وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ - إعجاز أم صورة بيانية جميلة فقط ؟
تحية طيبة
لاحظت أن الكثير من الإعجازين يتعرضون للآية التالية :
" { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } "
و يقولون أن بها إعجازا باهرا , بحيث أن العلم الحديث قد أثبت أن الريح تقوم بتلقيح السحاب بالغبار و مإ إلى ذالك من مكونات , بحيث تشكل هذه الأخيرة " نواة تكثف ", فتلتف جزيئات المياه حول هذه النواة و يزدادا حجمها فتثقل ثم تسقط كمطر .
طبعا سوف لن أقول أن العلم ينفي ذالك , نعلم اليوم أن مكونات الهواء من غبار و ما إلى ذالك يشكل حقا نواة تكثف لجزيئات الماء . لكن ! هل هذا هو معنى الآية ؟
قبل الشروع في تفسير الآية , أحب أن نعرج معا على القواميس العربية المشهورة , للبحث في معنى كلمة " لاقح " , " لواقح "
لسان العرب لابن منظور
" وأَصل اللِّقاح للإِبل ثم استعير في النساء، فيقال: لَقِحَتِ إِذا حَمَلَتْ
واللِّقاحُ: مصدر قولك لَقِحَتْ الناقة تَلْــقَحُ إِذا حَمَــلَتْ، فإِذا استبان حملها قيل: استبان لَــقاحُها
ابن الأَعرابي: ناقة لاقِحٌ وقارِحٌ يوم تَحْمِلُ
ابن الأَعرابي: إِذا كان في بطن الناقة حَمْلٌ، فهي مِضْمانٌ وضامِنٌ وهي مَضامِينُ وضَوامِنُ، والذي في بطنها مَلْقوح ومَلْقُوحة، ومعنى الملقوح المحمول ومعنى اللاقح الحامل.
وتلقيح النخل: معروف؛ يقال: لَقِّحُوا نخلَهم وأَلقحوها."
الصحاح في اللغة
" ولَقِحَتِ الناقةُ بالكسر لَقَحاً ولَقاحاً بالفتح فهي لاقِحٌ."
كما نلاحظ من القواميس أن معنى لاقح هو حامل , فالناقة الحامل هي لاقح وجمعها لواقح .
معنى الآية يكون على أربعة أوجه :
1- لواقح بمعنى حوامل
الرياح الحوامل أي التي تحمل السحاب والماء , كما في قول القرآن في آية أخرى :
" هو الذي يُرْسِلُ الرياحَ نُشْراً بين يَدَيْ رَحْمَتِه حتى إِذا أَقَلّتْ سَحاباً ثِقالاً " أَي حَمَلَتْ
نجد في تفسير تفسير الكشف والبيان / الثعلبي
"فقال قوم: معناها حوامل؛ لأنها تحمل الماء والخير والنفع لاقحة كما يقال: ناقة لاقحة إذا حملت الولد
{ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ }[الذاريات: 41] فجعلها عقيماً إذا لم تلقح ولم يكن فيها ماء ولا خير، فمن هذا التأويل قول ابن مسعود في هذه الآية "
تفسير فتح القدير/ الشوكاني
" وجعل الرياح لواقح لأنها تحمل السحاب: أي تقله وتصرفه، ثم تمرّ به فتنزله. قال الله سبحانه:
{ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً }
[الأعراف: 57] أي: حملت. وناقة لاقح: إذا حملت الجنين في بطنها "
في لسان العرب نجد :
" أَقَلَّ الشيءَ يُقِلُّه واستقلَّه يستقلُّه إِذا رفعه وحمله.
وأَقَلَّ الجَرَّة: أَطاق حملها. "
تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي :
" { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } حوامل "
.
وهذا المعنى وارد , وله ظل في القرآن , نجد في سورة الذاريات :
" { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } * { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } "
نكت العيون للماوردي :
" قوله تعالى: { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } الذاريات: الرياح،
{ فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً } فيها قولان:
الثاني : أنها الرياح [يحملن] وِقْراً بالسحاب، فتكون الريح الأولى مقدمة السحاب لأن أمام كل سحابة ريحاً، والريح الثانية حاملة السحاب. لأن السحاب لا يستقل ولا يسير إلا بريح. "
إذن , لواقح جمع مفرده لاقحة , و الناقة اللاقح هي الحامل أو التي استبان حملها . و الريح اللاقح هي التي تحمل السحاب والماء , فلا علاقة لها , وفقا لهذا الرأي, بالإلقاح واللقاح بالمعنى الذي يشير إليه الإعجازين. بل أتت هنا بمعنى الحمل .
2- لواقح , مجرد صورة بيانية أو تشبيه
نعم , مجرد صورة بيانية لا غير , القرآن يصف الريح التي تحمل السحاب وتنشأه بالحامل اللاقح أما الريح المدمرة هي عقيم لا تحمل سحابا ولا ماءا ولا تنشأه
تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي
" { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } حوامل، شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم، أو ملقحات للشجر ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات في قوله: [الطويل]
[لِيُبْكَ يزيدً ضارعٌ لخصومهِ] ومختبطٌ مما تُطيح الطوائحُ
أي المهلِكات،
"
لهذا نرى القرآن يشبه الريح الخيرة التي تحمل مطرا وماءا باللواقح أما الطوائح المهلكات فهي عقيم من جهتين :
2- أنها لا تحمل السحب والماء , لا تنشىء سحابا أي لا تقله ولا تحمله ولا تحمل ماءا , هي مثل الأنثى التي لا تحمل. و الأشجار لا تثمر .
الريح الخيرة تحمل معها خيرا ومطرا , والريح المدمرة عقيم .
3- لواقح أي مـُلِقِحَة , مسؤولة عن التلقيح
كما أن القدامى كانون يظنون أن الريح تحمل الماء للسحاب , فكأنها تحمل بذورا للسحاب حتى يثمر ويمطر , تماما كما تحمل الريح بذور الأشجار فتثمر ,
تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي
" أن الرياح لاقحة بحملها الماء ملقحة بإلقائها إياه إلى السحاب
ابن مسعود "
( لسان العرب)
"واللَّواقِحُ من الرياح: التي تَحْمِلُ النَّدَى ثم تَمُجُّه في السحاب، فإِذا اجتمع في السحاب صار مطراً"
فابن مسعود الذي عاصر الفترة الإسلامية الأولى كان يعتقد هذا , إذن لا يمكن أن ننزه القرآن عن هذا المنطق أبدا ,و حتى لو قصد "لواقح " من الإلقاح فهذا لا يعني أنه يتكلم عن شىء معجز لم يكن العرب أنذاك يعرفونه .
4- الإلقاح يخص فقط النباتات في هذه الآية
هناك من قال أن لواقح هنا أي مٌُلقحة , تلقح النباتات فقط . الآية مبهمة , لا تبين لنا أصلا إن كانت كلمة لواقح تعني تلقيح ( من الإلقاح ) أم حوامل , ولو افترضنا أنها تعني تليقيح من الألقاح , فهي لا تبين الشىء الذي يتم إلقاحه !
نكت العيون للماوردي :
" لواقح للشجر حتى يثمر، قاله ابن عباس. "
وقال أبو عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح. وقال عبيد بن عمير: يرسل الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قمّاً، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب، ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه، ثم يرسل اللواقح فتلقح الشجر.
فحتى بافتراضنا أن الآية تشير حقا للتلقيح وليس للحمل فالشىء الذي يتم تلقيحه غير مذكور , و الأرجح والأغلب أن يكون الأشجار كما قال ابن عباس . ولا إعجاز في مبهم طبعا ! ما الفائدة من إعجاز علمي مشفر وملغز ومبهم !
أخيرا , الآية تقول :
" وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ "
وعندنا آية أخرى تقول :
{ والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض }
[البقرة: 164]
فمن السهل الإستنتاج أن المطر يأتي من السماء وليس من السحاب بما أن هذا الإخير محصور بين السماء التي يأتي منها المطر و الأرض ؟ فالماء مصدره السماء الذي يتخلل السحب , ثم يمطر .
خلاصة
لاحظ العرب العلاقة التي بين الريح و تلقيح الأشجار وحدوث الأمطار , فكان محمد يقول " ما هبت ريح جنوب إلا أنبع الله تعالى بها عيناً غدقة ". , فكانوا يصفون كل ريح خيرة تحمل بذور الأشجار بلاقح , أي حامل فهي تحمل السحاب وتنشأه وتقله وتسري به كذالك وتلقح أشجارهم , فكأنها ريح ولود زكية طيبة . أما الطوائح المهلكات العاتيات فهي ريح عقيم لا يأتي منها لا ثمر ولا مطر .
والصورة كلها مستنبطة من النباتات وثمارها , الشجرة إما عقيمة إما لاقح والرياح هي المسؤولة عن ذالك . فالمسألة مسألة تشبيه وصورة بيانية جميلة لا غير , بين الإثمار و العقم , بين ريح حاملة مطر وثمار فهي لاقح وبين ريح عقيمة لا تحمل ندى ولا سحاب ولا مطر ولا ثمار .
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-30-2010, 10:22 PM بواسطة سائل الرب.)
|