مورا كونيلّي: «جنديّة الكابيتول» حطّت في عوكر

في الخامس عشر من الشهر الجاري، قدّمت السفيرة الأميركيّة الجديدة في لبنان، مورا كونيلّي، أوراق اعتمادها إلى رئيس الجمهوريّة العماد ميشال سليمان في قصر بعبدا. فمن هي هذه المرأة التي ستصبح بسرعة وصمت لاعباً أساسيّاً في السياسة اللبنانيّة؟

صباح أيّوب
خلال جلسة الاستماع الخاصة بتعيينها في 20 تموز الماضي، وقف السيناتور روبرت مينينديز أمام الحضور وقال: «كلّ مَن وُلد في مدينة جيرسي في ولاية نيوجيرسي، أمثال مورا، سيبلي بلاءً حسناً في لبنان». السيناتور عن ولاية نيوجيرسي، مسقط رأس مورا كونيلّي، شرح لزملائه كيف أن طفلة «نشأت وترعرعت في الضواحي الشمالية للولاية الأميركية وعاشت قساوة الظروف الحياتية هناك وتقلّبها ستتحمّل الوضع جيداً في بيروت».
طفلة جيرسي، إذاً، تأتي من المنطقة التي شهدت أكبر عدد من المعارك خلال «حرب الثورة» الأميركية ضد البريطانيين، ومن ثالث ولاية وقّعت على الدستور الأميركي، ومن المجتمع الذي أرسل 25 ألف رجل للمشاركة في الحرب الأهلية من أجل الوحدة. هي أيضاً ابنة إحدى أكثر الولايات الأميركية نهضة في الصناعة، حيث كُرّست سنوات بكاملها للعمل على إعادة بناء أميركا بعد الحرب. مورا كونيلّي درست جيداً تاريخ بلادها عموماً وولايتها خصوصاً، وتعلّقت بمفهوم بناء الدولة لتفادي كوارث الحروب.
مورا التلميذة النجيبة، لم تكن من محبّي الراحة والاسترخاء في العطل أو في فصل الصيف. فهي من بين التلاميذ الثانويين القلائل الذين اختيروا للعمل في مبنى الكابيتول في العاصمة، واشنطن، مساعدة في مجلس الشيوخ. المراهقة الأميركية، صاحبة معدّل العلامات المرتفع، أمضت سنتين من دراستها الثانوية (1975–1977) تتنقّل بين مكاتب السياسيين وممثلي الأحزاب والولايات داخل مبنى الكابيتول «خدمةً للحزب الذي انتدبها وللسيناتور الممثل لولايتها». أحبّت مورا على ما يبدو أجواء السياسة في مراكز القرار، فاختارت الدراسات الخارجية تخصصاً أكاديمياً في جامعة «جورجتاون». الكابيتول لم يخرج من بال الشابة الجامعية التي استهواها اللباس الرسمي الموحّد والتحدث مع السياسيين يومياً هناك، فقررت العودة إلى المبنى نفسه، لكن هذه المرّة للخدمة فيه... عاملة مصعد! وهكذا لم تفارق كونيلي حرم الكابيتول حتى تخرّجها من الجامعة.
الأمن القومي هو ما جذب مورا التي استكملت دراساتها العليا لتحصل على ماجستير في «دراسات الأمن القومي» من كلية الحرب البحرية. من هناك، انطلقت مورا كونيلي للعمل رسمياً في مجال الخدمات الحكومية، فوصلت إلى بداية الطريق الذي خططت له منذ مقاعد الدراسة الثانوية.
قررت العودة إلى الكابيتول لكن للخدمة فيه عاملة مصعد

عام 1985 انضمت كونيلّي إلى العمل في وزارة الخارجية الأميركية. شابّة نيوجيرسي التي اعتادت معاشرة أناس من أجناس وأصول مختلفة في ولاية متعددة الأعراق والجنسيات، لم تجد صعوبة في الانخراط في العمل الدبلوماسي والسياسي الخارجي. وها هي تتنقّل بين السفارات الأميركية في الجزائر (في أواخر الثمانينيات) وفي القدس المحتلّة (بين 1993 و1996) نائباً رئيسياً للقنصل العام، ثم في الأردن وجنوب أفريقيا... قبل العودة إلى نيويورك مستشارة سياسية في البعثة الأميركية إلى منظمة الأمم المتحدة. عام 2003، انتقلت إلى العمل الدبلوماسي في العراق، ثم بين 2005 و 2008 عملت مستشارة سياسية برتبة وزير في السفارة الأميركية في بريطانيا. من لندن إلى دمشق، انتقلت كونيلّي قائمة بالأعمال في السفارة الأميركية في سوريا حتى تموز 2009. وبين عام 2009 وتموز 2010 شغلت مورا منصب نائبة مساعد وزير الخارجية في مكتب شؤون الشرق الأدنى.
كونيلّي عملت دائماً في الظلّ كحال معظم موظفي الجسم الدبلوماسي أو السياسي الخارجي، حتى إن الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية السابق شون ماكورماك اضطر عام 2008 إلى تهجئة اسمها أمام الصحافيين خلال حديثه عنها في إطار حادثة الغارة الجوية الأميركية على الحدود السورية ـــــ العراقية، علماً بأنها كانت حينها القائمة بالأعمال في دمشق.
مورا كونيلّي اسم لم يردّده الصحافيون الأميركيون قبل 27 تشرين الأول 2008 بعد الأزمة السياسية ـــــ الأمنية مع سوريا، ولم تسمع المنطقة بها طيلة سنوات عملها في الشرق الأوسط. لكن ها هي اليوم تفتتح العقد الخامس من عمرها بتسلّم أعلى منصب دبلوماسي تشغله في حياتها، وهو سفيرة الولايات المتحدة الأميركية في لبنان. استبشر الأميركيون خيراً بتعيينها، نظراً إلى خبرتها الطويلة في المنطقة ودرايتها بشؤون جوار لبنان، وخصوصاً بعد عملها الأخير في سوريا. أما اللبنانيون، فلم يلاحظوا لغاية الآن سوى اختلاف جذري بالشكل الخارجي ولون البشرة بين كونيلّي وسلفها ميشيل سيسون.

خطاب «المقاومة الأبدية»
إنّها المرّة الأولى التي يذكر فيها مسؤول أميركي كلمة «مقاومة» ليشير إلى حزب الله

سيّدة نيوجيرسي حطّت في بيروت في 13 أيلول الماضي وقدّمت أوراق اعتمادها إلى الرئيس ميشال سليمان بعد 48 ساعة، في حفل قالت فيه إن إحدى أولويات سفارتها «الالتزام بلبنان مستقل وذي سيادة مع مؤسسات الدولة القوية والفعّالة». لا شيء جديداً في ما قالته وأكدته كونيلّي في أول تصريح رسمي لها على الأراضي اللبنانية. لكنّ «دُرر» السفيرة وردت في أول خطاب لها بعد تسميتها من قبل الرئيس باراك أوباما، أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في 20 تموز الماضي. حينها، عرضت كونيلّي صراحة الخطوط العريضة والثابتة لسياستها حيال البلد الذي ستُنتدب إليه: «تحقيق السلام في المنطقة» هو الفكرة الرئيسية لخطاب المرشحة الذي يتماشى مع أولوية سياسة أوباما المعلنة للشرق الأوسط. لكنّ خطاب مورا تضمّن جوانب صريحة ومباشرة وبعض الجدّة في التعابير، وخصوصاً في ما يتعلق بموضوع حزب الله. قالت مورا في خطابها: «إن الانشقاقات التي أصابت لبنان بعد عام 2005، بدأت تغشي عيون البعض في لبنان والمنطقة. لكن رغم ذلك، تبقى الخيارات لأجل البلد واضحة جليّة: فهل يجب أن يوضع مستقبل لبنان بين يدي قادة يؤمنون بأن السلام في المنطقة هو أمر حيوي ضروري يصبّ في مصلحة مستقبل الأجيال القادمة من اللبنانيين الذين سيجنّدون طاقاتهم من أجل إعادة بناء المؤسسات التابعة للدولة التي من شأنها أن تخدم وتحمي الشعب اللبناني؟ أم يجب ترك مستقبل البلد بين يدي من يبشّرون بمقاومة أبدية ويرسمون صورة للمستقبل يطغى عليها العنف، وفق نظرية تغذيها وتدعمها قوة خارجية لديها أجندتها السلبية الخاصة؟». الحدّة في الخطاب الرسمي الأميركي ليست جديدة، لكنها المرة الأولى التي يذكر فيها مسؤول أميركي كلمة «مقاومة» ليشير فيها إلى حزب الله. كونيلي قررت التكلّم بلغتنا هذه المرّة، بعيداً عن التصنيف الإرهابي المباشر والعبارات التي لم تؤتِ ثمارها في العهد الأميركي السابق، فوصفت الخيار الثاني المعروض أمام لبنان بـ«المقاومة الأبدية».
طالبت بحماية إسرائيل انطلاقاً من «الحرص على الجنوب»

رسمت السفيرة صورة قاتمة عنفية بائسة مدمّرة للبلد إذا اختار اللبنانيون «المقاومة»، مع ميل واضح وتلقائي إلى خيار المستقبل المشرق المسالم، أي إلى الخيار الأول دون سواه. وتتابع كونيلي في خطابها: «الولايات المتحدة ستستمر بتدريب المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية ودعمها وتجهيزها بما يلزم لمواجهة المجموعات الإرهابية غير الشرعية، ولبسط أمن الدولة على كل الأراضي اللبنانية، وخصوصاً في الجنوب، لتجنيب استخدامه منصة تطلق منها الصواريخ على إسرائيل». صيغة جديدة في المطالبة بحماية إسرائيل انطلاقاً من «الحرص على الجنوب»، ولعب على الكلام استخدمته السفيرة الخبيرة كي لا تقول صراحة «لتجنيب إسرائيل الصواريخ المنطلقة من جنوب لبنان».
في خطابها أمام اللجنة الخارجية، لم تنسَ كونيلي أن تتطرق إلى الفلسطينيين في لبنان، مؤكدة رفضها تجنيس اللاجئين الفلسطينيين بالقوة. أما المحكمة الدولية، فحضرت أيضاً في نص تلميذة السفير السابق جيفري فيلتمان، مؤكدة استمرار الولايات المتحدة بدعمها كأحد مظاهر الديموقراطية في البلد.
تحت قبّة الكابيتول في واشنطن، استذكرت كونيلّي شاكرة بداياتها في العمل أثناء فترة الدراسة داخل أروقة المبنى الشهير، من مساعدة إلى عاملة مصعد إلى سفيرة... ترى كيف ستخدم «جنديّة الكابيتول» بلدها من الأراضي اللبنانية في فترة غليان سياسي؟

عزل حزب الله

يقول بعض المراقبين لمسيرة كونيلّي في العمل الدبلوماسي إنها هادئة بالإجمال، لكنها حادّة في مواقفها عند اللزوم. ويذكّر هؤلاء بتصريحها في المؤتمر الأمني لدول الجوار العراقي الذي عقد عام 2008 في دمشق، حيث اتهمت كونيلي دولاً خارجية بتسليح «المتمردين» في العراق، ملمّحة إلى سوريا وإيران. كذلك استدعت في نيسان الماضي السفير السوري في الولايات المتحدة إلى وزارة الخارجية لسؤاله عن معلومات استخبارية تفيد بأن سوريا تهرّب صورايخ «سكود» إلى حزب الله. حالياً، يرى المتابعون توازياً بين تصريحات كونيلي وجورج ميتشل، فكلاهما متفق على سياسة «عزل حزب الله والتضييق عليه سياسياً بغية إزاحته من درب السلام».