العقل والغيب من المغايرة إلى الإشكال
أليس من السذاجة تصديق الغيب بأدوات العقل ومنطقه وألاعيبة وسياقاته, اللغوية التي استنفذت مجالات اهتمام الفلاسفة و طاقاتهم على مر التاريخ البشري منذ أرسطو وانتهاء بديكارت. إن الإيمان بالغيب على النحو الذي تحدده و تصوره أراء الفلاسفة ومقولاتهم سرعان ما تصدع وانهار تحت ضربات مطرقة العقل ذاته, ذلك العقل الذي استخدموه على ما فيه من الإكراه والقسر و التضليل والمغايرة والإشكال, فالمتعالي الذي تم تأسيسه على الكون والفساد لا يصمد في مواجهة الأسئلة وما تستدعيه وتحيل إليه ولا في الحوادث والتبدلات ولا يوصل إلى القناعة التامة الكاملة في تفسير ما يحدث في هذا الكون المشاهد من كوارث ومآسي و فضائح, لا معنى لها سوى في الإحالة على أن المعنى يتأسس على اللامعنى. إن إمعان التفكير في الغيب وفي الماوراء, يؤكد أن التصديق المطلق به لا يقنع عقل الطفل الصغير, إذ الطفل على سبيل المثال يحيره وجود الشر كما يحير عقول الفلاسفة الكبار, لماذا خلق الله الكائنات الشريرة لأية حكمة وبأي معنى , وإن كان عقله لا يقوى بعد على تجريد مفهوم للشر, حيث لا قدرة له على إدراك الأمور بلغة الكليات والنظريات بل هو يدركها بالحس والتخيل والوهم . فعندما سألتني ابنتي ذات مرة هل يغفر الله لنوبل اكتشافه مادة الديناميت المتفجرة بعد أن تاب عن اختراعه المدمر, قفز إلى ذهني السؤال حول مسؤولية الله الذي خلق كائنا قادرا على اختراع مواد كافية لتدمير العالم ومحو آثار الحياة من على وجه الأرض. أيهما المسؤول , الخالق أم مخلوقه؟ الخالق الأول أم الخالق الثاني؟ وإن لم أرد على ابنتي الطفلة وألقي بالمسؤولية على مسبب الأسباب المبدع القادر العالم بكل شيء والعليم بكل أمر دق أم عظم , ذلك وإن كانت تعتريني الشكوك وتملك علي كل المنافذ وسبل الإدراك والفهم, لا أريد أن أفسد على ابنتي الصغيرة البريئة متوقدة الذهن نعمة خيالها الجميل وعالمها البسيط .
صحيح أن أهل الفلسفة يبذلون قصارى جهدهم لدفع مثل تلك الشكوك, فيحاولون تعليل الشر ويشرحون ماهيته, ويحددون دوره, ويخلصون من ذلك إلى البرهنة على حكمة الصانع الحكيم في كل ما يفعله. ولكنهم يصادرون بذلك حرية ومشيئة الله عن طريق العقل والبرهان , فيثيرون , إشكالا أكبر وأعظم , ذلك أنه إذا كان الله هو الذي خلق هذا الإنسان, مع علمه أنه سفاك للدماء, مفسد في الأرض, فلم خلقه, وهو القائل بأن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا؟ فما كان أغناه عن الحالين؟ وإذا كان ما يجري في هذا العالم من مفاسد وشرور, ومن كوارث وويلات, إنما يجري في الملك من دون علم من له الأمر والُملك, فتلك فضيحة. وإن كان يجري بعلمه ومشيئته فالفضيحة أعظم. فلم خلق الإنسان إذن, على هذه الصورة؟ وما الحكمة من خلقة؟ لا مجال للجواب على السؤال جوابا شافيا. فالله يعلم ما لا نعلم وهو لا يسأل عن فعله, بينما نحن نسأل ونحاسب ولا بد من الخضوع لأمره والالتزام بطاعته من دون جدال, وهذا ما استخلصه أبو حامد الغزالي وهو أعظم متكلم ظهر في الملة الإسلامية. لقد انتهى الغزالي, بعد طول البحث إلى الاقتناع بأن العقل وحده أعجز من أن يوصلنا إلى اليقين المطلق أو حقيقة الأمر. وأدلة المتكلمين قاصرة عن إثبات الحقائق في هذا المجال وإن كانت تصلح للدفاع عن المعتقد ومناهضة الخصم. هكذا فإن إخضاع الغيبيات إلى البراهين والقياسات لا يحل المشكل, بل يزده تعقيدا, ذلك أن الباب الذي يفتحه العقل بشكه لا يمكن إغلاقه على العقول الثاقبة. وكلما سد العقل بالدليل فجوة أحدث الشك فجوة جديدة. فالعقل من وجه دليل وبرهان , ومن وجه آخر أسئلة قلقة وشكوك هائلة.
وإذا كان هذا شأن الغزالي كمتكلم في موقفه من الغيب , فإن ابن سينا أهم فيلسوف إسلامي لم يصل هو الآخر إلى القناعة التامة والرضى الكلي في هذا المجال كما يبدو من قصيدته العينية الشهيرة, وإن قطع الرجل في المنطقيات والإلهيات : فلم حلت النفس في البدن ؟ وما الغاية من هبوط الإنسان من جنة الفردوس إلى الأرض ؟ وبصيغة أدق : لم أتت النفس من العالم الآخر إلى عالمنا هذا إن كانت لابد عائدة إلى العالم الذي صدرت منه أو عنه؟ هذا أمر يخفى برأي الشيخ الرئيس عن الفطن اللبيب الأروع, كما عبر عن ذلك في قصيدته المذكورة. ذلك أنه إذا كانت النفس قد هبطت لكي تعود عالمة, بما لم تكن تعلمه, أو لكي تستكمل ذاتها , فإن هذه الغاية لن تتحقق, إذ لن تعلم بكل حقيقة ولن يزول إذا نقصها . هذا خرق لن يرقع. والحق أن حديث ابن سينا عن هذا الخرق ليس سوى دليل على أن خطاب الفلاسفة في مجال الإلهيات هو خطاب مخروق, وإذا كان ابن سينا لم يصرح في خطابه الفلسفي بما صرح به في قصيدته العينية, فلأن الفيلسوف يهتم بتماسك الخطاب واتساق المقال و بحسب ما تقضي به صنعة الفلسفة ولو تم ذلك على حساب الحقيقة , وهو يتم على حسابها فعلا, إذ المنطق الصرف هو اختزال للواقع ونسيان للوجود واستبعاد للسؤال, ولهذا فإن تماسك الخطاب لا يعني أن خرقه مستحيل, وتماسك الخطاب السينوي يفضحه السؤال المستبعد الذي تفصح عنه القصيدة العينية, فلماذا خلق الله الإنسان ذلك الكائن, وبنى سويته على الفجور والتقوى , ثم تركه يختار ما يشاء لكي يعود فيحاسبه, بعد أن يكون ارتكب ما ارتكب من المعاصي والفواحش وجر ما جر من الويلات والكوارث والخيبات؟ فهل ذلك حكمة أم مجرد تحكم للمشيئة؟
أن ابن سينا قد عالج مسألة الشر بقوله أن الشر لا يوجد إلا في عالم الأرض, أي في عالم الكون والفساد, فالشر في رأية يتساوق مع الإمكان والنقص والعدم وهو إذ يوجد لا يوجد بذاته ولا هو غالب أو دائم في وجوده. وإنما يوجد وجودا عارضا, وبصورة اقل بمعنى أنه يوجد شر قليل وجزئي ولكن من اجل الخير الكثير والدائم الكلي. ولكن إذا كان الشر لا يوجد بذاته, بل من أجل الخير, كما يقرر الشيخ الرئيس , فإنه يلزم عن ذلك, أن الخير يستلزم وجود الشر, أو أن الشر ضروري لوجود الخير, فلا يعود الخير خيرا بالذات بل بنسبته إلى الشر, والنسبة بينهما هي نسبة متبادلة. بمعنى أن الشر يوجد من أجل الخير ويشكل من ثم شرطه ومقوما من مقوماته. وأن الشر يتولد في المقابل عن الخير ويصدر عنه. ذلك أن الشر يساوق الممكن , والممكن لا يوجد بذاته بل بغيره على ما يقرر فلاسفة الإسلام , إنه يوجد عن واجب الوجود بذاته أي يصدر عن الخير الواجب , ويمكن إيراد هذا الاستدلال على صورة أخرى بالقول أن الخير يتساوق مع الواجب بذاته. ولكن لا يصدر عن الواجب بذاته إلا الممكن, والممكن مندرج في طبيعة الشر, فالشر يلزم إذن عن الخير , إنه يوجد به وله, وعليه لا يوجد خير بذاته, كما لا يوجد شر بذاته. بل الخير والشر يرتبطان ويتوقف وجود أحدهما على الآخر تماما كما يرتبط الوجوب والمكان والوجود والعدم والفساد والكمال والنقص . إن تلك البراهين التي قدمها ابن سينا لا تمثل في نظر المدقق سوى تمارين عقلية يروض بها طالب الفلسفة قريحته, ويشحذ آلته النظرية, إنها براهين لا تنتج سوى مقدماتها, لأنها تفترض وجود الواجب ثم تحاول البرهنة عليه على نحو بعدي , وبيانه أن البحث عن سبب الوجود خُلف. ذلك إذا كان لا شيء يتقدم على السبب في الوجود, وكان لا متقدم في الوجود قبل الوجود, كما يقرر الشيخ الرئيس فلا يصح إذن أن يرد الوجود إلى سبب مسبب يتقدمه أو يقع خارجه, أو يتعالى عليه بل الأحرى القول أن الوجود هو ما يوجد. ومآل هذا القول بل تأويله لا يفسر على نحو سببي بالبحث عن أسبابه وعلله, بل يفسر ويؤول بشرح معناه والكشف عن أشكال ظهوره وأنماطه.
وليست دلائل الفلاسفة المحدثين في هذا الخصوص بأشد وثوقا وأكثر مطابقة, فلقد برهن ديكارت بدوره على وجود الله , ولكنه وقع في الدور والسببية, وكان برهانه تحصيل حاصل, أي كمن يزيد بعض الاصفار إلى دفتر حسابه كيما يصبح أكثر غنى على حد تعبير الفيلسوف الشهير كانت. والحق أن برهان ديكارت هو أقرب ما يكون إلى لزوم ما يلزم, بل هو برهان يرجع بصاحبه إلى الوراء, ذلك أن ديكارت انبرى للبرهنة على وجود الكائن الكامل, بعد أن انتهك حرمته وأعلن انسحابه من على مسرح هذا العالم.
وهكذا نلحظ أن براهين الفلاسفة والمتكلمين على الغيب لا تقول شيئا ولا تثبت شيئا, إذ هم يحاولون البرهنة على ما يند على البرهان , وكل محاولة على صحة المعنى تؤول إلى اللامعنى, ولهذا فهي لا تفيد يقينا, بقدر ما تثير من الشكوك 00000
|