في جنوب اليمن.. فقر و«قاعدة».. وقطاع طرق (2): شبوة: علاقة معقدة بين القبائل و«القاعدة».. وفي السماء طائرات من دون طيار
بدو سمحوا لعناصر «القاعدة» بمشاركتهم في معسكرهم بعد أن وعدوهم بحفر بئر ماء
جنود يمنيون يستوقفون سيارات لتفتيشها في العاصمة صنعاء أمس بعد اعتداء من قبل عناصر في «القاعدة» على دورية أمن حكومية (إ.ب.أ)
شبوة: غيث عبد الأحد *
بدت السماء مظلمة فوق الطريق من عدن إلى شبوة، رغم أن النهار كان قد انتصف فحسب. وقال سائق السيارة «لاند كروزر» المتهالكة التي كنا نستقلها والتي يعود تاريخ إنتاجها لثمانينات القرن الماضي: «إنها ستمطر»، وسرعان ما بدأت حبات ثقيلة من الماء في الارتطام بالسيارة، وهطلت المياه على الجبال السوداء، لتتركها متألقة كما لو كانت من الرخام.
على أراضي محافظة شبوة اليمنية يتركز أكبر وجود لـ«القاعدة» في البلاد. وبجانب معسكرات تدريبية «جهادية»، يعتقد أن الكثير من قادة هذه «الجماعة الفرعية» الجديدة لـ«القاعدة بشبه جزيرة العرب» يتمركزون في شبوة، وعلى رأسهم أنور العولقي، رجل الدين اليمني - الأميركي الذي أعلنت إدارة أوباما في أبريل (نيسان) أنه أصبح هدفا مشروعا للاغتيال، الذي سبق وصفه بأنه «الإرهابي الأول» من المنظور الأميركي.
قضت «غارديان» أسبوعا في التنقل داخل هذه المنطقة التي يغيب عنها القانون، حيث تحدثت إلى أبناء القبائل حول وجود «القاعدة» في محاولة لتفهم السبب وراء ترسخ جذور هذا التنظيم بالمحافظة.
كانت السيارة «لاند كروزر» تعج برجال من البدو من قبيلة «العوالق». وانطلقنا معا عبر طرق جبلية تخضع بمناطق مختلفة منها لسيطرة قطاع الطرق والانفصاليين والجهاديين وقوات الأمن الحكومية، إلا أن النفوذ الأكبر عليها كان من نصيب قطاع الطرق.
قابلنا أول قاطع طريق في رحلتنا بمجرد عبورنا الحدود إلى داخل المحافظة، عند منعطف طريق بين جبلين. كان 7 شباب يجلسون في ظل شجرة ممسكين بأسلحتهم، وكان بعضهم يغطي وجهه بكوفية. على مسافة تقل عن 50 مترا عبر جسر صغير وأسفل شجرة صغيرة جلست مجموعة من الجنود. لا يهاجم قطاع الطرق والجنود بعضهم بعضا، حسبما أوضح أحد رفقائي في السيارة. وعندما استفسرت عن السبب، أجاب: «كلاهما ينتمي إلى القبيلة ذاتها». التقينا مجموعة ثانية من قطاع الطرق بعد بضع ساعات لاحقا، على مسافة أبعد من الطريق. كانت هذه المجموعة أكثر نشاطا. كان الظلام قد حل في ذلك الوقت، وسدوا الطريق بعدد من الكتل الصخرية. ووقف مسلح في طريقنا، بينما جلس عدة رجال على جانب الطريق. طل الرجل برأسه من داخل نافذة السيارة وأدار عينيه بها متسائلا: «هل هناك أي شخص يعمل لحساب الحكومة؟».
ورد عليه الركاب بالنفي في صوت خفيض. وعليه، سمح لنا باستكمال مسيرتنا.
وصلنا إلى مستوطنة بدوية صغيرة تدعى «حطيب» بعد حلول الظلام، وحمل الرجال بسطا ليناموا عليها ووضعوها على صخور في العراء وظلوا يتجاذبون أطراف الحديث لساعات قبل أن يخلدوا للنوم.
بوجه عام، يخيم التوتر على العلاقات بين القبائل و«القاعدة»، حيث يتعذر على القبائل منع الملاذ والضيافة عن أعضاء التنظيم ذلك أنه طبقا للأعراف البدوية تعد إهانة الضيف أو خيانته أو رفض تقديم واجب الضيافة له واحدة من أكثر الجرائم فداحة.
في الوقت ذاته، بدأ القلق يساور أبناء القبائل إزاء وجود «القاعدة» والاهتمام غير المرغوب فيه الذي جلبوه معهم للمنطقة. في كل الليالي التي قضيتها في شبوة، شاهدت طائرات من دون طيار تحلق ببطء في السماء، مركزة اهتمامها على المشهد الصخري على الأرض.
بعد بضع ليال، أثناء حديثي مع علي، نجل شقيق أحد شيوخ القبائل، وعدد من رجال آخرين تحت أنظار الطائرات من دون طيار، سمعنا صوت سيارة تقترب. وانطلقت رصاصة من مسافة بعيدة ليسارع جميع الرجال إلى التقاط أسلحتهم.
وتعالت الصيحات من منزل لآخر: «القاعدة».
هرول الرجال إلى منتصف القرية في انتظار وصول سيارات «الجهاديين»، لكن بمجرد ظهور أضواء السيارة القادمة، صاح أحد الرجال بأن القافلة تحمل قبليين من قرية مجاورة ينقلون أحد أقاربهم إلى المستشفى.
وشرح علي أن «(القاعدة) تتمركز بهذا الجبل»، مشيرا إلى قمة جبلية بعيدة. وأضاف أنه في بداية الأمر، كانوا على مسافة أقرب كثيرا من مستوطنة البدو، لكن بعد هجوم أسقط خمسة من المسلحين قتلى، طلب أبناء القبيلة منهم الرحيل. واستطرد قائلا: «طلبنا منهم الرحيل بعد وقوع القصف».
لسنوات طويلة، ظلت شبوة تعتمل بحوادث الثأر. في الواقع، يجد جميع القبليين بالمنطقة تقريبا أنفسهم متورطين في دائرة من الانتقام.
والملاحظ أن الصحراء القاحلة والجبال في المنطقة تنقسم إلى رقع صغيرة من مناطق الحرب بين القبائل. خلال تنقلنا داخل شبوة، كثيرا ما كنا ننحرف عن الطريق الرئيسي لندخل في أعماق الصحراء تجنبا للمرور بأرض قبيلة يتورط أحد مرافقينا في السيارة في خصومة ثأرية معها.
من جانبه، أكد إبراهيم (16 عاما) وهو أحد أبناء القبائل كان يجلس في الجزء الخلفي من السيارة: «نود الانتظام بالمدارس، لكننا اضطررنا للتوقف لأن شخصا ما قد يقتفي أثرنا هناك ويقتلنا».
وسألته حول ما إذا كان قد شهد كثيرا من القتال، فرد بالإيجاب.
الواضح أن أبناء القبائل يعيشون في حالة من الفقر الدائم داخل هذه البيئة الصحراوية القاسية. وعندما يأتي الماء - إذا جاء - يتحرك بسرعة عبر أودية صخرية ضيقة، مخلفا وراءه الصحراء على حالها من العطش. وبخلاف الرقع الضئيلة المزروعة، تهيمن الصحراء على باقي المساحة.
ونظرا لفقرهم المدقع، ليس أمام أبناء المنطقة ما يحاربون من أجله سوى شرفهم. ويؤمنون بأن السبيل الوحيدة للرد على الإهانة هي قتل العدو، بعد الصياح عليه للخروج - ذلك أنه من العار قتل رجل بمهاجمته على حين غرة من خلفه - وإطلاق النار عليه أثناء النظر مباشرة إلى عينيه. ويجري التعامل مع ثقافة الضيافة بجدية بالغة لدرجة أن خصومة قبلية استمرت عامين بسبب تعرض ضيف للإهانة.
وأخبرني علي كيف تتضمن المعارك بين القبائل في بعض الأحيان أسلحة أثقل. وقال: «العام الماضي، حاصرنا قبيلة مجاورة، حاملين معنا مدافع مضادة للطائرات ومدافع هاون. وظللنا نقصفهم طيلة 3 أيام واستمر حصارنا لهم لأسابيع، حتى نفذ الطعام لديهم فيما عدا البسكويت».
في ظل هذه الخلفية من القبائل المسلحة المتناحرة باستمرار، حيث يبدو أن كل رجل بالمنطقة تقريبا مطلوب لدى السلطات لتورطه في جريمة قتل أو اثنتين، يمكن لـ«القاعدة» بسهولة الامتزاج في المنطقة، خاصة أن مسلحيها لا يختلفون كثيرا عن أي من المسلحين الآخرين المطلوبين لدى السلطات الذين ينشدون الملاذ داخل قبائلهم.
أخبرني رجل متقدم في العمر: «هناك القليل من المؤمنين (يقصد الجهاديين) يعيشون بالجبال، لكننا لم نر ارتكاب أي منهم لخطأ هنا. نحن لا نأبه لما إذا كانوا قتلوا أحدا في أميركا، المهم عندنا أنهم هنا في شبوة لم يرتكبوا أي جريمة. لذا، ينبغي احترامهم كأي أفراد آخرين».
تقع قرية سلطان «العوالق» على تل تحيطه حقول خضراء وأشجار نخيل. في منتصف الصحراء، ترتفع بنايات سعيد التي تبدو أشبه بكنز معماري بأبراجها المصنوعة من الطمي وممراتها الضيقة. وتتسم بعض المجمعات القائمة بعلامات خلفتها أعيرة نارية، خاصة أن الكثير من حركات التمرد عصفت بالمنطقة على مر العقود.
بجانب أطلال قلعة مصنوعة من الطمي دمرتها القوات الجوية البريطانية في خمسينات القرن الماضي، يوجد مجمع خراساني جديد لسلطان «العوالق».
داخل المجمع، التقيت السلطان، فريد بن بابكر، وهو رجل طويل متقدم في العمر وضعيف البنية، يتميز وجهه بأنف معقوف ولحية بيضاء صغيرة. ومع ذلك، يحمل هذا الرجل في صوته الذي يبدو خفيضا لكنه حازم، ثقل السلطة القبلية بالمنطقة.
ويلتزم بأوامره قرابة مليونين من أبناء «العوالق» بجنوب اليمن. ويعد السلطان فريد من الحلفاء المقربين من الحكومة، لكن في الوقت ذاته توفر قبيلته الملاذ لأعداء الحكومة والغرب. ويعتبر أنور العولقي أبرز «الجهاديين» الذين يشملهم بالحماية حاليا.
جدير بالذكر أن العولقي، رجل الدين الذي لم يكن معروفا من قبل، ارتبط بميجور نضال مالك حسن، الطبيب النفسي العامل بالجيش الأميركي الذي قتل 13 شخصا في قاعدة «فورت هود» بتكساس، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2009، وكذلك بعمر الفاروق عبد المطلب، النيجيري المتهم بمحاولة تفجير طائرة متجهة إلى ديترويت خلال عطلة أعياد الميلاد. ويعد العولقي الآن واحدا من أكثر الأهداف التي تلاحقها واشنطن.
وبعد حديث مستفيض حول تاريخ جنوب اليمن امتد لقرابة الساعة، أخبرني السلطان فريد أن العولقي يعيش بالقرية وأنه على علم بتحركات رجل الدين.
وقال: «العولقي، وبرفقته أربعة أو خمسة أشخاص، يقضون الليل بمنازلهم، وفي الصباح، يصلون بمكان ليس ببعيد. ونحن نعلم بهذا الأمر». وعندما سألته عن سبب السماح لهذا الرجل المطلوب أمنيا بالبقاء في القرية، رد بأنه لم يرتكب أي جريمة داخل المجتمع القبلي، ولم تطلب منه الحكومة تسليمه لها.
وأضاف: «لم تقتل (القاعدة) أي فرد هنا. لذا، لسنا مضطرين لقبول أو رفض تسليمهم للسلطات. ولم تطلب الحكومة منا تسليمه (العولقي) إليها. إذا فعلت ذلك، أعتقد أننا سنفكر حينها بالأمر. لكن أحدا لم يطلب منا ذلك».
يقع مجمع عائلة العولقي على بعد بضعة أمتار من منزل سلطان فريد. وتوجهت إلى المجمع لأرى إن كان بإمكاني رؤيته أو التحدث إليه، لكن جميع النوافذ والأبواب كانت مغلقة.
وفتح صبي نافذة صغيرة في الطابق العلوي ونظر إلي، ثم سرعان ما اختفى بالداخل وأغلقت النافذة.
من ناحيتها، تقوم في بعض الأحيان الطائرات من دون طيار بما هو أبعد من مجرد مراقبة سكان شبوة. بعد مغادرة قرية السلطان، انتقلنا لوادي ماجالا بجبال العوالق. هنا، تحمل سلسلة من القبور الصغيرة تقع على جانب الطريق السريع علامات بالأحجار.
بالقرب، جلس رجل عجوز في خيمة تخص أقارب له يحتسي شايا محليا. كان هو وابنته البالغة من العمر خمسة أعوام الناجيين الوحيدين من هجوم صاروخي مزدوج يقال إنه تسبب في مقتل العشرات، بينهم زوجة الرجل وأبناؤه وزوجاتهم وأحفاده.
كان الرجل خارج المستوطنة البدوية ليجمع الجمال التي يملكها العام الماضي عندما نما لمسامعه صوت انفجار ضخم. وقال: «حسبت أن ناقلة بترول انفجرت، لكن الجبال من حولي اهتزت بشدة».
استغرق الأمر منه عدة ساعات للوصول إلى المعسكر حيث استقر أقاربه. لدى وصوله، كان الكثير من القرويين قد احتشدوا في المكان بالفعل. وقال عبد المطلب، وهو شاب كان من أوائل من توجهوا للمنطقة، إنه شاهد النار تلتهم الناس والسيارات والحيوانات. وأضاف: «أمسكت النيران في امرأة بإحدى الخيام. وحاولت إنقاذها من دون جدوى».
توجهنا بالسيارة إلى موقع التفجير الأول، حيث تدلت قطع من القماش وأجزاء من عبوات بلاستيكية يستخدمها البدو في جمع الماء أو الحليب من أغصان شجرة ميتة.
انتشرت بالمكان عظام بيضاء اللون من بقايا حيوانات. وكان بالقرب جزء معدني ملتو من صاروخ. على بعد أمتار قلائل، كانت هناك قذيفة رمادية طويلة لصاروخ.
طبقا لرواية القرويين وتقرير برلماني يمني وآخر عن منظمة العفو الدولية، فإن قرابة 10 من الرجال والنساء والأطفال من عائلة حيدرة لقوا حتفهم في واحد من معسكرين للبدو في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2009.
انتشرت بعض الشظايا البلاستيكية وقطع من ملابس سوداء بالمكان والكثير من عظام الحيوانات.
بعد ذلك، سرنا لمدة 20 دقيقة على أعشاب شائكة للوصول للمعسكر الآخر الذي تعرض لهجوم في اليوم ذاته. هنا، تدلت بقايا حياة بدوية متقشفة من شجرة أخرى: شظايا بلاستيكية وقطع أقمشة ومشمع يستخدم كملاذ. من بين الحطام، عشرات الأحذية السوداء المنصهرة لرجال ونساء وأطفال.
هنا، قتل أفراد عائلة باكاظم، حسبما أفاد قرويون. طبقا للجنة برلمانية يمنية، بلغ إجمالي القتلى 41 مدنيا في الهجومين، و14 من مقاتلي «القاعدة».
وينتشر بين الحطام أجسام غريبة صفراء تتعارض تصميماتها الهندسية مع الأسمال البالية التي تخص البدو.
وحملت الأجسام الصفراء عبارة «البحرية الأميركية» ورقما مسلسلا. وكانت هناك قذائف منتشرة بالمكان. وسألت أحد الرجال الذين رافقوني بالموقع، ويدعى مقبل الكاظمي، عن تقارير بشأن وجود أعضاء «القاعدة» بالمكان.
وأجابني أن محمد الكاظمي، أحد المطلوبين من جانب الحكومة لصلاته بـ«القاعدة»، كان هنا ومعه بضعة رجال. ويعتقد أنه لقي حتفه. وأضاف: «كان عددهم أقل من 10 رجال، وعاشوا بخيمتين على أطراف معسكر باكاظم».
وعندما سألته عن سبب مشاركة البدو معسكرهم مع «القاعدة»، رد علي قائلا: «لقد أخبر المقاتلون البدو بأنهم سيحفرون لهم بئرا ليحصلوا على الماء».
داخل هذه المنطقة الفقيرة القاحلة، لا بد أن هذا بدا ثمنا جيدا.
* خدمة «غارديان ميديا» خاص بـ«الشرق الأوسط»
http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&article=584179&issueno=11595