انهمكت هذا الصيف بمناقشة فكرية هامة كانت قد شغلت فرنسا المثقفة طيلة السنتين الماضيتين، بل ولا تزال تشغلها بشكل من الأشكال. من الذي أشعل المعركة؟ باحث فرنسي يدعى سيلفان غونغهايم، وهو أستاذ تاريخ القرون الوسطى في جامعة ليون. فقد نشر كتابا بعنوان: «أرسطو في جبل السان ميشيل. الجذور الإغريقية لأوروبا المسيحية». وفيه ينقض الأطروحة الراسخة التي يؤمن بها علماء الغرب والشرق والتي تقول إن العرب هم الذين نقلوا الفلسفة الإغريقية إلى أوروبا بدءا من القرن الثاني عشر الميلادي، وأدوا بالتالي إلى نهضتها أو على الأقل كانوا أحد العوامل المساعدة فيها. هذه أطروحة أصبحت تحصيل حاصل في أوساط الباحثين العلميين ولا يخطر ببال أحد أن يشكك فيها، حتى جاءنا هذا الباحث بكتابه الطنان الرنان.
ولكن لحسن الحظ تصدى له باحث آخر ضليع في الموضوع هو آلان دو ليبيرا، أستاذ الفلسفة القديمة في جامعتي باريس وجنيف. فقد رد على الكتاب السابق وأفحمه بكتاب جديد وجماعي شاركه فيه باحثون آخرون. عنوان الكتاب: «الإغريق، والعرب، ونحن». إنها لمناظرة فكرية ممتعة تجري على أعلى المستويات في بلد ديمقراطي حر يسمح بالرأي والرأي المضاد ولا يفرض رأيا واحدا وإجباريا على البشر، فالحقيقة هي محصلة صراع الآراء المتناقضة والمناظرات الحامية. الحقيقة هي نهاية وليست بداية. الحقيقة ليست معطاة لنا مسبقا وبشكل جاهز. للسيد سيلفان غونغهايم أن ينكر أي دور للعرب في الحضارة، ولكن لغيره حق الرد عليه ونقض أطروحته والإشادة بدور العرب بشكل موضوعي، أي دون زيادة أو نقصان.
أشير في هذا الصدد إلى كتاب آخر كان قد صدر قبل بضع سنوات للباحث ديمتري غيوتاس، أستاذ اللغة والآداب العربية بجامعة ييل بأميركا، عنوانه هو: «الفكر الإغريقي والثقافة العربية: حركة الترجمات الإغريقية العربية في بغداد العباسية». وقد نقله إلى الفرنسية الباحث المغربي عبد السلام شدادي. وفيه يقول إن بغداد أصبحت في ظل العباسيين مركزا لليقظة الكبرى للفكر الفلسفي والعلمي، وهذا الانبعاث الرائع للحياة الفكرية العربية الإسلامية ترافق مع حركة ضخمة لترجمة النصوص الإغريقية. وهذه الترجمات العلمية والفلسفية هي التي أدت إلى ازدهار الفكر العربي الكلاسيكي والعصر الذهبي، ولكنها أدت أيضا إلى نهضة أوروبا لاحقا عندما ترجمت بدورها الكتب العلمية والفلسفية العربية.
ماذا تعني كل هذه المعركة الفلسفية التي تدور حولنا دون أن ندري؟ يخطئ من يظن أنها معركة أكاديمية فقط، أي تجري داخل جدران الأبراج العاجية لحفنة من المفكرين الكبار وأساتذة الجامعات. على العكس تماما، فهي تندرج داخل السياق العام الساخن والصراع الهائل الجاري حول العرب والمسلمين في الغرب حاليا. نحن فعلا أكبر مشكلة في العالم اليوم. السياسة ليست بعيدة أبدا عن هذه المناظرة الأكاديمية من العيار الثقيل. صحيح أن العرب ليس لهم أي حاضر يذكر في الوقت الراهن ولا أحد يقيم لهم وزنا. هذا شيء متفق عليه. ليس لهم أي إسهام في الحضارة العالمية على مستوى الاكتشافات الطبية أو العلمية أو الصيدلية أو الفلسفية... إلخ، ولا حتى على مستوى الفكر الديني الجاد والمسؤول. ولكن المشكلة هي أن السيد سيلفان غونغهايم يريد أن يسرق منهم الماضي أيضا! وهكذا نكون قد خسرنا الماضي والحاضر، الدنيا والآخرة! كل شيء يحصل كما لو أنهم يريدون أن يقولوا لنا: أنتم عرق رديء، متدنٍّ، غير قادر على إنتاج الحضارات. فارضوا بما قسم الله لكم من بترول وبعير وجمال وتمر ونخيل وبكاء على الأطلال... إلخ. الحضارة لم تخلق لكم ولا لأمثالكم، فأريحوا واستريحوا، وكفى الله المؤمنين شر القتال. وحتى لغتكم سوف تموت وتنقرض قريبا.
هذا ما يقوله لنا اليمين المتطرف الأوروبي والأميركي، أي الغربي بشكل عام، ولذلك فإن هذا التيار رحب كل الترحيب بكتاب غونغهايم على مواقع الإنترنت وشمت بالعرب كل الشماتة بعد أن فقدوا آخر ورقة لهم.
والآن ماذا يقول كتاب آلان دو ليبيرا وجماعته؟ كيف تصدى للكتاب السابق؟ لقد ندد أستاذ الفلسفة الإسلامية والمسيحية بهذا التيار اليميني الحاقد على العرب والمسلمين. وقال بما معناه: إنها لظاهرة مقلقة، فالخوف من العرب والإسلام وصل إلى المجال العلمي نفسه ولم يعد يكتفي بالصراع السياسي. وأصبح كبار الباحثين الأكاديميين يصفّون حساباتهم مع الإسلام على المكشوف. أصبحوا يتجرأون على القول: نحن لسنا مدينين للحضارة العربية الإسلامية بأي شيء حتى ولا بنقل التراث الإغريقي إلينا. فنحن تعرفنا عليه دونهم وبوسائلنا الخاصة من خلال مدرسة الترجمة التي كانت موجودة في جبل السان ميشيل الواقع في منطقة النورماندي، وبالتالي فالفكر العربي لم يقدم لنا أي شيء يذكر. وكل هذه الضجة المثارة عن فضل العرب على أوروبا أو إسهامهم في نهضتها ما هو إلا أسطورة مفبركة، وقد آن الأوان للتخلي عنها، فالغرب إغريقي ويهودي مسيحي ولا يمكن أن «يتلوث» بالإسلام وتأثيراته، معاذ الله!
آلان دو ليبيرا يقول لهم: نحن جذورنا مسيحية دون شك، وإغريقية دون شك، ولكنها عربية إسلامية أيضا من الناحية الحضارية! والإسلام لعب دورا كبيرا في نهضتنا وكان أستاذا لنا يوما ما قبل أن يجمد ويدخل في عصور التكرار والاجترار ويكفر الفلسفة والفلاسفة.
خلاصة القول هو أننا نشهد حربا نفسية مكثفة لتحطيم المعنويات وزعزعة العزائم والهمم. لماذا؟ لأنهم إذا ما اعترفوا بأن للعرب باعا في صنع الحضارة واحترام العلم والفلسفة، بل والإبداع فيهما، فهذا يعني أنهم قادرون على صناعتها مرة أخرى. صحيح أن حاضرهم مُزرٍ ولكن المستقبل لهم، أو قل إنه مفتوح على الأقل، وهذا ما لا يريدون أن يعترفوا به بأي شكل. هذه الاحتمالية تقلقهم. ينبغي أن يظل العرب متخلفين، همجا، لا يعرفون حكم النظام ولا دولة القانون.
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=584783&issueno=11599