[color
=#0000CD]الشيخ إبراهيم عزت
من صعيد مصر إلى عالمية الدعوة
بقلم/أحمد زكريا عبد اللطيف
صعيد مصر مهد العظماء:
في مدينة سوهاج بصعيد مصر عام 1939م أطلَّ على الحياة "إبراهيم"، وكان ثاني ولد لأبيه "محمد سليمان"، بعد أخيه "أحمد"، الذي مات في المهد.
كان الوالد- "محمد سليمان"- مهندسًا عمل في التعليم الصناعي، وكانت الأم على علم وخلق ودين وثقافة، ترعرع الطفل المبارك في حضن أبويه اللذين أحاطاه برعايتهما.
واضُّطر الأب أن ينتقل بأسرته إلى طنطا نظرًا لظروف العمل، ثم ألحق ابنه بإحدى مدارسها الابتدائية وانتظم بالدراسة، إلى أن اضُّطر الأبُ ثانية أن ينتقل إلى القاهرة، فسكن بحي الزيتون، بينما التحق "إبراهيم" بالمدرسة الثانوية بعين شمس، ثم التحق بكلية التجارة بجامعة (عين شمس)، وتخرج فيها عام 1955م، ولم تكن سِنُّه قد تجاوزت السابعة عشرة.
بعد ذلك تمّ تجنيده ليخدم في الجيش، وفي تلك الأثناء تقدم لوظيفة مذيع في الإذاعة المصرية، ونجح في اجتياز الاختبارات التي أجريت له، وتمّ تعيينه، فقدَّم العديد من البرامج الدينية والثقافية، مثل: "بيوت الله"، "دنيا الأدب"، وبعد ذلك عُيِّن في الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، وبعد حين من الزمان حصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة الأزهر رغم انشغاله بالدعوة إلى الله.
الشيخ إبراهيم في رحاب الدعوة
وقد أثرت نشأة "إبراهيم عزت" في بيت صالح يحيطه الله برعايته، ويضفي عليه من محبته؛ فاتخذ "إبراهيم" حب الله طريقًا والدعوة إليه منهجًا منذ صغره؛ حيث إنضم إلى أنشطة جمعية الشبان المسلمين، ثم التحق بعد ذلك بأنشطة (الإخوان المسلمين)، وتأثر بالتصوف، وبعد ذلك كان قراره بالانضمام إلى جماعة التبليغ والدعوة عام 1963م؛ وهي جماعة لها نشاطها الدءوب في الدعوة إلى الله. وطريقتهم الأساسية في الدعوة إلى الله تتمثل في "الخروج في سبيل الله"؛ حيث يخرجون في مجموعات ترتاد المساجد، وتدعو الناس فيها إلى طاعة الله تعالى، ويتميزون بالجرأة وعدم الخجل في طوافهم بالشوارع وعلى البيوت والمقاهي والدكاكين والمحلات، داعين الناس إلى الصلاة أو مجالس العلم.
ولهم كأي جماعة حسنات وسيئات ،لكن لاينكر جهدهم الدعوى ،وأسلوبهم الحكيم ،وقدرتهم الفائقة في الوصول إلى الناس،إلا جاحد ،أوغير متابع للساحة الإسلامية عن قرب.
ولا نعلم الأسباب التي دعت "إبراهيم عزت" لترك (الإخوان) آنذاك، لكن أثر دعوة (الإخوان) ظهر جليًّا في مواعظه وخطبه، وقبل ذلك شعره، فهو وإن فارق صفهم بجسده، فإن روحه وقلمه وفكره متشرب بأكثر مبادئهم.
وللشيخ "إبراهيم عزت" الكثير من الخطب والمحاضرات التي ألقاها على آلاف المسلمين بمسجد (أنس بن مالك) بالجيزة في مصر؛ حيث تولى فيه الخطابة منذ عام 1975م، وظلّ داعيًا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، آسرًا مستمعيه بأسلوبه المميز الجذاب في خطابته، إلى أن لقي الله- عز وجل- في شهر رمضان المبارك عام (1404هـ= 1983م)؛ حيث عزم على السفر إلى مكة المكرمة للاعتمار والاعتكاف في المسجد الحرام بصحبة بعض أقربائه، وقبل أن تصل الباخرة إلى ميناء جدة، وبعد إفطار الشيخ وصلاته المغرب، استراح قليلاً، ولم يحن أذان العشاء إلا وقد صعِدت روحه إلى بارئها.
إبراهيم عزت شاعرا
في ذلك العهد الذي قدر الله لـ"إبراهيم" أن ينشأ فيه لم تكن الأمور على ما يرام بالنسبة لأبناء الحركة الإسلامية على كافة اتجاهاتها، وخاصة (الإخوان المسلمين)، ورغم أن "إبراهيم عزت" قد ترك صفوف (الإخوان المسلمين)، وانضم إلى التبليغ والدعوة، فقد ناله من التعذيب ما نال (الإخوان)، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن ما حدث لهم- بناء على ما ذكر في روايات من نجا ممن وقع عليهم التعذيب، والكتب التي أرّخت لتلك الأحداث- يكاد يقترب مما فعله الإسبان بالمسلمين في محاكم التفتيش، وما فعله أهل قريش بالمسلمين الأوائل، ولم تكن هذه المشاهد المروعة المرعبة لتمر على الشاعر "إبراهيم عزت" دون أن يكون لها أثرها عليه؛ فقد فجرت تجربة المعتقل شاعرية "إبراهيم عزت"، فبلغت أوجها، وأنتج لنا شعرًا رائقًَا متميزًا في جوانبه الفنية المتعددة.
الله أكبر...صيحة القلب الحزين
لا نعرف لـ"إبراهيم عزت" سوى ديوان واحد طبع في بيروت عام 1970م بعنوان (الله أكبر)، وأنشد شباب الحركة الإسلامية العديد من قصائد هذا الديوان، ومن أبرزها ما غناه المنشد السوري "أبو مازن"، والديوان يتناول قضايا الدعوة والوطن والحرية، والحرية بالذات هي قضية كل إنسان، لا سيما الشعراء، خاصة من كان منهم مثل "إبراهيم عزت"؛ يحمل من المبادئ والهموم ما يفرض عليه أن يناضل من أجلها.
وبعد قراءة ديوان "إبراهيم عزت" مرات ومرات يمكننا القول باطمئنان إنه شاعر متميز، وإن غلبت الدعوة على مجهوده ونشاطه، فقد كان ما وصلنا من شعره من ذلك الصنف من الشعراء الذين يعبرون عن تجربة حقيقية وقد اصطلوا بويلاتها، فجاء شعره صادقًا في تعبيره عن واقعه، صادقًا في أدائه الفني، لا يعمد- في أكثره- إلى الثرثرة التي نراها لدى الكثيرين من شعراء الأيديولوجيا؛ سواء من كان منهم ينتمي إلى الحركة الإسلامية، أو الحركات القومية أو غيرها، بل إنَّ شعره من الشعر الرائق المتدفق الذي تنساب فيه الكلمات أحاسيس، والأبيات مشاعر، والحروف صورًا، وتتخلله التجربة والمعاناة، كما تتخلل الروح الجسد، لا تستطيع أن تفصل فيه الكلمة عن الفكرة أو الفكرة عن العاطفة؛ لأنه مزيج من كل هذا، نفث فيه الشاعر من روحه، وسقاه من قطرات نفسه التي اعتصرتها المأساة، فانبثق منها أفضل ما فيها، ومضى يردد في درب مسيره:
سألت خالقي وكلنا سأل
لمن لمن تركتنا؟!
سألت خالقي إلى متى..
ستطعم الكلاب ما وهبتنا؟!
ويصور حجم الفزع والرعب الذي يصيب قلب المعتقل الذي يرى أمامه أشلاء إخوانه تمزق ودمائهم تنزف...
الهول يا لقسوته
محافل تضم ألف سوط
والموت قادم يدوس فوق موت
الدرب الذي سار فيه "إبراهيم" هو درب موحش مظلم مرعب، نرى فيه الموت وحشًا خرافيًّا، مشهرًا أظافره، مبرزًا أنيابه، يدوس بأقدامه المهلكة فوق موت آخر كان قد سبقه إلى نفس الدرب، وكأنّ هذا الموت أمواج من الهلاك متراكبة تمامًا مثل الظلمات التي ذكرت في القرآن: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ (النور: 40).
ويوظف شاعرنا التراث العربي والإسلامي توظيفًا فنيًّا متميزًا في التعبير عن تجربته التي عاشها، فكان بمثابة كشف جديد لهذا التراث، وتخليد لتلك الأمجاد التي ولَّت، وإثراء لتجربة الشعر العربي الحديث.
من روائع إبراهيم عزت الشعرية
كانت لمعاناة "إبراهيم عزت" في المعتقل- الذي لبث فيه بضع سنين- أثرها في تجربته الشعرية؛ لذلك جاءت أكثر قصائد ديوانه تعبيرًا عن هذه المأساة في صورها المتعددة؛ سواء معاناته الشخصية، أو معاناة إخوانه من شباب الحركة الإسلامية، أو معاناة الوطن ذاته؛ لأنّ هذا الوطن سجين هو الآخر تحت قهر أولئك الجبابرة، يقول "إبراهيم عزت": في قصيدة بعنوان (حبيبتي بلادي):
حبيبتي
قد كنت أصنع الكلام من دمي
وكنت أعزف النشيد هامسًا
لعله إلى الفؤاد ينتمي
وكنت أكتب الحروف واحدًا فواحدًا
لتقرئي.. لتفهمي
وكنت يا حبيبتي وكنت..
والآن يا حبيبتي
لن أكمل الحديث
وإن بدا مشوِّقًا
فليس ما أريده إثارة الطرب
أو أن تحركي الشفاه من دلائلِ العجب
ولن أتمَّ يا حبيبتي النغم
فقد رأيتُ ما يحرِّمُ النشيد
ألف عام
فصرت كلما بدأتُ في الغناء
أجهشتُ بالبكاء
لن أُمسك القلم
فالرعشة التي سرت في قلبيَ المنهوك
أصابت المواقع الخضراء بالعقم
فلم تعد تجيد غير نبضة الألم
لن أكمل الحديث يا حبيبتي
فشمعتي في ليلة الجفاء أُطفئت
وأكذب الأصوات في هواك
قد علت
وقصة الكلام كلها
قد انتهت
أي حب هذا الذي حمله الشاعر لهذا الوطن؟! لقد كان يصنع الكلام من دمه، ويصوغ الحروف من قطرات نفسه وروحه من أجل هذا الوطن الحبيب، لكن يحدث ما يمنع أهازيج الشاعر وأغاريده؛ حيث يرى ما يحرم الغناء، وما هذا الغناء إلا الحرية الطليقة التي كان ينعم بها الشاعر مع هذا الوطن، فأصبح هذا الغناء محرمًا بقدرة خارجة عن إرادة الشاعر والوطن، إنها قدرة العسكر الذين يمتلكون السلاح. أمّا الشاعر فلا يمتلك إلا أشعاره، لكن ما يلبث الشاعر أن يستجمع قواه ومشاعره ليبدأ الغناء من جديد إلا ويغلبه البكاء، فالمواقع الخضراء أصابها العقم والشمعة التي تضيء أطفئت في ليلة الجفاء، لقد تلاشى النور لتحلَّ محلَّه الظلمة وتراجع الحق ليحتلّ مكانه الزيف الذي يدعي حب الوطن والوطن منه بريء:
حبيبتي
وكلهم بالأمس كان في الهوى متيما
حبيبتي
وأين هم؟!
في ليلك الحزين
وأين يا حبيبتي الأمير زائرًا؟
في الموكب الكبير..
يملأ الطريق بالعطور والزهور
يختال فوق صهوة الجواد
وأين يا حبيبتي غناء شاعرك؟
قد سال بحره منغمًا من بسمتك
وأين يا حبيبتي يمين عاشق
أتاك يسبق الرياح كي يُرَى بجانبك
ويسأل الشاعر عن الأمير/الحلم والأمل الزائر في موكب كبير يملأ الطريق بالعطور والزهور ويختال فوق صهوة الجواد، ويسأل كذلك عن غناء الشاعر الذي تلاشى بسبب القهر، ويسأل عن عاشق أو يمين عاشق أقسم بحب الوطن، كل هذه المفردات تكوِّن صورة حالمة يتمناها الشاعر لوطنه؛ لكن انقلبت هذه الصورة المشرقة إلى النقيض، فكان الخداع والبكاء:
خُدعت يا حبيبتي
بكت بكفك الجراح..
وارتوت بدمعك السفوح والجبال
ناحت رمالها
في ليلة الحداد حين زارها دمك
شكت سهولها
لوطأة البغي يستبيح حرمتك
نسيت في موائد الثناء
سيدًا تعشق الفداء
الموت عنده حياة
أحب دائمًا أن ترفع الجباه
وكفة الكلام عنده
نصف كفة العمل
أحب أن يراك مسجدًا
مقدسًا ثراه
لا ينال تربه
نسيته مقيدًا
شغلت عنه بالبريق
من سيطفئ الحريق غيره
ومن سيمسح الجراح إن جهلت سرَّهُ
الرعب يسبق الخطا لخصمه
وألف من يديه
تملأ العيون بالعمى
وسيفه بريقه صواعق
ستحفظ الحمى
نحن إذن أمام صورتين متقابلتين، أو قيمتين متناقضتين: قيمة الزيف وما يمتلكه من أدوات القهر والإرهاب والبطش والجبروت، وقيمة الصدق وما يمتلكه من حب فياض ومشاعر مخلصة.
وإذا جاز لنا أن نبحث عن معادلات هذه الصور في الواقع فإننا نقول: "إن الثورة بشرت بآمال عريضة تفاءل الناس بها خيرًا، لكن هذه الآمال لم تلبث أن تلاشت بعدما انحرفت الثورة عن أهدافها، وتحكَّم في الوطن بعض المنتفعين فأذاقوه من الويلات الكثير، وقد صدق الناس كثيرًا من زيف هؤلاء؛ وهو ما يمكن أن نفهمه من قول الشاعر:
خُدعت يا حبيبتي
بكت بكفك الجراح..
نسيت في موائد الثناء
سيدًا تعشق الفداء
وفي الجانب الآخر من المعادلة، أو الوجه الآخر من الصورة يرى الشاعر نفسه وإخوانه من أفراد الحركة الإسلامية محبين مخلصين لهذا الوطن، لكنه تنكر لهم أو تنكر حاكموه لهم، ورغم ذلك فإن الشاعر لا يستسلم لهذه الأهوال، بل يقابلها بالرجاء والأمل الذي يراه في الأفق مطلاً باسمًا:
حبيبتي
ولم تزل في أفقنا بَقيَّةٌ من الرجاء
حطِّمي قيوده
لتحتمي بسربه
لتصنعي حياتنا به
لتسمعي دعاءه.. بكاءه
يستمطر السماء زَادَهُ.. ونَصْرَهُ
ويستغيث ربَّهُ
فحطِّمي قيوده
وفي قصيدة أخرى بعنوان (اليوم عيد) يقيم الشاعر مفارقة بين صورتين متقابلتين تجعلنا نتعاطف معه ونشاركه أحزانه وآلامه؛ فالمناسبة المشتركة بين الصورتين هي يوم العيد، وهو يوم الفرحة والرحمة والودّ والتسامح والسلام والأمان، وكلّ هذه المعاني المشرقة عاشها الشاعر، ويحكيها لنا فيما يشبه الارتداد أو الـ"فلاش باك":
اليوم عيد
قد عشت فيه ألف قصة حبيبة السماء
أردد الأذان في البكور
أراقب الصغار يمرحون في الطريق كالزهور
وهذه تحية الصباح
وهذه ابتسامة الصديق للصديق
والسلام
يبسط اليدين يرسل الندى
ويملأ الحياة بالأمان
وخضرة الزروع غضة الجنى
تجمعت أمام مسجد الإمام
وأطيب الثمار تطلب الكبار
هدية يحبها الصغار
تحبها صغيرتي
ما أطيب الزمان يا أحبتي
إن عانق الأمان
زماننا ربيعه الأمان
لكن الوضع الحقيقي في حاضر الشاعر على خلاف هذه اللوحة الجميلة الوادعة لأن:
الكل عائد بفرحة تطل مشرقة
من الشفاه والعيون
ودارنا ستنتظر
صغيرتي ستنتظر
والشرفة التي على الطريق تسمع الصدور
تعزف الأشواق تعصر الأسى
هشام لن ينام
قد كان نومه على ذراع والده
نهادُ لن تذوق زادها
لأنها تعودت أن تبدأ الطعام من يد الأسير
شريكة الأسى بدا جناحها الكسير
تخبّئ الدموع عن صغارها
وحينما يلفها السكون
سترتدي الصقيع..
كي تقدم الحياة للرضيع
في هذه اللوحة لا نشعر بالأمان الذي ظلل اللوحة الأولى؛ حيث يسيطر على هذه اللوحة عنصر الفقد والبعد؛ وهو ما ينعكس على دار الشاعر وصغاره، الذين لن يناموا ترقبًا لعودة الأسير الذي غيبته الأسوار، ورغم قسوة هذه المفارقة بلوحتيها المتقابلتين، فإنّ الشاعر يفتش في ذات نفسه عما يجدد الأمل لديه، فيجد حب أهله وأولاده في قلبه فيصر على أنه:
ما زال يومنا ويومهم
لأننا نحبهم
اليوم عيد
قد لا تسمح هذه العجالة بالحديث عن شعر "إبراهيم عزت" بالتفصيل الذي يستحقه، لكن يمكننا أن نقول: "إنه بحق شاعر متميز، امتلك أدوات الشعر ووظفها بمهارة ما كان منها من أصيل تراثنا أو من حديث ثقافتنا، وكانت تجاربه الشعرية نابعة من معاناة حقيقية أكسبت شعره الصدق الفني والواقعي.
فرحم الله الشيخ الكبير ،وأجزل له المثوبة والعطاء جزاء ما قدم للدعوة من سماحة خلق وبذل وعطاء. [/color]