراقي الفاضل.
أتصور أن الملحد الأصيل أفضل أخلاقا من المؤمن و إلا فهو مجرد عابث و مدعي, لأن الفكرة أساسا من الإلحاد هي الإرتقاء بالوعي و الأخلاق و الحياة. الإرتقاء بالوعي عن طريق رفض الخرافة و السعي خلف الحقيقة, و الإرتقاء بالأخلاق عن طريق رفض الأخلاق الإلهية العقيمة القديمة و السعي خلف أخلاق عصرية و عملية و عقلانية بديلة, و الإرتقاء بالحياة عن طريق رفض الأديان و طقوسها المعطلة للحياة و السعي خلف حياة أكثر إنفتاحا و رحابة.
القيم الإنسانوية الثلاث
و مع إن الإرتقاء بالوعي و الأخلاق و الحياة هي من ضمنيات الإلحاد إلا أن الإلحاد عادة لا يؤكد عليها صراحة كما يؤكد على رفض الإنحطاط بالوعي و الأخلاق و الحياة عن طريق إتباع الآلهة و الأديان. و لذلك فلقد أبدع الملحدون في أوربا و أمريكا صياغة الإنسانوية لتكون إمتداد لخط الإلحاد إلي نهايته و تصريح مباشر بضمنيات الإلحاد و وريث شرعي لكل الحركات العقلانية الأخلاقية عبر تاريخ الإنسانية. و بالتالي فإن الإنسانوية هي إلحاد صريح و مباشر و إيجابي باكثر من الإلحاد السلبي التقليدي الدائر في فلك الأديان و الآلهة و بذلك يكون الملحد الحقيقي (من وجهة نظري على الأقل) هو من يقبل الإنسانوية كمذهب فكري و فلسفي معبر عنه و أما من لا يقبل الإنسانوية فهو ملحد ناقص أو ملحد ضعيف أو ملحد إلا حتة.
و الإنسانوية كمذهب فكري إيجابي يعتمد العلم الصحيح و الأخلاق القويمة كمرجعيات أساسية للمعرفة و السلوك له العديد من المميزات و لكن أهم المميزات الموجودة في هذا الفكر و تلك الفلسفة هي أنها تعتبر وريثة لكل مساهمة في الفكر العقلاني و الاخلاقي على مدار التاريخ و من ثم لا تحتكر الحقيقة و الأخلاق للمستقبل بل تسع و تنفتح لكل المساهمات و الإضافات التي يقوم بها كل من يقتنع بقيم و مبادئ الأنسانوية.
أما أهم القيم التي يسعى إليها كل إنسانوي و يؤكد عليها فهم ثلاثة :
1- The Reality أو الحقيقة : كقيمة طبيعية
2- The Compassion أو التعاطف : كقيمة إجتماعية
3- The Happiness أو السعادة : كقيمة فردية
أما تلك القيم العظمى الثلاث فهي تصب في هدف واحد و هو الإرتقاء بالإنسان و الإنسانية للوصول لآفاق المجد و العظمة و الخلود. فالحقيقة ترتقي بوعي الإنسان و تكسبه ذكاء و حكمة و تبصر أما التعاطف أو المحبة فتعمل على تقوية الروابط الإجتماعية و تنمية العلاقات الإنسانية و أما السعادة الفردية أو الشخصية فهي الهدف الطبيعي لكل إنسان و الذي لا يحتاج توضيحا أو دفاعا.
الكلام يبدو جميلا و منمقا و لكن الشيطان يكمن في التفاصيل لان القيم الإنسانوية تحتاج إلي توضيح و تحديد اكثر. بالنسبة للحقيقة فهي تحتاج إلي مرجعية و منهج و لذلك فالحقيقة عند كل إنسانوي ليست حقيقة نظرية فلسفية بل هي الحقيقة العلمية المادية التجريبية فالمرجعية هي العلم و المنهج مادي تجريبي لكي نكون محددين. و بذلك يكون اللاهوت و الفقه و التنجيم .. ألخ هي علوم مزيفة و أبعد ما تكون عن العلوم الحقيقية التي زادت من وعي البشرية و أفادتهم عمليا بأعتماد التكنولوجيا عليها.
و بالنسبة للتعاطف فهي أيضا تحتاج إلي مرجعية و منهج و لكن التعامل مع الحقيقة أسهل لان الحقيقة موجودة فعلا و نحن نكتشفها اما التعاطف و الحب فهما إختراعات بشرية يبدعها البشر من أجل تحسين نوعية الحياة لذلك فكل فلاسفة البشرية إبتداء من سقراط و بوذا و ما قبل ذلك إلي كورليس لامونت و بول كورتز يحاولون صياغة مرجعية عقلانية و منهج إنسانوي للتعاطف و الحب و الفضائل الإنسانية عموما. و مع ذلك يمكن ان تكون الاخلاقيات التي ينادي بها فلاسفة الإنسانويين في العصر الحديث هي المرجع لفهم الحب و التعاطف.
أما بالنسبة للسعادة الشخصية فهي أمر راجع لكل إنسان و إن كانت مدعومة أيضا من الحقيقة و التعاطف. فالحقيقة العلمية تعمل لخدمة الإنسان و التعاطف يهون الحياة على الناس و لا ينقص المرء الآن إلا الإهتمام العاقل بنفسه. و هو ما يعني الإرتقاء النسبي أو عدم الإنجراف خلف اللذات الوقتية من أجل تحصيل السعادات الدائمة مثل الأمن و النجاح و الصحة و الجمال.
و هكذا ترتقي القيم الثلاث بالإنسان, الحقيقة ترتقي بالوعي و التعاطف يرتقي بالأخلاق و السعادة ترتقي بالحياة. و بذلك يصب السعي الدائم لتحقيق تلك القيم في خير الإنسانية كلها بغير تناقض مع سعادة الفرد بل إن هذة القيم الثلاث تحدد للإنسان الأهداف التي يعيش من أجلها و المعاني التي تضفي على الإنسان و الحياة لون و طعم و رائحة بالإضافة للأخلاق التي تنظم علاقة الإنسان بالطبيعة و بالمجتمع و بنفسه.
التطور عن طريق الإنتخاب الصناعي
أما الفكرة من الإرتقاء بالإنسان فهي مأخوذة بالكامل من نظرية التطور و بما ان التطور يتم عبر آلية الإنتخاب الطبيعي و هي آلية عشوائية ذات نتائج فوضوية و التي لحسن الحظ قد أوصلتنا كنوع إنساني لما نحن فيه الآن من ذكاء و قدرة إلا أنها لم تعد تليق بنا و لم يعد من الحكمة أن نترك مصائرنا في يد الحظ. فبعد أن وعينا بعملية التطور التي تسري على الإنسان كما تسري على الكون توجب علينا أن نتدخل في سير عملية التطور عن طريق الإنتخاب الصناعي.
الإنتخاب الصناعي عموما هو عملية تهجين الحيوانات أو النباتات للحصول على صفات معينة أو لمزيج من الصفات. تم استعمال هذا المصطلح من قبل تشارلز داروين أثناء مقارنته بالإنتخاب الطبيعي، والذي يرتبط فيه التكاثر المتباين للكائنات ذات الصفات المعينة بالظروف المعيشية المحسّنة أو القابلية التكاثرية (التكيف الدارويني). وبشكل متعارض للانتخاب الصناعي حيث يتدخل فيه الإنسان لصالح تكاثر صفات معينة، تلعب البيئة في الانتخاب الطبيعي دور المصفاة التي تسمح لصفات معينة فقط بالمرور. لقد أصبح الإستغلال المتعمّد للانتخاب الصناعي شائعاً جداً في الأحياء التطبيقية، كما في اكتشاف وابتكار عقاقير جديدة.
و لكن ليس المقصود بالإنتخاب الصناعي أن نعتمد على علم تحسين النسل eugenics عن طريق تطبيق أساليب ومفاهيم الانتقاء على الإنسان، وعن طريق وسائل تحسين خصائصه الوراثية. المبدأ ليس مرفوضا من أساسه و لكننا بإنتظار نضوج العلم و خصوصا بعد الممارسات الشنيعة لألمانيا النازية و التي أساءت كثيرا لعلم تحسين النسل او تطبيق الإنتخاب الصناعي على البشر.
و لكن المقصود أساسا هو خلق بيئة إنسانية تصلح لعيش البشر و توجههم لما فيه الخير لهم من خلال التربية و التعليم و التحفيز الإجتماعي للممارسات الطيبة و العقلانية. فمن خلال تربية النشء على الأخلاق القويمة المنفتحة و تعليمهم العلم الصالح النافع و تحفيز الإنسان على التضحية بالوقت و الجهد من أجل خير الناس جميعا سيقوم المجتمع الإنسانوي المنشود. و بالطبع لا يمكن إقامة مجتمع أخلاقي و إنساني بالإعتماد على النظام الإقتصادي الرأسمالي لما له من عيوب كثيرة من تشجيع الناس على الأنانية و الإنتهازية و سوء توزيع الثروة و فساد إستغلال البيئة و الإعتماد على مصادر متناقصة للطاقة .. ألخ, و بالتالي فإن الإنسانويين و كل المتخصصين ذوي الميول الأخلاقية لديهم إهتمام كبير بإبتداع نظام إقتصادي جديد أو على الأقل بصياغة تحسينات كبيرة على النظام الرأسمالي الموجود فعلا.
الإنسانويون كذلك يؤمنون بتشجيع التنمية الأخلاقية في الأطفال و البالغين. إذن هي مهمة التعليم العام ان يتعامل مع القيم الإنسانوية. و على ذلك فالإنسانويون يدعمون التعليم الاخلاقي في المدارس و التي هي مصممة لتطوير إدراك الفضائل الاخلاقية و الذكاء و بناء الشخصية. الإنسانويون يريدون تشجيع نمو الوعي الأخلاقي و سعة الإختيار الحر و فهم تبعات ذلك. لأن السعي الأساسي للإنسانويين نحو إقامة مجتمع إنساني صالح يحفز و يوجه الناس إلي أن يكونوا أخلاقيين و عقلانيين للوصول إلي إنسان أفضل و حياة أفضل. فالمجتمع (و ليس الطبيعة) هو المنوط به قيادة عملية التطور و التحكم فيها و توجيهها من أجل الإرتقاء بالإنسان وعيا و أخلاقا و حياة.