نسيت إذا كنت تحدثت عن هذا الكتاب هنا سابقا أم لا، فاعذروني إن كان الموضوع مكرر
هذه القصة تتحدث عن جوليان مانتل، أحد أشهر المحامين القانونيين في الولايات المتحدة، وبالإضافة إلى كونه مشهورا في قاعة المحكمة، كان مشهورا لثراءه وحياته الليلية الصاخبة ونمط حياته السريع بين العمل والمتعة، إلا أن تركيزه على العمل كان أكثر ما يشغل وقته وحياته ... كل ذلك إلى أن جاء اليوم الذي انهار فيه كل شيء، بانهيار جوليان على أرض المحكمة في خضم مرافعته في إحدى القضايا الهامة والكبيرة جدا كعادته، انهار متأثرا بذبحة صدرية ألمت به، وظن الجميع بأنه قد مات ...
سبحان الله، كيف أننا لو نظرنا أحيانا إلى أعظم المصائب التي ألمت بنا خلال حياتنا، ولو تمعنّا أكثر قليلا وتأملنا بما حصل بعد تلك المصائب أظن أننا سنجد في 90% من الحالات بأن الحياة أخذت منحا تصاعديا بعد كل مصيبة أو كارثة أو مهما أردنا تسميتها ... هناك قول أؤمن به كثيرا "once you hit the bottom, the only way to go is UP"، أو "عندما تصل الحضيض، فإن السبيل الوحيد الذي يمكن سلوكه هو الصعود إلى الأعلى" .... ورب ضارة نافعة ...
هذا كان حال جوليان، فقد كانت الذبحة الصدرية بمثابة جرس المنبه الذي أفاقه من دوامة طال أمدها، دوامة ابتلعت حياته كلها تقريبا، لم يكن له أصدقاء (بالمعنى الحقيقي للصداقة) إلا القليل جدا، لم يكن له عائلة لأن زوجته هجرته منذ زمن بعيد (لهذه قصة مؤثرة جدا لن أحكيها لكم)، اكتشف بأن عمله استهلك جل وقته وحياته، كان يقضي أيامه ولياليه في العمل، حتى أنه استوعب أن الأريكة المستلقية في غرفة مكتبه كانت بمثابة سريره كثيرا من الأوقات! ... كان يملك الكثير من المال نعم، كان يملك منزلا صيفيا في جنوب فرنسا أو في إحدى الجزر الإستوائية نعم، وكان يمتلك سيارة فيراري حمراء يعشقها، خصوصا عند إدارة المحرك وسماع الصوت الهادر لتلك الماكينة الجبارة، كان كنجوم السينما في حفلاته وصولاته وجولاته بين المطاعم الفارهة والنوادي الليلية الحصرية نعم .... لكن، هل كان سعيدا حقا بنمط حياته ذاك؟ ....
ذلك كان السؤال الذي طرحته الأزمة التي مر بها، "هل أنا سعيد حقا؟"، "هل هذا ما أريد فعله بحياتي؟"، "أي نوع من الحياة تلك؟ لا عائلة، لا أصدقاء، لا صدر حنونا يحضنني، لا ولا ولا ولا!!!!" ... ثم جاء السؤال الأهم،
"ما العمل الآن؟" ...
صديقنا جوليان قرر أن حياته التي كان يعيشها لم تكن تمثل من هو، أراد التغيير، أراد أن يجد "ذاته" الحقيقية، فاتخذ القرار بهجران حياته والإنطلاق في رحلة البحث عن الذات أو كما أسماها "personal odyssey of the self" منطلقا نحو الهند لما عرفه عن مكانتها الروحانية عالميا كما هو معروف للجميع ... تخلى عن كل شيء، باع منزله الصيفي الفاخر، باع سايرته الفيراري العزيزة جدا على قلبه، تخلى عن كل شيء عرفه في حياته السابقة، الحياة الفارهة، النوادي الليلية الفاخرة، الفتيات بارعات الجمال، وشهرته كأحد أعظم المحامين القانونيين في البلاد ...
إنطلق جوليان إلى الهند وهام هناك على وجهه، متنقلا من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة، تارة بالسيارة، تارة بالقطار، وتارة أخرى مشيا على الأقدام، باحثا عمّن قد يساعده على إيجاد ذاته وتجديد نفسه، حتى وصل إلى إحدى البلدات الصغيرة القابعة على سفح أحد جبال الهمالايا حيث التقى بأحد الرهبان المتنسكين هناك، وشاءت الصدف بأن يكون ذلك الراهب محاميا سابقا في مومباي أيضا، حيث كان نجما في مجاله، إلا أنه اختار حياة النسك والزهد لما وجد فيها من جمال وفائدة روحية عظيمة فضلها على حياة الإرهاق والأرق التي عاشها في حياته السابقة كمحام ...
بعدما أمضى فترة مع الراهب، أخبره بأن هناك قرية أسطورية وسط جبال الهمالايا، يُقال بأن مجموعة من الرهبان يعيشون فيها، وهي المطلب الذي مات في سبيل الوصول إليه كثيرون ممن مروا قبل جوليان في هذه المنطقة، فلم يرجع أي ممن انطلقوا بحثا عن تلك القرية وأولئك الرهبان، إلا أن من يجدها فكأنما وجد نبع الحياة والشباب والسعادة الدائمين ... تساءل جوليان أين هي تلك القرية فلم يجد الجواب عند صديقه الراهب، إلا أنه أشار أنها في مكان ما هناك (مشيرا إلى جبال الهمالايات الشاهقة) ...
لم يضيع جوليان ثانية أخرى، وانطلق بما عليه من ثياب نحو الجبال، باحثا عن تلك القرية الأسطورية، وهام على وجهه في مكان لم يعهده من قبل، لا شوارع، لا إنارة، لا حضارة، لا شيء يدل على أنه يسير على الطريق الصحيح، إلا أنه كان يتبع شيئا واحدا فقط، قلبه، تلك كانت بوصلته الوحيدة التي تقوده نحو هدفه ... مدفوعا بالأمل، مضى سابرا أغوار الجبال الشاهقة والوديان السحيقة، باحثا عن أثر، أي أثر يدل على وجود حياة، وكلما اتبعد أضواء المدينة أكثر، وتضاءلت أحجام البيوت والأشخاص، كلما شعر برهبة العزلة، إلا أن ذلك لم يثنيه عن إكمال مسيرته، فليس لديه ما يخسره، إما إيجاد القرية أو الموت في سبيل كل ذلك ...
بعد أيام من المسير والجوع والعطش، وأثناء المسير في محيطه يلفه البياض من كل حدب وصوب، ملتحفا ما تيسر له من ثياب، مرتجفا من شدة البرد، لمح جوليان شيئا غريبا في الأفق، كأنه شخص يرتدي ملابس ملونه بالأحمر والأصفر، يسير بسرعة، حاملا بيده ما يبدو أنه باقة من الورود الملونة!!! ... ظانا أنه مجرد خيال، وأن عقله وصل مرحلة الهذيان، فرك عينيه وأمعن النظر أكثر، أهي حقيقة أم خيال؟؟؟ ثم بدأ بالهرولة وراء تلك الصورة، وبدأ ينادي، حتى التفت ذلك الشخص نحوه ونظر إليه هنيهة، ثم انطلق يحث المسير مبتعدا عنه، كأنه لا يريد لجوليان اللحاق به، خجلا؟ خوفا؟ لستُ أدري .... إلا أن جوليان انطلق وراءه يريد اللحاق به، وهو ينادي طالبا المساعدة، "أريد الوصول إلى قرية رهبان السيفانا" (Sivana) وكانت تلك الجملة التي استرعت انتباه ذلك الغريب في الملابس الملونة ليتوقف عن هربه ويلتفت نحو جوليان ...
وصل جوليان إلى الغريب، ليرى هيئة رجل يبدو في مثل عمره، أكبر قليلا، لكن ملامحه تملؤها الحيوية والنشاط، وابتسامة دافئة ترتسم على وجنتيه الذهبيتين، مجرد النظر إليه بعث في نفس جوليان إحساسا بالراحة والسعادة، شعر حينها أنه وقع على أحد أولئك الرهبان الأسطوريين ... سأله الراهب عما يبحث عنه في تلك القرية؟ وماذا يريد من أولئك الرهبان، فأخبره شبح الإنسان اللاهث لجوليان بقصته على عجالة، وبما يرجو إيجاده عند أولئك الرهبان ... بعد سماع القصة، صمت الراهب لبرهة، ثم طلب من جوليان اللحاق به بصمت ...
يتبع ...