{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 1 صوت - 5 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
فيروس الاله
حائر حر غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 343
الانضمام: May 2011
مشاركة: #1
فيروس الاله

كتاب: فيروس الإله: مقدّمة
كيف يؤثّر الدين على حياتنا وثقافتنا
بقلم داريل راي
ترجمة إبراهيم جركس

((رجال القواقع يحملون أصدافهم أينما حلّوا وذهبوا، إكسر قواقعهم وسيتساقطون باكين مصدر أمنهم الوحيد والمفقود))
[الفيلسوف الأسترالي جون باسمور]

للدين تأثيرات يومية عظيمة على مختلف نواح حياتنا وبطريقة لا يمكننا ملاحظتها أو إدراكها. فهو الذي يدفع عمّك نيد للصلاة من أجلك ساعات طويلة، وهو الذي يعطي جارتك المعمدانية سبباً لنبذ ولدها الوحيد لأنه تزوّج من فتاة كاثوليكية. هو الذي يعطي أختك المتشدّدة سبباً لتصفع أولادها مخافة أن يكون مصيرهم الجحيم. الدين هو الذي يدفع القس أو الكاهن لإنكار دافعه الجنسي، وهو السبب في أنّ هناك الكثير من الناس الذين يدفعون أموالاً ومبالغ طائلة للجمعيات والمنظمات الدينية، وهو السبب الذي يمنعك من التحدّث مع ابنة عمّك جيني مخافة أن تقنعك بالانضمام لجماعة شهود يهوه. للدين أثار واضحة من جهة وغير ملحوظة من جهة أخرى عليك وعلى المجتمع في آن واحد.
هذا الكتاب يبحث في أثر الدين عليك وعلى العالم من حولك. إنه يفتح الستائر ويقدّم طرقاً وأساليب جديدة لفهم الظاهرة الدينية، ويساعد على اتخاذ قرارات رؤيوية بشأنها.
هل تساءلت من قبل ما الذي يمنح الدين قوته وسلطته تلك؟ ما الذي يجعل الناس يقرّون بإيمانهم العميق رغم أنهم قد لا يكونون من المارسين شعائر هذا الإيمان؟ ما الذي يجعل الناس يتعامون عن كافة النواحي والنقاط غير العقلانية والمتناقضة في دياناتهم بينما يرون بوضوح عيوب وتناقضات ديانات غيرهم؟ وكيف تجد هذه الأمور طريقها إلى أنظمتنا السياسية؟ فإذا كانت هذه التساؤلات تعنيك بشيء وتهمّك، فهذا الكتاب سيساعدك على فهم سلطة الدين عليك، وعلى عائلتك وثقافتك.
منذ آلف السنين تمكّن الدين من اختراق مجتمعاتنا، وفرض سيطرته عليها من دون أي تحدٍ أو مسائلة. كان موجوداً بكلّ بساطة. أمّا هؤلاء الذين حاولوا مسائلة الدين أو تبيان تناقضاته تمّت محاكمتهم أغلب الأحيان، أحرقت كتبهم، وأعدموا في أغلب الحالات. من غاليليو حتى داروين، من سلمان رشدي حتى ثيو فان كوغ [1]، إذ كان محظوراً مسائلة أو انتقاد أو مجرّد محاولة توضيح ما كانت تقول عنه الكنيسة أو الكاهن أو الإمام بأنه غير قابل للتوضيح.
قبل اكتشاف الجراثيم والطفيليات الممرضة ووضع نظرية علمية تفسّر الأمراض، لم يكن المعالجون يملكون أدواتاً لفهم عملية حدوث المرض وانتقاله. كان القساوسة يخبرون الناس بأنّ المرض كان نتيجة الخطيئة والرذيلة، سببه الشيطان والأرواح الشريرة. ومع اختراع المجهر، أصبح العلماء يملكون أدوات جديدة لفهم المرض. بات بإمكانهم دراسة استراتيجيات العدوى، المناعة، علم الأوبئة، وأكثر من ذلك بكثير. فجأة تمّ كشف الغطاء عن أسرار الأمراض القديمة، وأصبحت مفهومة ومدروسة. الطاعون الذي اجتاح أوروبا، الحمى الصفراء، الجدري، ذات الرئة، السل، الزهري...إلى ما هنالك من أمراض معدية أخرى، كلها باتت معروفة وتمّ إخراجها من تحت العباءة الدينية الإلهية ووضعت في مجال العلوم الأرضية الطبيعية.
العديد من الفلاسفة _من سبينوزا حتى فولتير، فيورباخ وماركس_ مهّدوا الطريق لفهم أفضل للدين ودوره في المجتمع، لكنّ الأمر بقي مبهماً حتى ظهرت فكرة ريتشارد دوكينز عن "فيروس العقل Virus of the Mind" [2] حيث أصبح لدينا طريقاً معبّداً مسبقاً لفحص الظاهرة الدينية عن قرب كما نفحص فيروس الإنفلونزا عن قرب في علم الأوبئة. هذا الكتاب سيظهر كيفية ظهور الأديان من كافة الأنواع في العالم الطبيعي، وكيف تجد عملها داخل عقولنا ومجتمعاتنا، وكيف أنها تشبه الجراثيم والطفيليات والفيروسات التي تغزو أجسادنا.
هذا الكتاب يدين بوجوده بشكل أساسي لكل من ريتشارد دوكينز ودانييل دينيت [3]، لكنّ هدفه هو السعي نحو الأمام أكثر ممّا مضى هذان الفيلسوفان عن طريق إظهار كيف أنّ أفكارهما التطورية لها دور عظيم في حياتنا اليومية. فالنموذج الجديد الذي ابتكراه وروّجا له يفسّر سبب تطرّف العم نيد، والتصرّفات الجنسية لكبير أساقفة الكنسية الهابط، والممارسات التربوية القاسية التي تمارسها جارتك المتشددة على أطفالها. لماذا قام تسعة عشر رجلاً بخطف طائرات وإقحامها بمبنيي التجارة العالميين، أو لماذا تقوم النسوة بتفجير أنفسهنّ داخل سوق مكتظّ بالبشر الأبرياء في بغداد.
كأحد أفراد الثقافة الغربية، لابد أن تكون متأثراً بالتلقين الديني. بغضّ النظر عن نشأتك ومنبعك، فأنت تعيش ضمن محيط ديني وليس بيدك حيلة سوى الشرب من مياه هذا المحيط. هذا الكتاب سيساعدك على النظر إلى بعض المناطق التي قد أغفلتها خلال رحلتك. فالدوغما والعادات والشعائر والذنب والمعتقدات الدينية قد تؤثّر عليك بطرق قد لا تدركها.
خلال السنوات الأخيرة بدأت أتنبّه إلى الدور الذي يلعبه الدين بشكل متزايد في المجتمع. إذ يبدو أنّه يقوم بحشر نفسه في المدارس، المحاكم، السلطات التشريعية، السياسات الرئاسية وألواح المدارس المحلية، صارفاً الانتباه والتركيز عن النقاشات العقلانية الجادة التي تبحث في أمور ومشكلات العالم الطبيعي، كالثقافة العلمية، التطوير الاقتصادي، استراتيجيات الإغاثة في الكوارث والحروب [4]. خارج حدود الولايات المتحدة، العنف والقسوة التي تمارسها الجماعات المتطرّفة في مختلف أرجاء العالم باسم الدين تثبت لنا أهمية وضرورة دراسة الدين وفهم سلطته وخطورته. فهناك بعض الأشخاص المخيفين جداً ينشرون الكراهية والبغضاء. وكلماتهم التي يبشّرون بها تشبه إلى حدٍ كبير التعبيرات العرقية.
هنا أودّ أن أورد بعض الاقتباسات من بعض القادة المعروفين جيداً:
((أتمنى أن أعيش لذلك اليوم الذي _كما في الأيام الأولى لدولتنا_ لن يكون هنا أيّة مدارس عامّة. إذ أنّ الكنائس ستستولي عليها، وستتمّ إدارتها على يد المسيحيين. سيكون يوماً سعيداً بالفعل!!)) [جيري فالويل] [5]
((لن يكون هناك أي سلام عالمي حتى يعطى بيت الرب وكافة أتباعه مكانهم القيادي الحقيقي في القمة)) [بات روبرتسون] [6]
((هدف المسيحيين السياسي بعيد المدى يجب أن يتمثّل في جمع أكبر قدر من السيطرة على الدستور. أمّا أولئك الذين يرفضون الخضوع علناً للأوامر والقيود الأزلية التي سنّها الرب عن طريق الخضوع لكنيسته التي تصون عهده _المعمودية والمناولة المقدّسة_ يجب حرمانهم من حق المواطنة، كما حدث بالضبط في إسرائيل القديمة)) [غاري نورث] [7]
((ما أريده فقط هو أن تجتاحكم موجة من التعصّب. أريد أن تجتاحكم موجة من البغضاء والكراهية. نعم، الكراهية أمر جيد... فهدفنا هو إقامة دولة مسيحية. نحن أمام واجب مقدّس، نحن أمام نداء الرب لفتح دولته المقدّسة على الأرض. نحن لا نريد زمن مساواة. لا نريد تعدّدية)) [راندل تيري] [8]
((نحن _بعون الله_ ندعو كل مسلم مؤمن وغيور على دينه أن ينصاع لشريعة الله التي تأمر بقتل الأمريكان وسبي نسائهم وأموالهم. كما أننا ندعو علماء المسلمين، وقادتهم، وشبابهم، وجنودهم لشنّ الحملات والغارات على جنود إبليس من الأمريكيين وأعوانهم الشيطانيين، حتى يتعلّم الذين سيأتون من بعدهم الدرس)) [بيان أسامة بن لادن] [9]
كل واحد من الاقتباسات السابقة تحمل علامات وإشارات الكراهية، البغضاء، التعالي والاقتصار. لذا فالهدف الأساسي من هذا الكتاب هو توضيح قوة الدين وسلطته وقدرته الرهيبة على قيادة هذا النوع من طرق التفكير والتصرّف.
قال الفيلسوف الأسترالي جون باسمور إحدى المرات أنّ رجال القواقع يحملون أصدافهم أينما حلّوا وذهبوا، إكسر قواقعهم وسيتساقطون باكين مصدر أمنهم الوحيد والمفقود، وهذا الكتاب يمثّل تلك المحاولة لكسر وتحطيم تلك القواقع الخفية، وكشف الطريقة التي يتدخل بها الدين بعنجهية في ثقافتنا وعقولنا ، ثمّ يعلّمنا كيف نحيا بدون تلك القيود أو القواقع.
تنبيه للاصطلاح
لقد استخدمت تعبير "اللاديني non-theist" لأشير إليك أنت، أي القارئ. أودّ أن أشمل في تعبيري هذا كافة الفئات الأخرى من: المتشكّكين، المؤمنين، الملحدين، المفكرون الأحرار، الروحانيون، إلى آخر ما هنالك. قد تكون أنت أسقفياً، أو موحّداً، متشككاً، أو غير مؤمن، أو شخصاً روحانياً على الأقل. قد تكون متشدداً، متطرفاً، مؤمناً بالخرافات، أو عضو في طائفة دينية ما. ما تعتبر نفسك لا يهم هنا في شيء. إذا أني سأكتشف معك قوة الدين وسلطته على حياتنا وأقدّم لك نموذجاً جديداً بالكامل لفهم الدين وأثره على سلوكنا وعالمنا.
أخيراً، سأركّز على أسماء أرباب محدّدة مثل: الله، يهوه، زيوس، يسوع. فكلمة "رب" لن تعني شيئاً غير الأسماء السابقة إذا لم ترد في سياق اقتباس معيّن.

بنية الكتاب
انطلاقاً من الصورة الكبيرة، سننتقل بعدها إلى الأمور الاجتماعية، السيكولوجية وأخيراً الشخصية. ففي الفصلين الأول والثاني سأفرد التشابهات والتماثلات التي تجمع بين الدين والعالم البيولوجي. في الفصول الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع سأستكشف الجوانب الاجتماعية والسياسية والسيكولوجية للدين، ومن ضمنها مواضيع معيّنة كتقنيات التنويم المغناطيسي التي يمارسها المبشرون والقساوسة على الناس، العامل أو الدور الجنسي، عامل الشعور بالذنب، الأخلاقيات الدينية، الشخصية، والذكاء. في الفصول الثامن والتاسع والعاشر سأتفحّص الأثر الديني على حياتك وعائلتك.
بإمكانك إيجاد أدوات وطرق جديدة لفهم تاريخك الديني أو تربيتك ونشأتك الدينية. أخيراً، الفصلين الحادي والثاني عشر كرّستهما للعلم ومستقبل الدين.
06-19-2012, 02:15 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
حائر حر غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 343
الانضمام: May 2011
مشاركة: #2
الرد على: فيروس الاله
كتاب فيروس الإله: داريل راي، ترجمة إبراهيم جركس
الفصل الأول
الدين بصفته فيروساً

((نحن نزدري كافة أشكال التوقير ومواضيع التبجيل التي تقع خارج حدود أشيائنا المقدّسة، ومع ذلك _بتناقض مثير للانتباه_ نُصَاب بالصدمة عندما يزدري الآخرون الأشياء والأمور التي نقدّسها نحن ويبخسون من قيمتها))
[مارك توين]

في هذا الفصل، سنتفحّص عن قرب التشابهات المثيرة للاهتمام بين أساليب الترويج والانتشار التي تتميّز بها بعض الأنظمة البيولوجية والاستراتيجيات الدينية.

اختبار
تخيّل السيناريو التالي: أنت تخوض محادثة جادّة مع صديقتك المسيحية المؤمنة بعمق. صديقتك ذكية، متعلّمة، مثقّفة، وعلى اطّلاعٍ واسع. وأنت موافق على تسجيل كل ما يدور من الحديث ضمن الجلسة. الموضوع يدور حول الإسلام. خلال الجلسة، سيكون نقاشكما يدور حول محمد، وكيف أنه نصّب نفسه رسولاً من عند الله، وكيف كان يدّعي بأنه كان يتحدّث مع الله ومع الملائكة. وكيف أنه ألّف كتاباً ادّعى بأنه معجز ومعصوم، وبأنه صعد إلى السماء على ظهر دابة.
خلال الحديث، ستكون موافقاً بأنّ محمداً كان متوهّماً بأنّ الله كان هو الذي يحدّثه، أو أنه يستطيع الحديث معه. وتوافق بأنّ القرآن مكتوب بيد محمد ولا يمكن أن يكون كلام الله. وستقول أنه من السخف الاعتقاد بأنه النبي الأخير وأن باقي الأنبياء هم على خطأ. كما أنه من المستبعد أن تكون مؤمناً لا أنت ولا صديقتك بأنه صعد إلى السماء، وعلى ظهر دابة. كل ذلك يبدو ضرباً من الجنون، وستتفقان كلاكما أنّه من الصّعب أن يؤمن أحد عاقل بهذا الدين. وفي نهاية الحديث، ستقول بأنّ المسلمين لم يختاروا دينهم، إنما ولدوا كذلك. وستقولان في نهاية جلستكما أنّ أي شخص ينظر إلى كل من الديانتين المسيحية والإسلام سيرى أن المسيحية هي الدين الحق.
خلال الأيام القليلة التالية، ستدوّن الحديث الذي دار بينكما على الورق. وعندها ستقوم بتغيير كافة الإشارات التي تناولتم فيها محمد وتحوّلها إلى الحديث عن يسوع. الآن سيتحوّل الحديث على الورقة على النحو التالي:
خلال الحديث، ستتفقان كلاكما على أنّ يسوع على الأرجح كان متوهّماً ليفكّر بأنه بإمكانه التحدّث إلى الرب يهوه. من الواضح أنّ الكتاب المقدّس _وبالأخص العهد الجديد_ ألّفه مجموعة من الرجال وليس يهوه. وستتفقان كلاكما أنّه من السخف من قبل يسوع الادعاء أنّه الرسول أو النبي الأخير، وأن غيره من الرسل والأنبياء كانوا على خطأ. ومن المستبعد أن يؤمن أي أحد منكما بأنه كان يحيي الموتى، أو أنه صعد إلى السماء. كل ذلك يبدو ضرباً من الجنون، ومن الصعب التصديق أن يؤمن أحد بهذه الديانة. وفي نهاية الحديث، تتفقان كلاكما أنّ المسيحيين لم يختاروا هذه الديانة، بل ولدوا مسيحيين. وكل من ينظر إلى كلا الديانتين الإسلام والمسيحية سيرى أنّ ألإسلام هو الدين الحق.
والآن، ستقول لصديقتك: "لقد نسخت حديثنا ودوّنته على الورق ثمّ عدّلت فيه جعلت الحديث يدور عن الإسلام، وأردّت أن أقرأه عليك". لاحظ ردّة فعلها وأنت تقرأه على مسمعها. كيف ستكون ردّة فعلها على كل تصريح؟ وكم من الوقت ستحتاج لتتحوّل إلى دفاعية؟ وكيف أنها ستبدأ بابتكار وجلب حجج مفصّلة ومدروسة وليس لها أي أساس واقعي أكثر من التي وردت خلال الحديث الأول؟ قد تلحق هذه المحادثة أضراراً بليغة بصداقتكما؟
يمكنك القيام بنفس التجربة على أشخاص ينتمون لديانات أخرى. على سبيل المثال، تبديل جوزيف سميث للمورمون أو موسى لليهودية. هذه التجربة تعطي مثالاً واضحاً عن كيفية عمل فيروس "الإله". فهو ينقل العدوى للدماغ البشري ويعطّل ملكات التفكير النقدي والعقلاني عند البشر. والأغرب من ذلك أنه يبقي ملكة نقد الديانات الأخر سليمة، لكنه يعطّل التفكير النقدي العقلاني لديانة المصاب. تذكّر هذه التجربة دائماً أثناء استكشافنا للسلوك الفيروسي الديني عند الأفراد والمجتمعات.
متلازمة الاهتداء الديني
هل سبق لك وأن لاحظت شخصاً يمرّ بتجربة هداية أو اهتداء ديني؟ يبدو لك هذا الشخص منطقياً بالكامل وليس لديه أي اهتمام بالدين أو المواضيع الدينية. ثم بعد ذلك، يموت أحد الوالدين، أو صديق، أو طفل من أطفاله، أو أنه يصاب بمرض معيّن أو حادث سيارة. وخلال أسابيع قليلة، تراه يبحث عن الحلول ويجد الإجابات عن كافة الأسئلة المتعلّقة بالحياة ويبدأ بدراسة وتفحّص كافة المذاهب والعقائد. من خلال فجوة الضعف هذه، قد يتمكّن الدين من فرض السيطرة على دماغ الشخص. ففي العديد من الحالات المشابهة، قد ينخرط الشخص ضمن شكل أو آخر من أشكال الجماعات المتطرّفة والمتشدّدة.
صديق لي فقد والده مؤخراً جرّاء إصابته بمرض السرطان. أمّا قبل هذه المأساة العائلية، بإمكاني وصف صديقي بأنه كان شخصاً غير متديّن. وبعد وفاة والده، واجه حالة دينية شديدة ومتأزّمة غيّرت شخصيته بطريقة دراماتيكية. فخلال إحدى الأمسيات الجيدة بعد أن تناولنا عشاءً لذيذاً في مطعم، تحوّل الحديث إلى بلوى يسوع وعذابه الذي ابتلاه. لم تكن هناك أي طريقة للتحدّث معه دون أن يذكر الدين أو أحد المواضيع الدينية بطريقة أو بأخرى. لقد أصبح شخصاً مضجراً ومملاً. ثم انقطعت صداقتنا ولم نعد نلتقي أبداً.
الرؤى وحالات الهداية الدينية تمّ الحديث عنها منذ قرون عديدة. وهي تتشابه في مختلف الديانات بغضّ النظر عن الثقافة والديانة أو أسسهما وقوانينهما. كان الفيلسوف وليم جيمس قد لاحظ التماثلات والتشابهات منذ قرن مضى في كتابه القيّم "اختلافات التجربة الدينية" (1902). ما الذي يجعل تجربة اهتداء إلى الإسلام تشبه وتتماثل مع تجربة الاهتداء إلى المسيحية؟ كيف سيحمل طقس الغطاس الهندوسي تشابهات قريبة من الرؤى الدينية لسكان أمريكا الأصليين؟
يبيّن علم الأعصاب أنّ مثل هذه التجارب يمكن خلقها عن طريق أساليب التحفيز والإثارة الدماغية. لذلك، مجرّد إثارة عصبية بسيطة في للدماغ يمكن أن تخلق أو تحاكي التجربة الصوفية. فسكان أمريكا الأصليين يستخدمون البيوت Peyote وهي عشبة مقدّسة من فصيلة الصّبّار. وهناك الدكتورة تيموثي ليري وهي تستخدم محلول LSD أو محلول إيثيلاميد حمض الليسرجيك Lysergic acid Diethylamide وهو عقار مخدّر قد يصيب متعاطيه بالهلوسة، وقد أظهرت هذه العمليات عوارض تجارب قد تسمى روحية أو صوفية. نحن نعلم أنّ التحارب التي تظهر كتجارب روحية من المرجّح أنها استجابات عصبية لأي نوع من الحوادث التي تحدث بشكل طبيعي في الوسط المحيط أو داخل الدماغ. تجارب الاقتراب من الموت التي تمّ خوضها على مرّ القرون وفي كافة الحضارات بمختلف أنواعها وأشكالها لها تماثلات وتشابها مثيرة للانتباه لتلك التي تظهرها عمليات التحريض أو الإثارة العصبية في الدماغ.
د. أولاف بلانكس، عالم أعصاب بجامعة Ecole Polytechnique في لوسان، بسويسرا، يستعرض استنتاجاته التي توصّل إليها خلال أبحاثه على عمليات التحريض الدماغية, ((قد يكون من المثير جداً التضرّع واستجداء الخارق للطبيعة عندما تنحرف بوصلة هذا الجسد وأحاسيسه، والتفسير الحقيقي طبيعي جداً، إنه محاولة الدماغ في فهم واستيعاب المعلومات المتضاربة وجعلها منطقية)) [1]
أمّا تلك التجارب التي كان يطلق عليها صفة "روحية" أو "صوفية" على مرّ القرون أصبح بالإمكان توليدها وخوضها من جديد في مختبر د. بلانكس عن طريق وضع مجسّ كهربائي في الدماغ.

من أنت وما الذي فعلته بصديقي؟
بعض الأشخاص الذين يخوضون تجربة الاهتداء الديني يبدو أنهم يمرّون بتغيّرات جذرية في الشخصية. قد يبدون متجانسين وهادئين وسلسين عند تناول أحاديث ومواضيع دنيوية، ولكن عندما يبدؤون في الحديث عن معتقداتهم وإيمانهم، فسيتغيّر مسلكهم وتصرفهم وطريقة تحدّثهم. ستتغيّر نبرتهم في الحديث، كما أنّ ابتسامتهم ستتحوّل لابتسامة باهتة ومتوترة، وسيغيّرون إلى الوضعية الدفاعية عندما تبدأ التشكيك بمعتقداتهم وإدخال حالة الخلخلة إلى براهينهم. ويصبح من الصعب جداً الخوض في حديث ودّي معهم. ويبدو الموقف وكأنه مشهد من فيلم الرعب "غزو سارقي الأجساد" (1978)، عندما تسيطر قطعان المخلوقات الفضائية على الأدمغة والأجسام البشرية وتحوّلها إلى ما يشبه الآلات عديمة الحسّ.
ما أن يتحوّل أي شخص إلى إنسان متديّن، يصبح من الصعب جداً إجراء حوار عقلاني أو منطقي معه حول النواحي غير المنطقية واللاعقلانية لديانته. ويبدو الأمر وكأنّ شيئاً ما قد سيطر أو غزا جسم الشخص وسيطر على عقله وجزءاً كبيراً من شخصيته. إذ يصبح من الصعب عليك التكلم إليه بشكل مباشر. وبدلاً من ذلك، يبدو وكأن التواصل معه أصبح عن طريق كائن ديني غريب يسكن داخله. وتصدر من فمه عبارات مؤلّفة ومدبّرة بشكل جيد. مثال على ذلك: ((هذا لغز و ينبغي علينا معرفته)) أو ((يتوقع الرب منا أن نتقيّد بوصاياه من دون مساءلة أو تشكّك)) أو ((لقد تكلّم يسوع معي وأعرف ذلك من أعماق قلبي)). يتضح على الفور من خلال هذه التصريحات بأنّ القدرة على التحليل العقلاني والمنطقي مشلولة تماماً.

العدوى الدينية
لاحظ ريتشارد دوكينز والعديد غيره التشابهات والقواسم المشتركة بين الأديان والسلوك الذي تتبعه الطفيليات أثناء سيطرتها على أجساد حيوانات معيّنة. على سبيل المثال، يشبّه دانييل دينيت في كتابه "كسر التعويذة" الدين بالطفيلي Parasite. أنا لا أنوي هنا استنساخ أعمالهم، لكني أريد الاستناد على فكرة الطبيعة الطفيلية للدين بطريقة تساعدنا وتمنحنا إرشادات للعيش داخل عالم متدين ومليء بالأديان.
بغرض إدخال بعض التوازن لهذا الفصل، سنقوم بجولة في عالم الدين مستخدمين التعبير المجازي "الفيروسات". أنا لا أدّعي أنّ هذا التعبير يمكن استخدامه في جميع الحالات، لكنّ قوّته هائلة جداً وقدرته كبيرة لتفسير الكثير من الأمور عن سلوك الأفراد والجماعات الدينية ويمنح المتشكّك إطاراً عاماً يستطيع من خلاله فهم الأثر الخبيث والمؤلم الذي يتركه الدين على عالمنا وحياتنا. وهؤلاء الذين ألِفوا فكرة ريتشارد دوكينز عن عملية التطوّر الميميائية سيرون من فورهم التعبير الفيروسي بصفته طريقة أخرى للحديث عن الميمات الدينية. لذا سأفضل اختيار تعبير "فيروس" بدلاً من "ميم meme" لأنّ الفيروسات معروفةٌ جداً بالنسبة لأغلب الناس، والبنية البيولوجية للفيروسات تخلق نظيراً مفيداً لحديثنا. بأي حال، أنا مدين جداً للدكتور دوكينز وعمله الطليعي، وخصوصاً أعماله المؤسّسة والملهمة: الجين الأناني، ووهم الإله [2]
البرمجة الطفيلية
أدب الخيال العلمي مليء بالأمثلة التي تتناول سيطرة مخلوقات فضائية غريبة على أجسام البشر لتحقيق غاياتها وأهدافها. لكن من أين استقى الخيال العلمي فكرته هذه؟ تلك حقيقة واقعية قد تكون أغرب من الخيال [3]. هناك أمثلة عديدة في عالم البيولوجيا الطفيلية والأجسام الممرضة والفيروسات التي تصيب الدماغ وتسيطر على المضيف وسلوكه. ولفهم أنموذجنا عن الدين الفيروسي، دعونا أولاً نلقي نظرة على بعض الأمثلة من علم البيولوجيا:
• الجندب يصاب بعدوى دودة شعرية (Spinochordodes tellinii) إذ تجعله هذه الدودة يقفز إلى الماء ويموت لتكمل دورتها الحياتية وتتكاثر. وهذه الحالة تخبرنا عن السلوك الانتحاري الذي يقوم به المضيف _مدفوعاً من قبل الطفيلي_ ليحقّق هدف الطفيلي في التكاثر.
• فيروس الكَلَب rabies يصيب عصبونات معيّنة في أدمغة الثدييات ويدفعها للتصرف بطرق عدوانية. ومن ضمنها مهاجمة الحيوانات الأخرى وعضّها، وفي الحالة العادية قد يكون الحيوان المصاب يتجاهل أو يتفادى تلك الحيوانات قبل إصابته. يسيطر الفيروس على دماغ الحيوان للقيام بمهمّـته الخاصة من دون أي اعتبار لسلامة المضيف، الذي يكون مصيره الموت عادةً.
• دودة شريطية (Dicrocoelium) تصيب دماغ النملة وتدفعها لتسلّق أوراق الأعشاب ليتمّ أكلها من قبل أحدى الحيوانات المجترّة. تضع الدودة بيضها داخل أمعاء البقرة. في النهاية، تخرج البيوض مع روث البقرة، في حين أنّ الحلزونات الجائعة تتغذّى على ذلك الروث (وبيوض الدودة). تدخل الدودات الجديدة داخل الغدّة الهضمية للحلزون ثمّ يتمّ تغوّطها على شكل طين لزج مليء بالدودات الهائجة لتشربها النملات مرةً أخرى كمصدر للترطيب.
في هذه الأمثلة وفي العديد غيرها، نلاحظ أنّ الطفيليات والفيروسات والعديد من الأجسام الممرضة تسيطر على أجزاء من الدماغ و"تتحكّم" بالمضيف بمعنى حرفي. إنها تعيد برمجة الكائن العضوي مرة أخرى ليتصرّف بطرق وأساليب تخدم مصالح الطفيلي وأهدافه بالدرجة الأولى، وتكون نهاية المضيف الموت أو الفناء.
هناك مثال أكثر إثارة للانتباه وهو الطفيلي الأولي الذي يسبب داء المقوّسات Toxiplasma Gondii. يصيب هذا الطفيلي الأولي القوارض ويسبب لها عجزاً في حاسة الشم الغريزية لرائحة القطط. وهذا التصرف يصبّ بالدرجة الأولى في مصلحة الطفيلي، لأنه يتمّ دورته الحياتية ويتكاثر داخل أمعاء القطط التي تناولت الفئران والجرذان المصابة. القطط التي تحمل هذا الطفيلي في أمعائها بدورها تنشره عن طريق برازها. روبرت سابولسكي يكتب في مجلة العلوم الأمريكية Scientific American عدد مارس 2003 ((القوارض المصابة ما زال باستطاعتها التمييز بين كافة الروائح إلا أنها تفقد وبطريقة انتقائية خوفها وردّة فعلها تجاه فيرومونات القطط، ممّا يجعلها فريسة سهلة بين مخالب القطط))
يتابع سابولسكي مقاله ((هذا يشبه تماماً عندما يصاب شخصً ما بطفيلي في الدماغ ليس له أي تأثير يذكر على أفكار الشخص، مشاعره، دراسته واختباراته، أو برامجه التلفزيونية المفضّلة لكنه، ولإكمال دورته الحياتية، يولّد حافزاً لا يمكن مقاومته للذهاب إلى حديقة الحيوانات، ثم الانحناء على الحاجز وتقبيل أعنف دب قطبي في المكان. هذا هو الانجذاب القاتل الذي ولّده هذا الطفيلي...)) [4ٍ]
بالاستناد إلى هذه الاستراتيجيات المؤسسة في علم البيولوجيا، يمكننا تطبيق المفهوم أو التشبيه الفيروسي على الدين. فبينما تسيطر الدودة الطفيلية على مقاصد وإحساسات النملة، فإنّ الدين يسيطر بشكل مشابه تماماً على أحاسيس وقدرات المصابين به.
تخيّل الدين كفيروس [5] له ميّزاته وخصائصه الخاصّة به. وكما يختلف فيروس الإيدز عن فيروس الإنفلونزا، فإنّ كلا الفيروسين يعديان ويسيطران على وظائف الجسم بطرق تساعدهما على البقاء والتكاثر. الديانات لديها خمسة ميّزات تعمل لصالحها تظهر بدرجات مختلفة، ومن ضمنها القدرة على:
1. نقل العدوى للناس.
2. خلق أجسام ودفاعات مضادّة ضدّ الفيروسات الأخرى.
3. السيطرة على بعض القدرات العقلية والجسدية المعيّنة، وإخفاء نفسه داخل الفرد بطريقة يصبح من الصعب اكتشافه من قبل المريض نفسه.
4. استخدام أساليب محدّدة لنشر الفيروس.
5. برمجة المضيف للعمل من أجل مضاعفة الفيروس.
كل ديانة قد تكون أكثر أو أقل فاعلية في أحد هذه المجالات الخمسة. دعونا نلقى نظرةً أقرب على كل واحدة من هذه السمات كل على حدة.
* نقل العدوى للناس
من الناحية العملية، كافة الأديان تعتمد على استراتيجية التلقين في المراحل العمرية المبكرة كاستراتيجية أساسية في نقل العدوى. استراتيجيات العدوى الأخرى تتضمّن الهداية، تقديم المساعدة والعون المادي بشروط والتزامات معيّنة، تقديم الفرص الدراسية في المعاهد والكليات الدينية والكثير من النواحي والمجالات التي نتواجه ونصطدم بها مراراً وتكراراً وبشكل يومي مع الدين كالإعلام مثلاً.

* خلق أجسام ودفاعات مضادّة للفيروسات الأخرى
عندما يصاب أحد ما بعدوى فيروس الدين (مضيف بالمعنى البيولوجي) فإنه يبدأ على الفور بخلق مضادات تحمي الفيروس من باقي الفيروسات المنافسة. فمثلاً، المعمدانيين الذي تعمّدوا مؤخّراً سيدرّسون الإنجيل المليء بالآيات والتبريرات التي تبجّل وتعظّم ديانتهم وجمهرة من البراهين المزعومة التي تفنّد المذاهب والديانات الأخرى. خلال المراحل المبكّرة، سيكون الأمر أشبه بالتسابق لحشر أكبر عدد ممكن من المضادات يمكن حشره داخل دماغ الوافد الجديد حتى يتحصّن ضد باقي العالم، وخصوصاً ضدّ الأديان المضادّة الأخرى. ما أن يصاب الإنسان بعدوى فيروس "الكاثوليكية"، فإنه نادراً ما ينجح إغواءه ليتحوّل إلى الإسلام. ما أن تصاب أي فتاة بعدوى فيروس "المعمدانية"، فمن غير المرجّح أن تتحوّل إلى بوذية. بشكل عام، عندما يصاب الأولاد بفيروس إلهي محدّد، فإنهم يرتبطون بالديانة التي فطروا عليها حتى آخر أيام حياتهم. قد يتحوّل المعمداني إلى لوثري أو مشيخي، لكنه نادراً ما يتحوّل إلى كاثوليكي أو مسلم أو وثني.
المناعة الدينية هي من أقوى البرامج وأكثرها فاعلية، تمّ تصميمها لضمان حماية الأولاد من التأثيرات الخارجية. فهذا الأمر في غاية الأهمية ضمن مجتمع متعدّد. إذ أنّ الفيروس لا يستطيع التحكّم بالتفاعل والاختلاط مع الأديان الأخرى الموجودة على الساحة، لذا فإنه يتخذ تدابير احترازية ووقائية ليبقي أتباعه عمياناً أو غير مدركين للديانات الأخرى. وهذا أمر هام جداً وخصوصاً للأطفال الذين لم تتشكّل لديهم المناعة اللازمة بعد.
العدوى الدينية بسن مبكرة غالباً ما تكون شديدة للغاية لدرجة أنها قد تخلق أثراً دامغاً ودائماً عند أغلب البشر. الأثر الدامغ تمّ تحديده لأول مرة من قبل كل من كونراد لورينز ونيكو تنبيرغن، وكلاهما حائز علة جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب[6]. فخلال عملهما على الطيور وحيوانات أخرى، أظهرا أنّ العديد من الحيوانات تتعلّم التعرّف على آبائها بسرعة مذهلة بعد الولادة. في تجربة شهيرة جداً مع الإوزّ، لقد أثبتا أنّ استبدال شخصية أحد الوالدين كإنسان مثلاً يؤدّي إلى دمغ هذا البديل. وبعد أن اكتملت عملية الدّمغ مع الشخصية البديلة، تمّ تقديم الإوزّة الأم الحقيقية لأولادها. وكانت المفاجأة بأنّ صغار الإوزّ كان من غير الممكن إعادة برمجتهم للحاق بالإوزّة الأم، وبدلاً من ذلك، لحقت الإوزّات الصغيرات بالشخصية البديلة.
هذه العملية التعليمية القوية لها أثر شديد وسريع عند أغلب الحيوانات ويبدو أنها غير قابلة للعكس في أغلب الحالات. ربّما تكون العدوى الدينية مشابهة لهذه الحالة تماماً. ما أن يُدمَغ الفرد بدين معيّن، فيصبح من الصعب تغيير دينه. فالطقوس والعادات والأغاني والنغمات لديها طريقة عجيبة في ملازمة الناس طوال حياتهم لدرجة أنهم لا يشعرون بالشبع والاكتمال إلا إذا كانوا ضمن تلك البيئة الطقسية المحدّدة.

* السيطرة على عدّة وظائف عقلية وجسدية والاختفاء داخل الشخص المصاب
حتى المضيف البالغ الذي لا يبدو عليه التديّن يمكن أن يصبح تصرّفه وسلوكه وكأنّ الفيروس حي وسليم داخل دماغه. تسائل عن المعتقدات الدينية، وسيسرد المضيف مجموعة التعاليم والمعتقدات التي تعلّمها في سن الخامسة أو العاشرة. وبنفس الشكل الذي يتابع فيه فيروس الجدري حياته بسلام داخل الجسم البشري بعد الشفاء من المرض، فإنّ فيروس "الإله" قد يعيش بهدوء وبشكل مخفي داخل المضيف حتى يثيره شيء ما أو يستحثّه.
يمكن للتوتر أن يحفّز فيروس الجدري عند الكبار أو البالغين، ممّا قد يؤدّي لإصابتهم بما يسمى بداء القوباء. وبنفس الشكل، ينزع التوتر والضغط النفسي لتفعيل أو تنشيط فيروس "الإله" عند أغلب الناس. فإذا كانوا يعانون مسبقاً من تجربة صدمية أو مؤلمة، فإنهم قد يعيدوا تشغيل الفيروسات الدينية التي تشرّبوها خلال طفولتهم. فيبدؤون بارتياد الكنائس، ويتجرّعون أجساماً مضادةّ أكثر لمساعدتهم على البقاء على الصراط المستقيم. يسيطر الفيروس على وظائفهم العقلية، كما يتضح ذلك من عوارض السلوك الناجم عن عقدة الذنب الجديدة.
فيروس "الإله" أيضا لديه القدرة للسيطرة على الوظائف الجسدية والحركية. على سبيل المثال، تحاول العديد من الديانات فرض السيطرة على الحياة الجنسية، كما يحدث خلال عهود العزوبة واختيار حياة الزهد والتقشف. وسنناقش هذه الفكرة بالتفصيل خلال الفصل الخامس. بأقل تقدير، قد يغيّر الفيروس عادات الطعام والحمية، عندما يلزم أتباعه بتعاليم وقيود تتعلّق بالصيام وعدم أكل لحوم حيوانات معيّنة.
أخيراً، يمتلك فيروس "الإله" القدرة على الاختباء والتخفّي عن المضيف وأساليب كشفه الداخلية. ما أن يصاب الإنسان بالعدوى، فإنه يصبح عاجزاً عن اكتشاف التناقضات الرئيسية التي تشوب ديانته وسلوكه. فالنظام العقائدي يصبح واضحاً بذاته بالنسبة إليه، ولم تقدر كمية ضخمة من البراهين والحجج المنطقية بإقناعه وزحزحة إيمانه. لو جلس شخصان أحدهما مورموني والآخر كاثوليكي وتجادلا حول ميّزات ومزايا ديانة كل واحد منهما، فلن يستطيع أيّ منهما رؤية التناقضات والمغالطات المنطقية التي تشوب ديانته، لكنه سيراها بشكل واضح في ديانة الآخر.
* استخدام أوعية محدّدة وآليات فعّالة لنشر الفيروس _الناقل The Vector
في علم البيولوجيا العضويات التي تعمل على نشر الأمراض يطلق عليها اسم "النواقل". البعوضة هي ناقل لفيروس الملاريا، والقرادة هي ناقل لمرض لايم. في حالة فيروس الملاريا، تقوم البعوضة بلدغ الشخص المصاب بالملاريا وتشرب من دمه المليء بطفيليات الملاريا Plasmodium Parasite. بعدها يتحرّك الطفيلي عن طريق ثقب أمعاء البعوضة ويتابع سيره حتى يستقرّ في الغدد اللعابية لديها. وعندما تلدغ البعوضة شخصاً آخر، فإنها [وهنا نستخدم صيغة المؤنث للبعوض لأنّ الأنثى هي التي تلدغ فقط] تحقن طفيلي الملاريا في جسم ذلك الشخص.
النواقل هي مراحل حسّاسة وأساسية خلال الدورة الحياتية للعديد من الطفيليات. قد يصاب الناقل _أو لا يصاب_ بالأذى خلال عملية نقل الطفيلي. لا يبدو أن الخفافيش تتأثر بنفس الدرجة التي تتأثر فيها حيوانات الراكون بطفيلي الكَلَب، لكن كلاهما يمكن أن يكونا ناقلين. البرغوث الذي يحمل جرثومة Yesinia Pestis التي تسبّب الطاعون سيء السمعة سيواجه الموت في سعيه لنقل العدوى إلى كلب أو جرذ أو إنسان آخر. إذ أنّ هذه الجرثومة تسدّ المجرى الهضمي للبرغوث لإجباره على تقيؤها داخل جسد الضحية. إنها تجعل البرغوث عاجزاً عن هضم غذائه.
بنفس الطريقة، فيروسات "الإله" أيضاً بحاجة لنواقل: إذ بالإمكان برمجة الناس، وحتى إعادة هندستهم، ليكونوا نواقل موبوءة وفعّالة للفيروس. ونحن نسمي تلك النواقل في الحالة العادية: راهب، قس، إمام، حاخام، بابا، مبشّر، داعية، شامان، رسول، راهبة، مدرّس الإنجيل و، بدرجة أقل، حكيم، شمّاس، أو واعظ في مدرسة يوم الأحد. قد يعيد الفيروس برمجة وهندسة هذه النواقل بشكل هائل. وعملية إعادة الهندسة هذه تتطلّب سنوات من الدراسة في المعهد وامتلاك كميات ضخمة من الأفكار الغامضة والمبهمة بالإضافة للعديد من الخدع والمهارات العقلية لنقل الفيروس. كما قد يتضمّن التمرين على حياة العزوبية وقتل حاجة الفرد الجنسية وتعويده على فكرة عدم نقل جيناته لكي لا ينشغل كثيراً بالأطفال والسلالة عن نشر الرسالة أو الفيروس، وبذلك، يكون أكثر فاعلية كناقل للفيروس. يتم تنشيط القابلية للتوهّم والتضليل في حواس الرهبان والراهبات إذ يؤمنون أنّهم متزوجون من إله غير مرئي أو الكنيسة.
* برمجة المضيف لنشر الفيروس ومضاعفته
أخيراً، ينبغي على فيروس "الإله" تنشيط البرنامج ليتمّ نسخه ونشره إلى أي مضيف محتمل آخر. يتم برمجة وهندسة أنماط معيّنة من السلوك لضمان انتقال الفيروس إلى الآخرين، وبشكلٍ خاص إلى أطفال المضيف. ويتضمّن ذلك الأفكار المتعلّقة بعقدة الذنب والتي تخلق نوعاً من الشعور بالأمان عند أداء الشعائر. وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك: شعائر المناولة المقدّسة، التعميد، البلوغ، المصادقة، الصلوات المتكرّرة، قراءة الإنجيل بشكل يومي والاعتراف.
المناعة الدينية
في عام 1796، توصّل إدوارد جينّير إلى نتيجة مفادها أنّ إصابة الإنسان بعدوى فيروس جدري الأبقار تحصّن ذلك الشخص بشكل فعّال من باقي فيروسات الجدري الخبيثة. بمعنى آخر، نوع واحد من الفيروسات يشكّل مناعة ضد الأخرى.
تعمل الأديان بطريقة مشابهة تماماً. فالمعمداني المصاب بالعدوى تتشكّل لديه مناعة ضدّ الكاثوليكية أو الإسلام. فالدين يخلق سلسلة من الدفاعات داخل المضيف لمنعه وردعه من مجرّد التفكير بجدية بأي ديانة أخرى. على سبيل المثال، نادراً ما يفكّر المعمداني في دراسة القرآن بنفس الاجتهاد الذي يدرس فيه الإنجيل. من ناحية أخرى أغلب الكاثوليك لن يهدروا أي دقيقة من وقتهم في دراسة كتابات وأعمال جون ويسلي. المسلمون الشيعة لن يفكّروا ولو للحظة في دراسة أعمال القديس بولص. المسلمون السنة قد ينظرون إلى البوذية بأنها مبهمة وغير مفهومة[7]. إذن فيروس "الإله" يبني جداراً هائلاً ومتيناً يمنع الناس من الاقتناع بأديان أخرى غير دياناتهم، ناهيك عن فهمها واستيعابها.
من وجهة نظر مراقب خارجي، إنّ سلوك أعضاء منتمين لديانات مختلفة تبدو متشابهة ومتماثلة بشكل لا يصدّق. استمع لدعوة أسامة بن لادن وبات روبرتسون، على سبيل المثال. فكلاهما يدّعي أنّ الكوارث الطبيعية هي من عمل الله أو الرب بسبب ذنوب أو خطايا معيّنة. كلاهما يشوّه دور المرأة في ديانتهما. كلاهما يرى أن للشيطان دور في هذا العالم. ومن وجهة نظر عالية المستوى، كل الأديان الرئيسية تبدو متشابهة ومتماثلة بطرق عدّة. مع تغيير بعض الكلمات، يمكن تحويل خطاب بات روبرتسون بسهولة إلى كلمة يبشّر بها بن لادن.
أنا أعمد لاستخدام أمثلة اقتبستها عن قادة دينيين معروفين بشكلٍ جيد، لكنّ التأويلات والتحليلات يمكن أخذها من الكنائس والمساجد المحلية بأسهل ما يمكن. فبعد سنوات طويلة من الاستماع لقساوسة متطرّفين، بإمكاني الشهادة على التصريحات المذهلة التي يصرّحون بها من على منابرهم من دون أي اعتراض أو حتى تعليق ذكي وعقلاني من الحشود المجتمعة أمام المنبر.
بن لادن وروبرتسون كلاهما يملكان عقولاً فعّالة وتعمل بشكل جيد، وتمتلك القدرة على التفكير المنطقي، العقل، الدراسة، التعلّم، وممارسة التفكير النقدي، لكّن فيروس "الإله" قد عطّل بعض تلك الوظائف أو كلّها كما يعطّل فيروس Tixoplasma gondii غريزة الخوف والهرب من القطط. ولا توجد حاجة لتغيير أي شيء آخر! فقط ببساطة تعطيل بعض القدرات الفكرية النقدية والمنطقية، وهذا كل ما يلزم فيروس "الإله".

المحظورات والمحرّمات
هناك جزء هام جداً من عملية السيطرة الفيروسية يمكن إيجادها في مفاهيم المحرّمات والممنوعات والمحظورات، والتي تبقي المؤمن بها في حالة تركيز دائمة على الشعائر والطقوس التي تعزّز الدين بشكل يومي وحتى ساعي. ويمكن ملاحظة هذه الأمور غالباً في التابوهات والمحرّمات الجنسية: عدم ممارسة الجنس قبل الزواج، عدم ممارسة الجنس في فترة الطمث، تحريم المثلية الجنسية... إلخ. كما أنّ الكثير من الأديان تمتلك عادات وقواعد تحريمية للطعام: عدم أكل السمك يوم الجمعة، تحريم لحم الخنزير، الصيام خلال أيام عطلة معيّنة. كل ديانة تتخذ لها منظوراً خاصاً بها، لكنها جميعها تتشارك بنفس الهدف: الإبقاء على المصابين في حالة تركيز دائمة على دياناتهم وحماية المجموعة _العائلة_ من تأثيرات الديانات الأخرى. فالمسلمون يحققون ذلك عن طريق تقييد وتضييق حرية المرأة والتأكيد على سلطة الرجل على المرأة وعلى العائلة. أمّا الكاثوليك فيحققون ذلك عن طريق مطالبة الأهل بتربية أولادهم على المبادئ الكاثوليكية وحصر الجنس بدوره التناسلي مع تحريم ممارسته وبصرامة خارج إطار العلاقات الزوجية.
ويمكن غالباً ملاحظة المحرّمات بشكل دراماتيكي في حياة العزلة التي يختارها الرهبان والقساوسة الكاثوليك. هنا ينشر الفيروس نفسه ويروّج لذاته من خلال إجبار المضيف على الإمساك عن التزاوج والتناسل من أجل تمرير الفيروس ونقله لأكبر عدد ممكن من الأشخاص. تماماً كما يسيطر فيروس الكَلَب على دماغ الراكون ويعيد برمجته ليعضّ الحيوانات الأخرى _حتى على حساب حياته الخاصّة_ يقوم فيروس "الكاثوليكية" بتوجيه القسّ ليكرّس جميع طاقاته من أجل نشر الفيروس. وهذا يُعَدّ انتحاراً جينياً لجينات القسّ، لكنّه يمنح الكنيسة الكاثوليكية أداةً قوية للدعاية والترويج.

تقنيات نقل العدوى عند النواقل
تستخدم النواقل الدينية طرق وأساليب معقّدة لتجهيز وتحضير المضيفين المحتملين للفيروس الديني. فالنواقل الدينية تتعلّم تقنيات التبشير والوعظ والتي تتلاعب على عواطف ومشاعر المضيف المحتمل. (وسنناقش هذه العملية التفصيل خلال الفصل السابع) فالنواقل ثمينة جداً وباهظة الثمن ومكلفة بالنسبة للفيروسات لتتكاثر، لذا يتمّ حمايتها ودعمها، وغالباً ما تكون أعلى درجات الحماية كما يتمّ ملاحظته في حماية القساوسة والرهبان خلال العديد من فضائح الاستغلال الجنسي في الزمن الحالي.
يمكن للنواقل أن تكون أكثر فعالية كنواقل عندما تكون في حالة الموت. فهناك أمثلة كثيرة عن النواقل الميتة التي لعبت دوراً أكثر فعالية وكفاءة كنواقل من ضمنها: يسوع، القديس بولص، علي ابن عم محمد بني الإسلام، فلاديمير إيليتش لينين مؤسّس الاتحاد السوفياتي، تشي غيفارا أحد ثوار أمريكا اللاتينية، وجوزيف سميث مؤسّس الطائفة المورمونية. ولننظر في حالة جوزيف سميث، فموته كان بمثابة حدث جلل للحركة بكاملها. ففائدته بالنسبة للفيروس أخذت مسارها، أمّا هو فقد كان أقل نجاحاً ونفعاً كقائد خلال حياته. ما أن توفي، حتى تحوّل إلى الشهيد الذكي واللامع الذي بإمكانه جمع المخلصين حوله وقيادتهم وتأسيس الفردوس في يوتاه.
الحسنة للفيروس فقط
فيروس "الإله" يبرمج المضيف بطرق محدّدة جداً. فجميع فيروسات "الإله" تبرمج برمجيات للإحسان عند أتباعها، لكنّ هذا الإحسان دقيق ومحدود بشكل لا يصدّق. لقد تعلّمت هذا الدرس ودفعت ثمناً باهظاً عليه في إحدى أمسيات عيد الميلاد عندما كنت أبلغ من العمر التسعة عشر عاماً. كنت طالباً جامعياً فقيراً ودخلت الجامعة على نفقتي الخاصة التي عملت جاهداً لنيل كل دولار دفعته. كان أبي وأمي فخورين جداً بي عندما أنفقت 20$ سفكت عرقي لجمعها من البقشيش في عيد الميلاد. لم أذكر لهما أين أنفقت تلك الحسنة، لكنهما افترضا أنها حسنة لكنيستنا أو كنسية أخرى لها علاقة بها. وبعد عيد الميلاد بأسابيع كانت أمي تشعر بالفضول القاتل وأخيراً سألتني، "أين أنفقت العشرين دولاراً؟" وأخبرتها بأني منحتها لصندوق الاتحاد الأمريكي للدفاع عن الحقوق المدنية لمقاومي الجندية.
يقول روبرت إنغرسول:
((يقول القساوسة بأنهم يعلّمون الإحسان. وهذا طبيعي جداً. إنهم يعيشون على الصدقات
والزكاة. فكافة الشحاذين والمتسوّلين يقولون بأن منحهم الصدقة واجب على الآخرين))
[روبرت إنغرسول، 1833-1899]

تعلّمت بسرعة أنّ تلك الحسنة لم تكن صدقة، وأنّ الرب لن يحتسبها. تعلّمت أنّك يجب دائماً أنّ تمنح الصدقة للكنسية أو أي زكاة دينية وإلا فإنها لن تحتسب. وحتى تلك الساعة، لم أكن أدرك أنّ هناك قسماً للمحاسبة في السماء. فمن خلال قراءتي للإنجيل، اعتقدت بأني تعلّمت أنه لا يجب على المرء إعلان صدقته والتباهي بها كما يفعل المراؤون (إنجيل متى 1:6-4)[8]. تصوّرت أنّ أي صدقة أو أعطية أمنحها لأي جهة ستكون بيني وبين الرب. فإذا لم تعجب الرب صدقتي، فإنه سيعلمني بذلك. كان شعوري جيداً حول اختياري حتى تلك اللحظة.
من الواضح أنّ شكل الصدقة أو الحسنة محدّد من قبل فيروس "الإله". إذ أنّ بقاء الفيروس واستمراره يعتمد على التغذية المنتظمة، ولن يساعد الفيروس إذا منحت المصادر لأي كيان آخر غير متعلٌّق بالفيروس، وهذا غير مقبول على الإطلاق.
الأفراد المصابون مبرمجين أيضاً ليشعروا بالذنب إذا لم يقدّموا صدقات، أو إذا لم يقدّموا حسنات لدعم الفيروس. الكاثوليك بشكلٍ عام لا يقدّمون للمعمداني تمويلاً دراسياً أو منحة. بالمقابل المعمدانيون لا يقدّمون للكاثوليك أية صدقات. اليهود لا يقدّمون أيّة أعطيات أو هبات لبناء المساجد. وبالمقابل المحسنين المسلمين لن يوقّعوا أي شيك للمكتبة في جامعة جيري فالويل. باختصار، إذا لم تكن أنت أو نقودك في خدمة الفيروس، فلن يكون ذلك محتسباً، بل قد يحتسب ضدّك.
من النادر وجود ناقل جيد أو حميد
عندما كنت في سن الشباب، وخلال فترة عشر سنوات، تمّ القبض على ثلاثة قساوسة في كنيستنا متورّطون بعلاقات جنسية مع أعضاء من الأبرشية. وفي أبرشيتين أخريين، من نفس طائفتنا، تمّ القبض على خمسة قساوسة تورّطوا بعلاقات جنسية خلال السنوات العشر المذكورة، وجميع تلك الحالات تقع ضمن حدود طائفة صغيرة في سلسلة إنجيلية طويلة في مدينة ويتشيتا بكنساس.
الأمر المثير للانتباه هنا هو عندما ينخرط النواقل في سلوك وتصرفات محرّمة، بما أنّ تلك النواقل تحمل جرعة مفرطة من الفيروس. والأمر الأغرب هو الأعذار والتبريرات التي يختلقها الآخرون لتلك التصرفات. في أغلب الأحيان، الأعذار التي يتم اختلاقها لهذا النوع من السلوك تكون على النحو التالي: ((كانت مجرّد غلطة)) أو ((إنه مجرّد كائن بشري)). وعندما تمّ القبض على القس الأكبر لأبرشيتنا بالجرم المشهود وهو منخرط في عمل مخلّ بالأخلاق، تمّ السماح له بالاحتفاظ بمنصبه! وبعد أن كرّر نفس الغلطة عدّة مرّات وتمّ القبض عليه ثلاث مرّات ولمدى عشر سنوات، تمّ طرده من منصبه. وقد شهدت مثل هذه الحالات في العديد من الكنائس.
لماذا كان يسمح لهذا النوع من الناس بالبقاء في مناصبهم؟ لأنّ النواقل الجيدة نادرة جداً ومن المكلف جداً تطويرها. طالما أنّ بإمكان الناقل تغذية الفيروس بانتظام وفعالية بالمال والمضيفين، فسيبقى هذا الناقل ويحافظ على استمراره. أمّا الفضائح فهي ثمن بخس يدفعونه من أجل إيجاد نواقل جديدة وبدرجة عالية من الفعالية.
القساوسة الكاثوليك هم من أكثر النواقل كلفةً على الإطلاق. فعندما تقوم الكنيسة الكاثوليكية بتعليم فكرة أنّ القس عندما ينخرط بأفعال جنسية معيبة، أو عندما يتحرش بالأولاد، أو يمارس الجنس مع النساء، أو الرجال، عندها يتهدّد المشروع بالانهيار والخطر. وهذا هو السبب وراء حماية الكنيسة للناقل-القس أكثر من أفراد الأبرشية الضحايا. فالتعامل مع أفراد الأبرشية وحل الموضوع أسهل من إيجاد أو تدريب ناقل فعّال جديد.
مشكلة الكنيسة الكاثوليكية مع القساوسة البيدوفيليين هي النقطة المركزية. وسأغامر وبالتخمين أنّ المذاهب البروتستانتية تعاني من نفس المشكلة: انتهاكات رجال الدين الجنسية. لكن ولأنّ البروتستانت أقلّ مركزية من الكنيسة الكاثوليكية، فالانتهاكات يمكن سترها بشكل أسهل، أو الاكتفاء بنقل المنتهكين إلى كنيسة أخرى.

الأديان الطافرة
كما في الأنظمة البيولوجية، تتطفّر الأديان بشكل متكرّر. فالطفرات تحدث باستمرار، إلا أنّ أغلبها لا يتطوّر ليتحوّل إلى ديانة جديدة. المعمدانيين يتعاملون مع الطفرات ببساطة عن طريق السماح للطفرة بتشكيل حركة معمدانية جديدة. وهذه من أسهل الطرق للحفاظ على المادة الوراثية للحركة الجديدة قريبة من الأصلية بدل فقدانها وخسارتها.
أمّا الكاثوليك فيتعاملون مع الطفرات من خلال استئصالها. الاستراتيجية الكاثوليكية تقوم على الحفاظ على المادة الوراثية نقية قدر الإمكان والتقليل من عدد الطفرات. لذلك، التهديد بالنبذ والطرد هو بمثابة استراتيجية أساسية في التنقية والتطهير، أمّا عملية الحرق على وتد فكانت شائعة في فترة من الفترات [9]. الاستراتيجيات التي يتبعها كل من المعمدانيين والكاثوليك تعمل بشكل جيد إلى حد غير معقول.
في البيولوجيا، من حين لآخر، تكون الطفرات قوية جداً وراديكالية لدرجة أنها تجتاح حتى أقوى الدفاعات وتؤثر على كافة أعضاء المجتمع لتظهر مجتمعات جديدة كلياً. ويمكن حدوث ذلك عندما يهاجم الفيروس مجتمعاً رهيفاً وشديد الحساسية. ونفس الكلام ينطبق على الدين _فخلال القرن الخامس عشر، اجتاح فيروس مارتن لوثر الإلهي مجتمعات شمال ألمانيا الأمّيّة والجاهلة وانتشر فيها.
فيروس لوثر الإلهي كان على درجة من القوة لاجتياح المجتمعات الأوروبية بشكلٍ أسرع بكثير من الفيروس الكاثوليكي الأصلي وحقق أكثر ممّا أستطاع تحقيقه الفيروس الأصلي خلال ألف عام قبله. ما أن أفلت من عقاله، تطفّر فيروس "البروتستانتية" بسرعة كبيرة. فيروس "الكالفينية" كان عبارة عن طفرة مباشرة عن اللوثرية. أمّا حركة تجديد العِماد Anabaptist* فقد تفرّعت عنها: المينوناتيون، الهوتيريتس، كنيسة الإخوان. بالإضافة إلى حركة الهوغونتس الفرنسية، الكواكرز، والمعمدانيون الألمان، والعديد من الحركات.
المجتمع المعزول عن الديانات الأخرى والمثقّف يكون حسّاساً وقابلاً للتأثر بالنوع الصحيح والمناسب من الطفرات أو فصيلة أخرى وجديدة كلياً من فيروس "الإله". البوذية، هي عبارة عن طفرة عن الهندوسية، انتشرت عبر القارة الهندية في الفترة ما بين 480 وحتى 180 قبل الميلاد، وتحوّلت إلى أكبر فيروس إلهي في العالم خلال تلك الفترة. كما أنّ الإسلام قد حقق ذات المأثرة في الشرق الأوسط وخلال فترة لا تتجاوز 200 عام، 600-800 للميلاد.

أحيينا من جديد
إذا كنت على علاقة بأية كنيسة متطرّفة من الطراز القديم، فمن المرجّح أنّك تعرف تلك الترنيمة القديمة: ((أحيينا من جديد)). إنها تمثّل نداءً صريحاً يطلقه المصابون بالعدوى يعبّرون من خلالها عن حاجتهم لإعادة شحن أو انطلاقة جديدة. وعملية الإحياء موجّهة إلى أولئك المصابين بالفيروس مسبقاً. فعندما كنت صبياً، كانت كنيستنا تقيم شعائر الإحياء مرّةً كل عام. حيث يتمّ استضافة واعظ جديد يبشّر الأبرشية بالبعث والتجديد والعهد. معظم الناس الذين يتم "إنقاذهم" كانت لهم علاقات مع الكنيسة بشكلٍ من الأشكال. ومن النادر جداً أن تشهد مجيء أحد من الشارع أو من غير المتدينين ليتمّ خلاصه.
إنّ ظاهرة إعادة الإحياء أو الخلاص هي أسلوب تكيفي للحفاظ على المعتقدات المحلية متينة وقوية ومنع القوى الخارجية من غزو المعتقدات ووضع موطئ قدم لها. ويمكن ملاحظة ذلك كعملية منع للتغيير أو التطفّر. ويساعد ذلك على إبقاء الناس على الصراط والطريق الحق. السنوات التي قضيتها خلال نشأتي ضمن بيئة تشوبها العادات والتقاليد المتشدّدة منحتني الكثير من الفرص لمشاهدة عملية إعادة الإحياء على أرض الواقع. فالتركيز في هذه المناسبة أكثر شاعرية وعاطفية من باقي الخدمات الكنسية الأخرى. الواعظ الضيف الذي يتحلّى بكاريزما خاصة هو الذي يقود عملية الإحياء بشكل عام. والواعظ الأفضل هو الذي يخلق حالة عاطفية عالية وشديدة وحسّاسة لدى أفراد الأبرشية والتي ينتح عنها تكريس أكبر لفيروس "الإله" وأموال أكثر لصندوق الكنيسة. في حين أنّ الأضاحي والصدقات هي السمات الشائعة في مناسبات الإحياء، إلا أنّ الواعظ يقضي الكثير من الوقت وهو يقدّم عظاته عن "الإغراءات" المتنوّعة التي تملأ العالم وعن آخر الأمور التي قد تقود القطيع إلى الضلال، كعروض التلفزيون العامّة، الأفلام أو الكتب. قد يرى الإنسان العرض بكامله كعملية "للحفاظ على نقاوة الفيروس".
المجموعات الدينية الأخرى لها أساليبها الخاصة بها في التنقية الفيروسية. إذ يميل الكاثوليك للجوء إلى العزلة من أجل النقاهة وتجديد عهود الزواج بالإضافة إلى ممارسات بيروقراطية صارمة لتضييق مسار القطيع كي لا يحيد عن المسار الصحيح. المورمون وشهود يهوه لديهم نظاماً هيراركياً منتظما بشكل دقيق ليحافظ على وحدة وانتظام الصّفّ بينما يمارسون النبذ والمقاطعة على الضالين.

المفكّرون الأحرار... طفرة خارجة عن السيطرة
في بعض الأحيان، يمكن أن تخرج الطفرة عن السيطرة. فالبروتستانت يؤكّدون على قراءة الإنجيل ويسمحون للناس في التوصّل لاستنتاجاتهم الخاصة بدون الرجوع إلى قساوسة أو مساعدة رهبان ليؤولوا لهم ما ورد فيه. وكنتيجة لذلك، ظهرت مجموعات من الطفرات في كافة أرجاء أوروبا بعد أن انطلقت الثورة اللوثرية. وعندما استطاع الناس قراءة الإنجيل بمفردهم والنظر فيه جيداً، توصّل البعض منهم إلى استنتاجات تقول أن كل الموضوع هو عبارة عن بيت مصنوع من ورق اللعب. معظمهم حافظ على فمه مغلقاً لتفادي خسارة رأسه، لكن هناك آخرون قاموا بقفزتهم لانتقاد الدين ودوره في المجتمع بشكل صريح وعلني. هؤلاء النقاد الأوائل للدين كانوا أجداد المفكرين الأحرار في الزمن الحالي ومؤسّسي حركة الفكر الحر [10].
يهتمّ المفكّرون الأحرار في موضوع فحص العالم بدون ذلك الخليط من المذاهب والمعتقدات الدينية. هم بشكلٍ عام لادينيين أو أشخاصاً غير متدينين. بعضهم يعتبر روحانياً أو أنه يحمل في داخله بعض المزايا الروحانية. بشكل عام، المفكرون الأحرار قاموا بشل أو الحد من قدرة العدوى بفيروس "الإله"، أو حتى استئصالها كلياً.

خلاصة
تتضمّن استراتيجيات الفيروسات البيولوجية وأنماط سلوكها تشابها وتماثلات هائلة للأساليب الدينية في الترويج والانتشار ثم نقل العدوى. فعملية الاهتداء الديني يبدو أنها تؤثّر على الشخصية. بالنظر إلى النموذج الفيروسي نلاحظ أنّ فيروس "الإله" يعدي ويسيطر على ملكة التفكير العقلاني والنقدي عند الفرد مع فائق الاحترام لديانته أو ديانتها، تماماً كما يؤثر فيروس الكَلَب على معظم أو أجزاء من الجملة العصبية المركزية. وتجربة ذهنية صغيرة تظهر كيف أنّ فيروس "الإله" يبلّد ويعطّل القدرة على التفكير النقدي. ففيروس "الإله" يعدي الإنسان ثم يتلقّح لحماية نفسه ضدّ الفيروسات الأخرى. النواقل في علم البيولوجيا هي الأوعية التي تحمل الطفيلي، الفيروس، أو الجرثوم من حامل إلى آخر. والنواقل الدينية تعمل بنفس الشكل، الكهنة، الأئمّة، الملالي، المطارنة، وإلى ما هنالك من حوامل مختلفة، يحملون فيروس "الإله" وينقلون عدواه لأناس آخرين. كما أنّ الفيروس يقوم بتوجيه كافة المصادر تجاهه ويخلق تابوهات ومحرّمات لمنع تقديم المصادر لغيره من الفيروسات الأخرى. في بعض الحالات تفشل النواقل. أمّا كلفة تطوير أو تدريب ناقل جديد العالية فتجعل الأولوية لحماية الناقل حتى في حالة فشله كما حصل في حالات القساوسة البيدوفيليين. الطفرات تظهر بشكل متكرّر. ومن حين لآخر تخرج إحداها عن السيطرة وتنفلت من عقالها، كما في حالة مارتن لوثر، لتنتقل عدواها إلى الأفراد والمجتمعات الهشّة.

06-19-2012, 02:17 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
حائر حر غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 343
الانضمام: May 2011
مشاركة: #3
الرد على: فيروس الاله
الفصل الثاني
كيف يحافظ الدين على بقاءه واستمراره؟
وكيف يفرض سيادته وسيطرته؟

((إنّ كلمة "الرب" ليست أكثر من مجرّد تعبير وهي من نتاج الضعف البشري، الإنجيل مجرّد مجموعة من الأساطير الخيالية والبدائية والتي لا يمكن اعتبارها أكثر من مجرّد أساطير طفولية. ولا يوجد هناك أي تفسير أو تأويل مهما كان دقيقاً أو مهذّباً يمكن أن يغيّر ذلك _برأيي. بالنسبة إلي، الديانة اليهودية كغيرها من الديانات الأخرى ما هي إلا تجسيد للخرافات والأساطير الطفولية))
[ألبرت إنشتاين: رسالة إلى غوتكايند، 3 يناير 1954]

في هذا الفصل سنحاول بناء تأسيس تاريخي لفهم الدين في السياق الاجتماعي. وسنفحص الاستراتيجيات التي تستخدمها الأديان لتروّج لذاتها وتنشر نفسها وتحافظ على استمرارها. كما أننا سننظر أيضاً إلى أساليب الترويج الطفيلية والتعايشية ومقارنة بعض المذاهب غير الدينية بأخرى تقليدية أكثر.

استراتيجيات البقاء
الهدف الأساسي والدائم للدين هو ضمان بقاءه واستمراره. في الوقت الذي يعرض فيه العديد من الأفكار المتنوعة عن الأخوّة، المحبّة والمجتمع، فهذه مجرّد أمور ثانوية بالنسبة للدين وبقاءه. ولا يوجد أي دين يبطل أو يلغي نفسه فجأةً لأنّ هناك دين آخر حقيقي وصحيح أكثر منه. فالمعمدانيون لا يغلقون أبوابهم لأنهم أدركوا حقيقة أنّ الكنيسة المورمونية هي الصحيحة. والمسلمون لا يحوّلون المساجد إلى كاتدرائيات ليعترفوا بأنّ يسوع هو رسول الله الحقيقي. الأديان لا تستسلم ببساطة. بل تتعدّل وتتطفّر. إنها تفعل كلّ ما يلزم لإبقاء الفيروس حياً يرزق وقابلاً للتطبيق والممارسة في بيئة متغيّرة.
في بعض الحالات، يتمّ التضحية بالأفراد في سبيل بقاء الدين واستمراره. ويتمثّل ذلك بالحالات القصوى في حقيقة أنّ أغلب منفّذي الهجمات الانتحارية هم أفراد من الشرق الأوسط. إذ أنّ الانتحار في سبيل خدمة الفيروس يمكن ملاحظته أيضاً عند نمور التاميل في سريلانكا وطيارو الكاميكازي اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية. فالمضيف يكون متعرّضاً لدرجة متقدّمة جداً من التلقين المكثّف ليؤمن بأنه ستكون بانتظاره جائزة شخصية خاصة به في الحياة التالية بسبب تضحيته العظيمة على الأرض، فيستجيب للنداء.
سلوك التضحية بالنفس يتمثّل أيضاً في حياة العزوبية التي يختارها الرهبان والراهبات الذين يرتكبون بفعلهم هذا انتحاراً جينياً بمعنى الكلمة ليكونوا نواقل أكثر فعالية لفيروس "الكاثوليكية". في حين أنّ هذه مقاربة أقل عنفاً، إلا أنها تخدم نفس الغرض للفيروس. فالمجتمعات الموبوءة تدعم كلا النوعين من النواقل. فنلاحظ أنّ عائلات منفّذي العمليات الانتحارية غالباً ما يتلقّون الدعّم المالي والمساعدات، وبنفس الشكل نرى أنّ الرهبان والراهبات غير المنتجين يتلقّون الدعم من الكنيسة كنتيجة لانغماسهم في عملهم المتمثّل بنقل العدوى إلى مضيفين آخرين.
في كلا الحالتين، نلاحظ أنّ سلوك الأفراد يسيطر عليه الفيروس في سبيل بقاءه واستمراره. طبعاً كما هو الحال في مثال طفيلي Toxiplasma gondii الذي يسيطر على دماغ الفأر، فإنّ فيروس "الإله" يسيطر على أدمغة الانتحاريين، القساوسة، الوعّاظ أو الراهبات ويوّجه سلوكهم لضمان بقاء الدين وانتشاره لأكبر عدد ممكن المضيفين.

القضاء على الهرطقة
يجب على الدين حماية نفسه من الطفرات والتغيرات الداخلية والأخطار والتهديدات الخارجية. ولتحقيق ذلك، يخلق أجساماً مضادّة تحميه من الفيروسات الإلهية الدينية الأخرى في الخارج وكافة التغيّرات أو الطفرات المحتملة من الداخل. الهرطقة أو البدعة Heresy هي طفرة داخلية تهدّد بإضعاف الدين من الداخل عن طريق تقسيم الديانة إلى مجموعات منقسمة. المذاهب الغنوصية، كالهرطقات المسيحية الأريوسية والنسطورية التي ظهرت خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين، حيث أنهما كانتا تشكّلان تحدّياً رئيسياً للكاثوليكية [1]. أمّا ردّة الفعل الكاثوليكية فكانت بابتكار مذهب مدوّن أو مكتوب _مذهب الحواريين_ ضدّ الغنوصية (خلال باكورة القرن الثاني الميلادي) وبعدها تمّ تأسيس المجمّع المسكوني مقابل الأريوسية وغيرها من الهرطقات والبدع الأخرى (325 ب.م). هذه المذاهب كانت مصمّمة كأجسام مضادّة للتخلّص من تلك المذاهب الهرطوقية، لنبذها، و _لو توفرت السلطة السياسية_ إعدامها واستئصالها.
في عام 381 للميلاد قام الإمبراطور تيودوسيوس بإصدار مرسوم يقتضي بأنّ جميع أبناء الإمبراطورية عليهم الاعتراف بديانة مطران روما والإسكندرية (أي اعتناق المذهب المسكوني) أي سيتم إعدام جمع المتخلّفين كعقاب. وبالرغم من أنّ أعداداً ضخمة من أعضاء كثيرين من المطرانية رفضوا المذهب المسكوني في ذلك الوقت، إلا أنّ الكاثوليكية كان بإمكانها اللجوء لاستخدام البنية السياسية لفرض السيطرة على هذه المذاهب الهرطوقية الجديدة والمتنامية. أعداد هائلة من البشر تمّ نبذها ومقاطعتها _أو حتى إعدامها_ خلال السعي لتنقية
العامّة وفرض السيطرة عليهم.
أغلب ما ورد في الأدب الديني ما هو إلا عبارة عن ردّة فعل تجاه الهرطقة والبدع. فغالبية الأديان تدّعي أنّ آدابها منزّلة إليها من عند الله، لكن يبدو أنّ الله مهتمّاً جداً بكافة البدع والهرطقات باليوم والزمن المخصّصين لتدوين وكتابة الكتاب المقدّس. إنّ قراءة الأدب الديني الخاص بأي فترة من الفترات في التاريخ هو دراسة في استراتيجيات الحماية الدينية لتلك الفترة. أغلب ما جاء في ذلك التراب والأدب، بعد أن تأسّست تلك الاستراتيجيات التشريعية أو الشرائع لصيانة المعتقد [2]، يتمحور حول الهرطقات التي ظهرت في تلك الفترة. القديس بول وغيره أظهروا اهتماماً عظيماً بالبدعة التي تظهر كيف أنّ البدعة الشائعة والعامّة كانت تعتبر شاذّة وغريبة في عهد الكنيسة السابقة.

((إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيل آخَرَ! 7لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ.))
[غلاطية 6:1-7]
((2بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ الآبِ السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ: لِتُكْثَرْ لَكُمُ النِّعْمَةُ وَالسَّلاَمُ.))
[بطرس 2:1]

خلال عام 1800 للميلاد، كان إريانوس من مدينة ليون قد كتب خمس كتب ضدّ العديد من الهرطقات والبدع المختلفة. العديد من الكتب الأخرى تمّ وضعها خلال القرون الثلاثة التالية. ومن هنا نرى أنّ فيروس "الإله" الكاثوليكي يعاني من الكثير من الطفرات التي يجب معالجتها وكبحها.

مخاطر وتهديدات فيروسية من الخارج
أي فيروس إلهي غالباً ما يكون حسّاساً تجاه الفيروسات الأخرى الجديدة والراديكالية. الديانتين الزرادشتية في بلاد فارس والهندوسية لم تكونا مستعدّتين ومتحضّرتين لمواجهة فيروس الإسلام الذي يحمل خصائص وقدرات طفيلية عالية عندما اجتاح الصحراء العربية خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. والنتيجة كانت غزوات إسلامية سريعة واستسلام المجتمعات ثمّ أسلمتها. الحكّام أمثل كسرى والإسكندر الكبير سبق لهم وأن غزوا نفس المجتمعات خلال القرون الماضية، لكنهم حافظوا على الديانات المحلية سليمة. أمّا الفيروس الإسلامي الجديد كان قوياً جداً لدرجة أنه أطاح بسرعة بكافة الآلهة المحلية وحتى الديانات القديمة والعريقة كالزرادشتية والهندوسية وأزاحها جانباً.

مواجهة المدّ بالتعصّب والانغلاق
مع انتشار الفيروس، يتباطأ معّدل سرعته مع تنامي انتشاره واتساع رقعته، وذلك يمنح الوقت للفيروسات الإلهية الأخرى لخلق أجسام مضادّة ضدّ الفيروس الإلهي المنتشر. على سبيل المثال، تمّت مجابهة المدّ الإسلامي أخيراً في الهند بأجسام مضادّة هندوسية أفسحت المجال لظهور ما يطلق عليه اليوم تسمية الأصولية الهندوسية. طبعاً، الأصولية بجميع أشكالها هي العملية التخليقية النشطة للأجسام المضادّة في وجه بعض الفيروسات الشرسة التي تهدّد بقاء الفيروس الأصلي. طالما أنّ الديانات أو الطفرات التي تهدّد بقاء الفيروس الديني موجودة، ستظلّ الأصولية تنتج أجساماً مضادّة للحفاظ على المجتمع تحت السيطرة ومنع الطفرات الأخرى من الخروج عن السيطرة وللحؤول دون تحوّلها إلى مارد خرج لتوّه من القمقم.

تعريف الأصولية
الأصولية هي مجموعة من التصرّفات والأنماط الفكرية المحدّدة تقوم على تأويلات صارمة وشرعية للنصوص المقدّسة. بالمعنى الفيروسي، تعني أنّ البشر بدرجة متقدّمة من الإصابة بالفيروس لدرجة أنهم منيعين ومحصّنين أو حتى أنهم يتجاهلون عن قصد أي دليل أو إثبات يتعارض مع معتقداتهم. الأصولية هي ظاهرة استثنائية في الطبيعة، فالأفراد والجماعات يرون أنفسهم بأنهم المؤمنين الحقيقيين الوحيدين أو على الأقل بأنهم أكثر استقامةً وصواباً من غيرهم بسلوكهم ومعتقداتهم. غالباً ما تتمتّع الأصولية بصفات طفيلية خلال سعيها لفرض معتقداتها عبر استخدام وسائل القوّة، الإكراه، الترهيب، النبذ، أو القوّة السياسية، حتى على حساب حياة الأفراد المهدورة أو المدمّرة.
في بعض الحالات، يصاب الدين بطفرة أصولية دائمة. كـان اليسوعيون يشكّلون مثـل هذه التكيّـف للكاثوليكيين. عـندما واجه اليسوعيون هرطقات وبدع مارتـن لــوثر وآخـرون غيـره، تعـلّم النظـام الـيسوعي _جماعـة يسـوع تأسّسـت عام 1540_ بسرعة كيفية تخليق أجسام مضادّة من خلال ثقافتها الدينية المعقّدة وبدأوا بتلقينها للنشء [3]. كان يطلق على أفرادها تسمية جنود المسيح و مشاة البابا منذ تأسيسهم. ومن خلال جهودهم، توقّف المدّ البروتستانتي في بولندا وألمانيا الجنوبية.
التفتيش أو التقصّي كان مؤسّسة أخرى كسابقتها، وكان يطلق عليها أيضاً التجمّع المقدّس الأعلى للتفتيش والرقابة الروميين العالميين [4]. ولعدّة قرون، كان هدفها استئصال الهرطقة من جذورها، والقضاء عليها نهائياً.

كيف تحافظ الأديان الثانوية أو الصغيرة على بقاءها؟
عندما تكون أي ديانة من الأديان في موقع متخلّف ومتأخّر، فإنها غالباً ما تتطفّر لتتحوّل إلى شكل مسالم ولا يهدّد الدين المهيمن أو المسيطر. وكما تسبّب الفيروسات الغريبة درّة فعل مناعية قوية تجاهها، فالأديان الغريبة قد تثير استجابة أصولية قوية تجاهها من قبل الدين المسيطر، وقد تكون هذه الاستجابة قاتلة وفتّاكة للديانات الأضعف. وعن طريق التطفّر إلى كيان حميد أو إلى شيء يعتبر بأنه لا يشكّل أي تهديد، فالأديان الأضعف قد تكون قادرة على النجاة والحفاظ على استمرارها. فالديانة اليهودية نجت واستمرت في أوروبا لعدّة قرون باتباعها مثل هذه التقنيات التكيّفية. وبما أنّ الكنيسة الكاثوليكية منعت الربا _أو جمع الفائدة_ وحرّمته، فقد قدّم المجتمع اليهودي هذه الخدمة للمسيحيين. المورمونية خلعت شكلها القاسي والفتّاك في أغلب بقاع الولايات المتحدة بعد أن واجهت سلسلة من ردود الفعل القاسية وحتى العنيفة من الأديان الأخرى في نيويورك، إيلينوي، وميسوري. وبعد أن تراجعت أغلب الجماعات المورمونية إلى يوتاه، تحوّلت فلول تلك الجماعات التي تخلّفت إلى جماعات أقل عنفاً وصخباً.
لا يهمّ مدى تسامح الدين الرئيسي وتساهله، فاحتمال تصاعد العنف ضدّ الدين الأضعف موجود دائماً. المجازر التي يتمّ ارتكابها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، التفتيش والترحيل الذين مورسا ضدّ اليهود في إسبانيا خلال عام 1492، وصولاً للهولوكوست، هي أمثلة متتابعة لهذه الظاهرة. هناك مثال آخر على التطهير العرقي للهوغونتس الفرنسيين، ومن ضمنها مجزرة عيد القديس بارثولوميو عام 1572 حيث تمّ قتل 110000 عضو من تلك الطائفة. ظلّت عملية الإعدام متواصلة من قبل الملك والكنيسة الكاثوليكية لأكثر من 30 عاماً بالرغم من المراسيم المتسامحة وطلبات السلام والعيش المشترك من كلا الجانبين.

التوازن الفيروسي: الدين والسلطة
في الأنظمة البيولوجية، تتعلّم العضويات الموجودة طرقاً وأساليب تعايشية ومفيدة لمضيفها بالإضافة إلى التعاون مع باقي العضويات الأخرى التي تعيش معها في نفس الوسط لكنها تتحوّل إلى ما يشبه الوباء عندما يختلّ توازنها أو ينفلت من عقالها. عند الكبار أو البالغين، الأجسام المضادّة المسيطرة قد تخلّ وبشكل كبير التوازن البيولوجي أو العضوي داخل الأمعاء، مفسحةً المجال أمام الفطريات والبكتيريا الناقلة للأمراض للسيطرة على الوسط. نفس الشيء يقال عن الفرج عند المرأة حيث أنّ التوازن الحيوي يكبح جماح الكثير من الجراثيم والبكتيريا الممرضة. عن هذا التوازن، يكتب أدريانوس نيكولاس من جامعة غرونينغين بهولندا، ليقول:
((المنطقة المعويّة تأوي نظاماً بيئياً جرثومياً معقداً وديناميكياً. فمن المعروف أنّ وجود وتركيب الفلورا المعوية لها أهمية عظيمة لمقاومة الميكروبات الممرضة _بمعنى خلال منافستها على المكان والمواد المغذية_ فتركيبة الفلورا المعوية تؤثر على تطوّر النظام المناعي المخاطي...)) [5]
بمعنى آخر، فالأمعاء المتوازنة حيوياً ووظيفياً مردّها إلى النظام المناعي القوي. فإذا خرجت أحد الميكروبات أو أكثر من السيطرة، فسيؤدّي ذلك للمرض والعاهة.
الأديان يمكنها أيضاً المحافظة على بعضها البعض تحت السيطرة. ففي مجتمع تعدّدي، ستواجه الأديان صعوبة بالغة في اغتصاب القوة السياسية واحتكارها واستغلالها لنشر معتقداتها. ففي الولايات المتحدة، كان لفيروس "المورمون" سيطرة كاملة على الجهاز السياسي في يوتاه حتى حوالي 1890، لدرجة أنّ غير المورمون كانوا يقتلون وتخرج جثثهم خارج هذه الولاية المورمونية. مجزرة ماونتين ميدو عام 1857 من أحد أشهر الأمثلة على ذلك، لكن ليس من أندرها في تاريخ حركة المورمون [6]. المرحلة الحالية للسيطرة المورمونية يمكن ملاحظتها ببساطة عن طريق التنزّه بالسيارة في أرجاء الولاية. بالإضافة إلى أنّ كافة الكنائس المورمونية تعتبر مدارس عامّة, فالمدارس المحلية يسيطر عليها المورمون أيضاً، حيث أنهم يحاولون أن يجعلوا المدارس قريبةً من الكنائس إذ بإمكان الطلاب مغادرة المدرسة كل يوم لمدّة ساعة لتلقّي التعاليم المورمونية. من الواضح أنّ الولاية تعمل من أجل خدمة الفيروس فيما يتعلّق بالتعليم.
في المجتمعات ذات التعددية القليلة أو المعدومة، قد يتمكّن دين من الأديان في فرض السيطرة على كافة نواح ذلك المجتمع. في بعض الدول الإسلامية، على سبيل المثال، نلاحظ أن للدين سلطة قوية نافذة على الأنظمة السياسية. كان الإسلام فيروساً شديد العدوى لأنه في طليعة الأديان التي نجحت في الجمع بين السلطتين الدينية والسياسية. طبعاً، الإسلام عاجز تماماً من الناحية المؤسساتية الفصل بين الدين والسياسية. إذ أننا نلاحظ من فتوحات محمد الأولية، أنه كان ديناً سياسياً. إنّ فكرة فصل الكنيسة عن الدولة فكرة مستحيلة. فالفيروس الإسلامي تمّ صقله ببراعة على يد مصمّميه ليدافع عن نفسه ضدّ الفيروسات الإلهية الأخرى. قد يكون الإسلام الفيروس الإلهي الأكثر حصانة وصونًا بين الديانات الرئيسية الأخرى.
هذه الدفاعات الخارقة والفعّالة جاءت من حقيقة أنّ محمداً كان قد تعرّض لجرعات متنوعة من الفيروسات الإلهية خلال فترة حياته التكوينية. في الوقت الذي كان فيه الإسلام الوليد معزولاً في شبه الجزيرة العربية، كان مركزه قريباً من نقطة الاتقاء التجارية والفكرية بين الغرب والشرق. أغلب الأجسام المضادة الإسلامية تمّ تصميمها قبل الإسلام نفسه بمئات السنوات. وقد كانت فعالة جداً ضدّ كل ديانة تصادمت معها. تمّ تدوين دفاعات الإسلام الفعّالة في كتاب أطلق عليه اسم القرآن وأضيف المزيد فيمنا بعد في الكتابات اللاحقة، وتمّ الاعتماد على ما تعلّمه المسلمون من اليهود، المسيحيين والوثنيين في شبه الجزيرة العربية، وفيما بعد من الزرادشتيين في بلاد فارس.
لكنّ كل من الديانتين اليهودية والإسلام كانت بداياتهما كحركات سياسية-عسكرية. جذورهما من موسى وحتى محمد كانت عسكرية وسياسية. أمّا المسيحية فلم تلد كحركة سياسية في ظلّ الإمبراطورية الرومانية. فلاحقاً أخذت شكلها العسكري. ورثت الديانة المسيحية أجساماً مضادّة فعّالة وقوية عن الديانة اليهودية. أمّا القديس بولس فكان له دور كبير وحيوي في اختراع بعضها الآخر، لكنها كانت مصمّمة للبقاء كدين للأقلية ضمن إمبراطورية واسعة وقوية. أجسامها المضادّة كانت مركّزة أكثر على القدرة على النجاة والبقاء ضمن بيئة عدائية سياسية-دينية. طبعاً، تشكّل كتابات بولس أحد أقوى وأفضل الدفاعات التي تمّ تطويرها من أجل الديانة المسيحية على الإطلاق، فهي مصمّمة للتركيز على مصارعة الفيروسات الإلهية الأخرى والحفاظ على البقاء والاستمرار في بيئة قاسية أكثر من كونها مجرّد فيروسات تعمل لنقل العدوى إلى جملة العصبية السياسية فقط.
منذ بداياتها الأولى وحتى الآن، خلق الكتّاب والمفكّرون المسيحيون تبريرات وتفسيرات عديدة لتبرير سيطرة الديانة المسيحية على البنية السياسية لكن تمّ كبحها أو عرقلتها لمدّة ثلاث قرون عن طريق التنافس الديني والأنظمة السياسية. وفي النهاية، نجحوا، لكنّ الضعف المبدئي للديانة المسيحية كان سبباً في قلّة البراعة وضعف الحنكة السياسية في المجال السياسي _على عكس الإسلام_ وأقل خبرة أو قدرة على تبرير الأساليب العسكرية في العدوى. كنتيجة لذلك، نلاحظ أنّ كتاباتها أكثر افتقاراً في الإرشادات التي تعلّم كيفية نقل العدوى لأجهزة الدولة. من ناحية أخرى، ومنذ البداية، كانت كتابات الإسلام مليئة بالإرشادات والتعليمات المصمّمة بشكل جيّد. بولس، يسوع، وموسى قدّموا لمحمد خامات ضخمة ليبني صرحه عليها.
يعتمد فيروس "المسيحية" بشدّة على فيروس "اليهودية" لإرشاده. فالوعّاظ المسيحيين يشيرون باستمرار إلى السمات السياسية للعهد القديم لأنّ العهد الجيد يفتقر إليها. فالأنبياء والبطاركة والحكّام الذين كانوا يحكمون إسرائيل القديمة كسليمان وإرميا وداؤود وموسى _بافتراض أنهم كانوا موجودين فعلاً_ كانوا يرون أنّ لا انفصال بين الدين والسياسة. وحتى هذا اليوم، هذا هو الصراع الجوهري داخل إسرائيل العلمانية، حيث أنّ الديانة اليهودية تمارس ضغوطاً شديدة وبشكل مستمرّ على الدولة لنقل عدواها إلى النظام العصبي المركزي السياسي للدولة. ولأنّ وجود دولة إسرائيل يعتمد على عاملي الدعم والحماية ضدّ هجمات العالم العربي المتعدّد، فليس هناك أي مجال للسماح للأصولية اليهودية بأن تفرض سيطرتها على الدولة. وعلى الرغم من ذلك، هناك العديد من الجماعات اليهودية في البرلمان الإسرائيلي تحاول تنفيذ تلك الأجندة ووضعها حيّز التطبيق.

الفيروسات الإلهية المتطورة
يمتلك الإسلام إحدى أفضل الدفاعات ضدّ الفيروسات العقلية الأخرى كما أنه يمتلك الإمكانية ليكون أكثر خبثاً وعدوانية من الناحية الطفيلية عندما يندمج ويدعم السلطة السياسية في إحدى المجتمعات. الأديان الأكثر حداثة واجهت حظاً عاثراً لمجيئها إلى بيئة دينية مزدحمة مسبقاً ومتوازنة إلى حدٍ ما. على سبيل المثال، بدأت العقيدة المورمونية في بيئة فيروسية مزدحمة مسبقاً، وفي حين أنها حديثة العهد ودفاعاتها الجديدة تمكّنت من خلق فرصة مذهلة لنموّها واستمرارها، إلا أنها لا يمكن مقارنتها بالإسلام. ومع ذلك، تمّ تصميم المورمونية في جوهرها لنقل عدواها إلى النظام العصبي السياسي _جوزيف سميث رشّح نفسه للرئاسة عام 1844. في كل مرحلة من مراحل المورمونية حاول أتباعها فرض السيطرة على البنية السياسية المحلية منذ نشأتها في نيويورك، ثمّ الانتقال إلى ناوفو، إيلينوي، ثمّ إلى شمال غربي المسيسيبي. على أية حال، ولأنّه كانت هناك عدّة أديان ومذاهب قوية موجودة على الساحة، لم يتمكّن المورمون من النجاح حتى هاجروا إلى منطقة تمتاز بالخواء الديني في يوتاه.
نشأ الإسلام وتطوّر في مجتمع منقسم حيث كانت الفيروسات الوثنيـة ضعيفـة وغير قادرة على مواجهة الموجـة الفيروسية الجديدة، الديانة اليهودية لم تكن تتّسم بأنها طفيليـة، والمسيحية كانت تعانـي من انقسامـات داخلية خطيرة. الفيروس الإسلامي كان مصمّماً بشكل جيد ومحكم لدرجة أنّه تفادى المواجهة المباشرة مع "أهل الكتاب" الآخرين [7] وكنتيجة لذلك، المجتمعات اليهودية وعدّة مجتمعات مسيحية تمّ تجاهلها وإهمالها طالما أنها لا تقاوم الدين الإسلامي الجديد لا سياسياً ولا عسكرياً. ممّا سمح للإسلام بالانتشار من دون بذل أي جهد أو طاقة في قتال ومقارعة الأديان التوحيدية الأقدم والمصمّمة بشكل جيّد، أو الأديان شبه التوحيدية الأخرى.
كان مأخذ الإسلام على المسيحية بأنها ديانة توحيدية خاطئة. مع ثالوثها المقدّس _والذي جعلها تبدو باشتباه كديانة بثلاثة آلهة_ زعم محمد أنّ المسيحية كانت تحريفاً لكلمة الله ولم تكن توحيدية حقيقية. أمّا النزعة التوحيدية الواضحة للإسلام منحه تقدّماً هائلاً تمثّل في تحوّل الكثير من المسيحيين إلى الإسلام. فالشعار الإسلامي "لا إله إلا الله، محمداً رسول الله" هو حجّة قوية جداً أمام النظريات والفرضيات المربكة والمتناقضة حول الثالوث المقدّس.
لذا ولكي لا نبالغ في التبسيط، علينا الاعتراف بأنّ الإسلام له طفراته الخاصّة التي هدّدته على مرّ تاريخه من الداخل _الشيعة والسنة كلاهما يمثّلان الانقسامات الأبرز في تاريخ الإسلام. وبالرغم من ذلك، حصّل الإسلام قوة كافية للتغلّب على الديانات الأخرى ودحرها خلال عملية توسيع سلطته وهيمنته بفعالية كبيرة.
العلمولوجيا أو العلموية Scientology هي شكل آخر من أشكال فيروسات "الإله" المتقدّمة، لكنه واجه حظاً عاثراً في بيئة مزدحمة مسبقاً بالفيروسات الدينية القوية والمتنافسة فيما بينها. لو أنّ المورمونية والعلموية ولدتا في بيئة أقلّ ازدحاما بالفيروسات الإلهية الشرسة، هل من الممكن أن تكونا قادرتين على اجتياح العالم؟

الأصولية... الشكل الأخبث لفيروس "الإله"
الفيروسات البيولوجية تقف على الحد الفاصل بين كونها فتّاكة للغاية وبين كونها ضعيفة للغاية. حيث أنّ الفيروسات الفتّاكة جداً كفيروس الإيبولا قد يقتل ضحيته بسرعة خارقة لدرجة أنه قد لا يجد الوقت الكافي للانتقال إلى ضحية أخرى. بالمقابل، الفيروسات المضعّفة، كلقاح الجدري، قد يكون محلولاً جداً لدرجة أنه لا يستطيع التكاثر.
فيروسات "الإله" تعاني من نفس المشكلة. الأصولية هي الوجه الأكثر خبثاً للدين. وبشكل عام يجب السيطرة عليه بشكل دائم للتقليل من أضراره، عوائقه، انقساماته، أو حتى مخاطر قتله للمجتمع المضيف. من الشائع أكثر أن تنفلت الأصولية من عقالها عندما يكون فيروس الإله معرّضاً للخطر أو للهجوم أو أنه في حالة توسّع وانتشار. وبالتالي، قد تكون الأصولية تدافع عن الدين من الأعداد الخطيرين، أو يمكن لها أن تخلق القدرة والإمكانية للتوسّع ودحر الأديان الأخرى. بإمكان الأصولية أيضاً إطلاق ديانتها الخاصة بها والتسبّب بدمار هائل. الثورة الإيرانية التي قامت عام 1978 أدّت لانتصار الشيعة في إيران والإطاحة بحكم الشاه. ما أن تمّ تحقيق ذلك، استهلكت هذه الثورة المجتمع وكافة إمكانياته إضافةً إلى حياة أولئك الذين عارضوها.
عندما تتمكّن الأصولية من السيطرة وفرض هيمنتها، يتمّ فرض السلوك الصارم، والانحراف تتمّ معالجته بالعقوبات السريعة. أخيراً تمكّنت غيران من إرجاع المارد الأصولي إلى القمقم في أوائل التسعينيات، لكنها تفقد السيطرة من حين لآخر على ذلك المارد.
يمكن ملاحظة الأصولية كالتهاب أو إنتان. فالجهاز المنعي عند البشر يستخدم للالتهابات كأداة لمكافحة العدوى. لسوء الحظ، قد تستمرّ الالتهابات في بعض الحالات لفترات طويلة بعد زوال الخطر. الالتهابات التي لا تتمّ مراقبتها قد تسبّب حمّى القشّ، تصلّب الشرايين، والتهاب المفاصل الروماتيزمي داخل الجسم البشري. الأصولية الدينية قد تحمي الديانة الأم لبعض الوقت، لكنها قد تستمرّ حتى بعد انتهاء صلاحيتها، مسبّبةً ضرراً مباشراً للمؤسّسات، العائلات والنسيج الاجتماعي.
لا يستطيع أي مجتمع النجاة والمحافظة على استمراره بوجود أصولية متفشيّة ومنفلتة من عقالها. يجب السيطرة عليها مجدّداً ما أن يزول الخطر أو أن تصل عملية الانتشار والتوسّـع إلى نهايتها. فإذا استفحلت الأصولية وانتشرت فإنـها تستهلك المجتمـع وطاقاته. ويمكن رؤية أمثلة كثيرة على ذلك خلال فترة حكم طالبان القاسية والمنهكة في أفغانستان بعد خروج الاتحاد السوفياتي منها. بنفس الشكـل، التجربة الصينية مع الأصولية الشيوعية فيما يسمّى بالثورة الثقافية ربما أدت إلى مقتل أكثر من 30 مليون مزارع أو أكثر. فقد تمّ اتهام العديد وسوقهم إلى معسكرات إعادة التأهيل أو أعدِموا لعدم تبنّيهم معتقدات الحزب الحاكم الأصولية ومنطلقاته.
المملكة العربية السعودية كانت الوعاء الآمن الذي آوى أعنف الفيروسات الأصولية في المنطقة منذ عام 1744 عندما أقامت سلالة آل سعود تحالفاً قوياً مع الشيخ عبد الوهّاب لإنشاء مملكة الصحراء. بدأت الوهّابية كحركة إصلاحية محافظة جداً ومتشدّدة كردّة فعل على مجموعة من أشكال الفساد والبدع التي كانت تجتاح الإسلام السني خلال القرن الثامن عشر. وقد تمّ تأسيسها لتطهير الإسلام السني والتخلّص من مجموعة من التصرّفات المعيّنة كتقديس وتبجيل القديسين وأصحاب المقامات، زيارة قبور الأولياء، والزنا. لاحظ عبد الوهاب وجود حالة الانحدار الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية وفكّر بتأسيس مقاييس أو معايير صارمة وحازمة يتقيّد بها المؤمنون. وقد تمّ اتباع الوهابية وإبقاءها تحت السيطرة من قبل العائلة الحاكمة لأكثر من قرنين من الزمن.
تمّـ تسوية الخلافات منذ عقود من الزمن لتسنح لهذا الفيروس الفرصة لتوجيه وتركيز طاقاته إلى خارج المملكة العربية السعودية، طالما أنها لا تشكّل أي تهديد للنخبة الحاكمة في الداخل. لذلك، كانت السلطات السعودية متردّدة جداً لمواجهة الفيروس بشكلٍ مباشر لأنّ النظام العصبي المركزي السياسي موبوء بدرجة عالية. على سبيل المثال، كان أسامة بن لادن من الأتباع المخلصين للفكر الوهابي ومن عائلة سعودية بارزة.
تنظيم القاعدة أكثر أصوليةً من الوهابية لكنه طفرة مباشرة عن الوهابية. طالما أنّ الفكر والوهابي والقاعدة يركّزان جلّ اهتمامهما على أفغانستان أو مناطق أخرى من العالم، فبالإمكان احتمالهما. لكنّ تنظيم القاعدة قد أصبح تهديداً مباشراً للطبعة السعودية الحاكمة، والتي تواجه الآن اختباراً صعباً يتمثّل في استئصال تنظيم القاعدة والتخلّص منه من دون تأجيج نار الوهابية.
من خلال دعم الفكر الوهّابي وجهوده التبشيرية في البلدان الأخرى، الفيروس الأصولي الذي نقل عدواه إلى المجتمعات الضعيفة في كلٍ من أفغانستان وباكستان ما بعد العهد الشيوعي. لقد تحوّل الآن إلى مرض ووباء مستوطن في تلك الأقاليم.
خزّانات الفيروسات الحيوية
في الطبيعة، يوجد أماكن كثيرة حيث بإمكان الفيروس الاختباء فيها أو اللجوء إليها للبقاء فترات طويلة ثمّ الخروج فيما بعد على شكل أمراض خطيرة وأوبئة. الخفافيش تعتبر كخزّانات، إذ يمكن لفيروس الكَلَب الانتقال إلى الحيوانات الأخرى. البكتيريا المرتبطة بالأوبئة التي انتشرت خلال فترة العصور الوسطى، Y pestis، يعتقد أنها انطلقت من الجرذان التي كانت خزّانات تحمل الوباء في شرق أفريقيا الوسطى. ومن حينٍ لآخر بدا أنّ الفيروس يخرج من تلك المنطقة ويشقّ طريقه شمالاً نحو الشرق الأوسط والقارّة الأوروبية [8] في مكان ما في غرب إفريقيا، بقي فيروس الإيبولا متخفياً ثمّ خرج أخيراً، بشكلٍ عام عن طريق القردة وانتقل إلى المجتمعات الإنسانية.
في عالم البيولوجيا، غالباً ما يكون مبهماً السبب الذي يدفع جسيمات ممرضة معيّنة لاجتياح مجتمعات كاملة. لماذا نصاب بأحد أنواع الإنفلونزا هذا العام وبنوع آخر غيره في العام التالي؟ يبدو أنّ الأمر متعلّقً بالعدد الهائل لفيروسات الإنفلونزا في عدّة خزّانات مختلفة. كل فيروس مسيطر عليه بفضل العزلة الطبيعية، الافتقار للنواقل الفعّالة أو المناعة العامّة ضدّ سلالة محدّدة.
يمكن للفيروس أن يظلّ خامداً لأعوام طويلة، وخلال هذه الفترة فإنه قد يتطفّر ويتغيّر عدّة مرّات حتى تجد إحدى هذه التغيّرات طريق الخروج. لذلك، فتفشّي الأوبئة خلال القرون الوسطى قد يكون سلسة أو تواصل للجراثيم الطافرة عن الخزّانات الأفريقية الشرقية. كل واحد منها كان مختلفاً بشكلٍ كبير وكافٍ لاجتياح دفاعات أولئك الذين يقفون في طريقه.

الخزّانات الفيروسية الدينية
فيروسات "الإله" أيضاً لديها حافظات أو خزّانات. أفغانستان كانت الخزّان المثالي لاثنين من الطفرات الأصولية الدينية، حركة طالبان والقاعدة. حركة طالبان كانت طفرة محلية تتبنّى فكرة الإسلام المتشدّد بدأت كردّة فعل للفساد الواضح داخل المجتمع الأفغاني. القاعدة، كما لاحظنا من قبل، كانت أحد فروع الوهّابية في المملكة العربية السعودية. كلا الحركتين تنشدان تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية على المجتمع، والتي تحدّ من حرية المرأة وحقوقها بشكل كبير والقضاء على التأثير الغربي من خلال تحريم مشاهدة التلفزيون، التصوير، الطباعة، الشطرنج وأمور أخرى.
في حين أنّ كلا الحركتين لهما أصلاً مختلفاً، إلا أنّهما جاءتا كاستجابة أصولية متشدّدة على الفساد والانحدار المستشري وهما تمثّلان محاولتين لتنقية المجتمع وتطهير المؤمنين. وبعد مرحلة التطوّر والازدهار داخل خزّان أفغانستان، هذه الفيروسات الطفيلية والعدوانية انفلتت من عقالها وانطلقت لتنقل عدواها إلى مساحة جغرافية واسعة. ما أن خرجت من الخزّان أو الحافظة، حتى امتلكت القوة والسلطة لتضع لها قدماً في بلدان أخرى عن طريق نقل عدواها إلى الشباب الغرّ وحتى المثقفين المسلمين. تنظيم القاعدة فعّال بشكل خاص في إصابة الشبّان والأغرار. على سبيل المثال، من النادر أن تجد أحد منفّذي العمليات الانتحارية التابعين للقاعدة فوق سنّ الثلاثين.
في القرون الماضية، كانت فيروسات "الإله" تنتشر بشكل مشابه للفيروسات البيولوجية، عن طريق طرق التجارة والجيوش. اليوم، بإمكان الدين الانتشار عن طريق الشبكة العنكبوتية وأشكال أخرى من أساليب الاتصال العالمية السريعة. وبوجود هذا النظام العصبي الإلكتروني الجديد، يمكن للأصولية أن تظهر في أيّ مكان وبمعدّلات خطيرة. لم تعد هناك حاجة لطرق التجارة التقليدية أو الجيوش الجرّارة. حالات العدوى العالمية يمكن أن تحصل من أماكن أو خزّانات قصيّة لا يمكن للجيوش الغربية أو أيّة جيوش أخرى المساس بها.
كافة أشكال الأصولية الإسلامية انتشرت على نطاقٍ واسع من إنكلترا وحتى إندونيسيا. والنظام المناعي لهذه الأنواع من العدوى لم يتمّ تطويرها بعد، وكنتيجة لذلك، نرى صراع الحكومات والجماعات الدينية الأخرى وكفاحها من أجل احتواء العدوى. الرّدّ العسكري قد لا ينفع، وعلى الأرجح أنه قوّى وعزّز الأصوليين الإسلاميين. الأمر الملفت للنظر هو أنّ عملية تطوّر الأصولية الإسلامية قد استثارت واستفزّت الأصولية المسيحية، والتي مكن رؤيتها يمعايير شديدة من خلال القوّات المسلحة الأمريكية وستتم مناقشة هذه المسألة في الفصل التالي. فعندما أشار الرئيس بوش إلى الحملة "الصليبية" crusade لمجابهة الإرهاب الإسلامي، فقد اتفق بشكل إيجابي مع العديد من المسيحيين الأصوليين وبشكل سلبي مع العديد من الإسلاميين الأصوليين. وكلا الفيروسين قد –وهما يفعلان ذلك فعلاً_ يتغذّيان على بعضهما البعض.
في الولايات المتحدة، خزّانات الفيروسات الدينية تكمن داخل أمكنة معيّنة كمكتبة جيري فالويل الجامعية أو مكتب بارت روبرتسون الجامعي. خلال الخمسين سنة الأخيرة، بدا أنّ المعمدانيون الغربيون هم الخزّانات الأضخم للأصولية الدينية على الإطلاق، بالرغم من أنها موجودة بين الطوائف اليهودية والمسيحية.
في حين يبدو أنّ هذه الحزّانات واضحة للعيان، فمن الصعب توقّع أيّ منها هو الذي سينتج الفيروس الإلهي الأكثر فاعليةً. من كان ليظنّ أنه في عام 1820 جوزيف سميث مؤلّف الروايات والقصص الموهوب والبارز، أن يبتكر فيروس "المورمون" المعدي؟ من كان ليتوقّع أن حركة صغيرة بدأت في ويتينبرغ بألمانيا عام 1517 على يد مارتن لوثر ستقلب الاحتكار الكنسي الكاثوليكي الذي استمرّ مئة وعشرين عاماً في أوروبا؟
عندما يكون الدين السائد ضعيفاً، كما كانت الكاثوليكية عام 1517، قد تسنح الفرصة أمام الديانات الجديدة للظهور والبروز. العديد من الطفرات الجديدة حاولت الانفلات والظهور خلال القرن الذي سبق ظهور مارتن لوثر لكنها لم تكن على قدرٍ من القوة أو أنها كانت تفتقر للقادة السياسيين المحنّكين لنجاحها. على سبيل المثال، ابتكر جون هس فيروساً منافساً عام 1400 وأسّس الحركة المورافية. ماتت هذه الحركة ببطء وبشكل تدريجي على مدى مئات السنوات وكان لها التأثير البالغ على مارتن لوثر، لكنها لم تخرج عن السيطرة لتتحوّل إلى مذهب أو دين رئيسي [9]. وللتوضيح أكثر، عندما زار مارتن لوثر أبرشيات ساكسوني ليفصل في حالة التعليم الديني كتب في مقدّمة كتابه "المرشد الصغير في الدين": ((الرحمة! إلهي، ما هذا البؤس الشنيع الذي رأيته! العامة، وخصوصاً سكّان القرى، ليست لديهم أيّة معرفة حول الديانة المسيحية، واأسفاه! أغلب القساوسة عاجزون بالجملة ويفتقرون إلى الكفاءة اللازمة والمطلوبة للتعليم)) [10].
معظم المناطق الريفية كانت قد نضجت وحان قطافها. لذا تمكّن فيروسه الجديد وبسهولة من اجتياح معظم مناطق شمالي ألمانيا.
الماركسية هي شكلّ آخر من أشكال فيروس "الإله" القوية التي كانت قابعة لسنوات عديدة في بعض الجيوب الصغيرة في أوروبا ثمّ انفلتت من عقالها فجأةً في روسيا عام 1917، بسبب ضعف البنية السياسية لروسيا والكنيسة الأرثوذوكسية. إذ أنّ ميولها واتجاهاتها قائمة على خلفية أيديولوجية بنفس الشكل والميول التي صرّح عنها كل من يسوع وجيري فالويل. ليس للنظرية الماركسية أية براهين أو دلائل تجريبية إثبات صحتها أكثر من المورمونية. فالواجب التاريخي الماركسي كان أقرب للتصريحات الأيديولوجية الدينية. وقد حصلت الماركسية على ناقل فعّال وممتاز أدّى عمله بجدارة رائعة متمثلاً بفلاديمير لينين. كما في العديد من الحالات، عندما كان الفيروس في طريقه إلى فرض الهيمنة، كان ناقله الأساسي بعد وفاته _لينين_ أكثر قيمة ممّا كان خلال حياته. ستالين، الذي ألِف أساليب التلاعب الديني التي كان قد تعلّمها من خلال الكلية، أنشأ الطائفة اللينينية بعد موت لينين. فثقافة المزارعين أو الفلاحين، المحرومة من منفذها الديني التقليدي في المسيحية الأورثوذوكسية، انهالت لمشاهدة ضريح لينين. تحوّل لينين إلى إله ماركسي وتمّ عرضه أمام الجميع ليشاهدوه. إذ لم يتمّ تمجيد لا فرعون ولا قيصر بعد موتهم كما مُجّدَ لينين.

أصولية ضدّ أصولية
الأصوليـة دائماً لديها خزّان كامـن بشكلٍ هادئ وقابل للانفجار بأيّة لحظة. فإذا لم تتمّ السيطرة عليه من قبل الفيروس المسيطر أو الفيروسات الأخرى، فبإمكانه اجتياح المجتمع وفرض السيطرة عليه، مخلّفاً أسوأ العواقب.
من موقعنا كمراقبين للأصولية، فبإمكاننا رؤية هذه التطوّرات ومساعدة الناس وتثقيفهم لرؤية العواقب المترتبة عن الأصولية. ويمكننا الإشارة إلى أنه في حال تصادم فيروسين أصوليين مع بعضهما، عندها تكون نهاية ملكة التفكير العقلاني والمنطقي. فالأصولية عاجزة عن المساومة. الحركات الأصولية لا تؤمن إلا بالطريقة الوحيدة وأنّ بقية الطرق فاسدة وفاشلة وتنتهي إلى الهلاك. وبوجود هذه العدوى المستعصية، يصبح من الصعب إقامة حوار بنّاء. إضافةً إلى ذلك، فحضور الأصولية أو الفكر الأصولي يحفّز ردود الفعل الأصولية المتشدّدة من الآخرين. فالمورمونية المتشدّدة حفّزت أو استفزّت ردود الأفعال المتشدّدة الأخرى في كل من إيلينوي وميسوري بين عامي 1830-1850. ردود أفعال واستجابات أخرى مشابهة حدثت خلال الحملة الصليبية خلال الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر, حيث استفزّت الأصولية الكاثوليكية المتطرّفة للغاية الأصولية الإسلامية ممّا قاد إلى الإغارة واحتلال الأراضي المقدّسة من قبل كلا الطرفين. وظلّ الأمر على هذه الحال حتى أنهك الطرف الكاثوليكي نفسه وانسحب من فلسطين.
اليوم نحن نشاهد النزعات الأصولية الإسلامية والمسيحية وهي تحطّ من قدر بعضها البعض من على المنابر الخاصّة لكل منهما. على الأرجح ليس من قبيل الصدفة أنّه حدث تزايد ملحوظ للنشاط الأصولي بين أفراد جيش الولايات المتحدة مقابل ما يحدث في العالم الإسلامي لمواجهة الأصوليين الإسلاميين. الجماعات الأصولية كالسفارة المسيحية قد اخترقت القيادات العليا في جيش الولايات المتحدة واستحوذت على المناصب العليا في البنتاغون. فمن فضيحة التعبئة الإنجيلية التي حدثت في أكاديمية سلاح الجو الأمريكي، إلى حرم يسوع الصليبي الذي يسعى لإرسال آلاف رزم الهداية إلى الجنود في العراق. لقد بذل الإنجيليون قصارى جهودهم لاستخدام الجيش لتحقيق أغراض دينية. يقول سكوت بلوم من حرم يسوع الصليبي في مقطع فيديو ترويجي: ((إنّ غرضنا في هذا الحرم من أكاديمية القوى الجوية الأمريكية هو أن نجعل من يسوع المسيح هو الموضوع الأساسي في الأكاديمية ونشر هذه الرسالة في كافة أرجاء العالم. فهُم سيكونون مبشرين برواتب حكومية عالية عندما يتخرّجون من الأكاديمية)) [11].
تسعى الأصولية غالباً لنقل عـدواها إلـى المؤسسات التي تجعل من عملية انتشارها وتوزّعها أسهل. سواءٌ جيش الـولايات المتحدة أو الإسـلاميين في الجيش الباكستانـي، فالهدف دائماً هو ضمان فعالية الترويج عن طريق استخدام المؤسّسات القائمة مسبقاً واستغلالها.

كبح جماح الفيروس الأصولي
مع مجيء طرق وأساليب البحث العلمي الحديث، تمّ فضح واكتشاف العديد من أساليب فيروس "الإله" في التلاعب والمراوغة. فلم يعد يدّعي البابا أنّ الأرض هي مركز الكون. وفي حين أنّ هناك الملايين من الناس الذين يؤمنون بالصلاة وقوّة الصلوات، إلا أنهم يفضّلون زيارة الأطباء البشريين الذين يستخدمون الطرق العلمية الحديثة في العلاج لمداواة أمراضهم والتخفيف من آلامهم. قد يزعم أتباع العلموية أنّ مقياسهم الذي يطلقون عليه اسم E-meter يخبرنا كل ما نحتاجه عن الشخص، لكنهم لا يجرؤون ولو للحظة فتح الباب أمام البحث العلمي الصارم ليلقي الضوء على مقياسهم المزعوم هذا [12]. قد لا يؤمن المعمدانيون بفكرة أنّ الكائنات البشرية تطوّرت عن حيوانات أدنى حتى وصلت في تطوّرها إلى شكلها الحالي، لكنّ نظرياتهم الخلقية لا تقارن إلا بأفكار شعب النافاهو أو الهندوس عن عملية الخلق. هذه المعاقل الإيمانية الأخيرة يمكن تقويض أسوارها عن طريق البحث العلمي.
لم تعاني أوروبا من أية كوارث أصولية منذ وفاة هتلر، كما أنّ روسيا تمكّنت من تفادي كارثة أصولية رئيسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فهذه المجتمعات تتمتّع بنظام تعليمي تربوي قائم على العلم والبحث العلمي، وحتى الآن، استطاعت أن تتفادى شرّ الإصابة بعدوى الكثير من الفيروسات الإلهية الشرسة.
في حين أننا قد لا نسلم كلياً من شرّ الموجات الأصولية، إلا أنّ الواقي والمانع الوحيد هو التربية العلمية المتينة وتدريس كافة العلوم. في الوقت الحالي، تجري هناك تجربة ملفتة للانتباه في كل من آسيا وروسيا. ففي حين أنّ الديانة الماركسية/الشيوعية قد تمّ استعبادها والتخلي عنها بشكل كبير، لم تستطع الأديان الأخرى اختراق الساحة والسيطرة على الجماهير لتملأ الفراغ الذي خلّفته الشيوعية. وهذا ليس من قبيل المصادفة، إذ أنّ الحكومات الروسية والصينية تسعى وتدأب لخلق جماهير مثقفة علمياًٍ والحفاظ عليها. كما أنّ حكومات تلك الدول تعمل لمراقبة ومقاطعة أي محاولات خارجية لنشر العدوى الدينية بين شعوبها. في البلدان الغربية حيث التربية العلمية القوية، كألمانيا، السويد، إيرلندا، هنغاريا، هولندا، نلاحظ تراجعاً ملحوظاً لآثار وعواقب الفيروسات الإلهية مهما كان نوعها [13].
التعليم هو السبب الأساسي وراء ديمومة الفيروسات الإلهية عند طالبان، المعمدانية، والكاثوليكية. فإذا لم يتمكّن الفيروس من السيطرة على التعليم العام، فإنه سيحاول توجيه المصادر من المؤسسات والمساعي الشعبية العامّة وتحويلها إلى مصادر ورؤوس أموال لتمويل المدارس والمؤسسات الأصولية. من المدارس الدينية في الباكستان إلى الإيصالات والأرصدة المالية للمدارس المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية، والحلقات الدراسية الدينية المنزلية، تسعى الأديان للسيطرة على التعليم أو فرض السيطرة على المصادر الداعمة للتعليم.

الأديان غير الإلهية: الإلحاد بصفته ديانة
يزعم البعض أنّ الإلحاد مجرّد ديانة أخرى. لكنّ ذلك يضعنا أمام إشكالية تتمثّل فيما نطلق على هؤلاء الأشخاص الذين لا يؤمنون بزيوس، ثور، الله أو حتى وحوش السباغيتي الطائرة! [14] فالإلحاد ببساطة يرى أنّه ليس هناك أي دليل على وجود الله.
كل ديانة مرّت معنا حتى الآن لديها طقوس، شعائر، كتابات ونصوص مقدّسة أو تقاليد وأعراف وتابوهات معيّنة، إلخ. إلا أنه لم يبر أي شيء من ذلك عن الإلحـاد. فليس هناك رجـال دين، أيام أعطال دينية، أو كتابات مقدّسة، ولا يوجد بين الملحدين اتفاق أو إجماع عام بشأن قواعد وتشريعات الإيمان. في الواقع، الشيء الوحيد الذي يجمعون عليه هو أنّ الله غير موجود.

الشيوعية وديانات غير إلهية أخرى
في حين أنّ الإلحاد قد لا يكون ديانة، إلا أنّ بعض الديانات غير الإلهية قد يكون لديها كتباً مقدّسة وشخصيات مؤلّهة. وكما خلق مارتن لوثر فيروس البروتستانتية، قام كارل ماركس بخلق فيروس الماركسية مستنداً على الإيمان بالحتمية التاريخية. لم يكن ماركس يمتلك أدنى دليل أو برهان على حتميته التاريخية بل كانت فكرته أشبه بإيمان المسيحيين بالقدوم الثاني للمسيح. انتقلت عدوى المسيحية إلى العديد من الأشخاص، وأصيبت بطفرات ساعدتها على البقاء والانقسام للانتقال إلى عقول الآلاف، ومن ثم الملايين. لقد تطوّرت في النهاية إلى عدة أشكال مختلفة من الماركسية انتهت جميعها في النهاية إلى نوع من الطوائف أو الشيع الشخصية كالستالينية على سبيل المثال، أو الماوية، وأشكال أخرى في كوريا، كولومبيا، كوبا، ورومانيا.
وفي حين أنّ هذه الطوائف ليست إلهية أو دينية من الناحية التقنية، إلا أنّ قاداتها وزعمائها قد جرى تأليههم بنفس الشكل الذي كان يجري فيه تأليه الفراعنة أو القياصرة. حتى أنّ الشيع والطوائف الشيوعية تعبد قاداتها بعد موتهم! فلينين مدفون في قبر متقن الصنع أشبه ما يكون بالمزار يحجّ إليه آلاف البشر كل عام. كيم إيل سونغ _دكتاتور كوريا الشمالية السابق_ مات عام 1994، لكنه يعدّ "الرئيس الأبدي الرسمي لكوريا الشمالية" حتى هذا اليوم! فهو أشبه بالإله بالنسبة للكوريين الشماليين كما كان يمثل الفرعون الميت بالنسبة للمصريين القدماء. قد يبدو الأمر مستغرباً بالنسبة للعقل الغربي تبجيل الدكتاتور الميت، لكن هل يختلف الأمر عن عبادة المسيحيين ليسوع الميت أو تبجيل الشيعة لمقام فاطمة بنت محمد أملاً في نيل رضاها وشفاعتها؟ يبدو هذين التصرفين متشابهين بشكلٍ كبير سواء أكان التبجيل للفرعون، أو الدكتاتور، أو المسيح.
يحافظ الفيروس على قوته وطاقته أو يعيد إحياء نفسه طالما أنّ الزعيم أو القائد المؤلّه مازال حياً أو تمّ تخليده بطريقة ما. فعندما يكون الزعيم المؤلّه، يتشتّت فيروس "الإله"، وقد تستغل ديانات أخرى الوضع وتحاول فرض سيطرتها ونشر فيروساتها. الكنائس البروتستانتية تسعى بجهود مالية الحصول على حصّة أو أسهم في السوق داخل أراضي ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي سابقاً لتحلّ محلّ الشيوعية وكنيسة الروس الأرثوذوكس. على سبيل المثال، أحرز شهود يهوه نجاحاً كبيراً لدرجة أنهم تمّت إحالتهم إلى المحكمة ثمّ منعهم من العمل وتحريم حركتهم في موسكو [15]. الطوائف اليهودية الحصادية Pentecostals باتت تنمو وتنتشر بشكل كبير لدرجة أنها أثارت حنق وغيظ الكنيسة الأرثوذوكسية والحكومة الروسية أيضاً. فيروس "الأرثوذوكسية" هو فيروس ضعيف، لذا نراه يستجدي مساعدات وعون السلطات السياسية لوقف الفيروسات المتطفلة الأخرى.

الديانات الطفيلية
في عالم البيولوجيا، بعض العضويات المضيفة تكون أكثر تأثراً تجاه فيروسات معينة أكثر من الفيروسات الأخرى، أمّا الطفرات المتنوّعة فلها تأثيرات مختلفة ومتفاوتة على التركيبة السكانية ككل. لهذا السبب قد تلتقط أنت فيروس البرد وزوجتك لا.
هذا الأمر شبيه تماماً فيروس "الإله". ففي حين أنه من المستبعد جداً أنه يتمكّن شهود يهوه من الوصول إلى مرحلة الدين السائد في روسيا، إلا أنّ فيروسهم بالأخص يملك القدرة لنقل العدوى لشريحة محدّدة من المجتمع، كما فعل ذلك العلمويون، الحصاديون، والمعمدانيون. هذه الفيروسات عدوانية وخبيثة جداً تقوم بنشر ذاتها والترويج لنفسها عن طريق تغيير معتقدات الضحايا والترويج للاهتداء إلى ديانات لديها أساليب أكثر طفيلية. هذه الأساليب والطرق الطفيلية تعتمد استراتيجية أفقية حيث تنتقل العدوى إلى المزيد من البشر عن طريق القفز عبر الخطوط الاجتماعية والعائلية. أمّا الطرق أو الأساليب التعايشية، من جهةٍ أخرى، فتتصف بأنها عمودية، أي أنها تنقل الفيروس من جيل لآخر. أغلب الديانات تلجاً لاستخدام كلا الأسلوبين في الترويج إلى حدٍ ما إلا أنها تركّز إلى أحد الأسلوبين أكثر من الآخر.
تميل الفيروسات الطفيلية الخبيثة إلى اختيار الأجسام المضيفة الأكثر تأثراً وحساسيةً ثمّ تتحكّم بها بطريقة دراماتيكية. لذا، من المرجح أنّ تقوم الفيروسات الطفيلية بتمزيق العائلات السليمة وتشتتها من أجل فصل الشخص المتحوّل أو المهتدي وإبعاده عن كافة الإمكانيات التي قد تقلّل من تأثير العدوى. وأفضل مثال على ذلك كنيسة التوحيد Unification Church أو الاتحاد العائلي للسلام والتوحيد العالميين Family Federation for World Peace and Unification الذي أسّسه سن ميونغ مون Sun Myung Moon، ويعرف هذا التجمّع أو الاتحاد أيضاً باسم Moonies. تطالب كنيسة التوحيد بالعفّة والامتناع عن ممارسة الجنس قبل الزواج وتصرّ على أنّ كافة الزيجات يجب الموافقة عليها _إذا لم يتمّّ ترتيبها_ من قبل الكنيسة. لذلك اختار سن ميونغ مون للزواج مئات إن لم يكن الآلاف من البشر من ثقافات مختلفة سعياً للترويج لفيروسه ونشره عبر الحدود الثقافية الحضارية.
لذا ليس من المستغرب أنّ أهمّ أسباب التبرّم والتذمّر الذي تبديه الحكومة من نشاطات شهود يهوه في روسيا هو أثرها على العائلات والمجتمع. فحسب مقالة نشرتها منظمة التسامح الديني في 25 مايو عام 2004 تقول فيها:
((وجدت المحكمة الروسية أنّ الحركة مذنبة لأنها تجبر العائلات على الانحلال، تهبط بالفرد، تنتهك حقوق وحريات المواطن، تشجّع على الانتحار أو رفض المساعدات والمعونات الطبية من خلفية دينية للحالات الصحية المتأزّمة، وتحرّض المواطنين على الامتناع عن تأدية واجباتهم والتزاماتهم المدنية التي نصّها القانون. تحت البند 14 لقانون عام 1997: أي منظمة دينية تفقد صفتها الشرعية القانونية وتمنه نشاطاتها على هذه الخلفيات)) [16].
الديانات الطفيلية تطالب أعضائها بالكثير وتفرض عليهم قيود سلوكية صارمة ومعايير ضيقة وحازمة في العلاقات مع بعضهم من جهة ومن الآخرين من جهة أخرى. وبما أنها تجذب أعضاء جدد باستمرار، يجب أن تكون عملية التلقين والإشراف مكثّفة وصارمة. فالتركيب الهيراركي للفيروس الطفيلي يتطلّب تقديم تضحيات كبيرة بالمال والوقت من قبل المصابين بعدوى ذلك الفيروس. العلموية، شهود يهوه، هار كريشنا، وكنيسة التوحيد كلها تتصرّف على هذا النحو.
الأديان التعايشية
هناك العديد من الأديان التي تتميّز بأنها أقل درجة في طفيليتها وأكثر ميلاً للتعايش. على سبيل المثال، الديانة الدرزية في لبنان وسوريا وإسرائيل هي ديانة مغلقة على نفسها أمام التأثيرات الخارجية. فهي لم تقبل أي وافدين جدد إليها أو مهتدين لأكثر من ثمانمئة سنة. فنحن هنا أمام استراتيجية عمودية، إذ يتم تناقل أفكارها من جيل لآخر وبشكل كبير ضمن العائلة أو ضمن الحدود الثقافية. هناك ديانات أخرى لها نفس القيود، كاليزيدية في العراق أو شعب الأميش في الولايات المتحدة. فإذا لم تكن مولوداً في الأصل داخل ذلك المجتمع، لا يمكنك أن تكون عضواً فيه. فإذا سمح بالاهتداء واعتناق تلك الديانة من قبل وافد خارجي، فالمطالب أو الشروط ستكون إمّا مستحيلة أو في غاية الصعوبة.
قد تحقق هذه الاستراتيجية نجاحاً كبيراً. إذ أنّ الجماعة من خلالها تستطيع الحفاظ على قوة الفيروس، وعندئذٍ، يربط الفيروس أجزاء وأفراد الجماعة ببعضهم البعض ويقرّبهم من بعضهم. الديانات التعايشية كالدرزية واليزيدية والأميش أصبت أعضائها بشكل كامل لدرجة أصبحت معها قيود الدين متجذّرة في الحياة اليومية لأعضائها. العديد من الطوائف والشيع الهندوسية يمكن اعتبارها على أنها أديان تعايشية أيضاً.

يعتمد ذلك على....
العديد من الديانات تعلب كلا الورقتين _الطفيلية والتعايشية_ معتمدة بذلك على الظروف التي تواجهها. يميل الفيروس الكاثوليكي لأن يكون تعايشيا في أنه وفي نفس الوقت يمارس تأثيرات طفيلية. فيروس "الكاثوليكية" كان يحمل سمات طفيلية قدر ما أمكنه ذلك خلال فترة احتلال أمريكا الوسطى والجنوبية في القرن السادس عشر. إذ ارتبط موت الملايين من السكان المحليين بشكل مباشر بممارسات الكهنة والمبشرين الكاثوليك في تسهيل عملية الغزو. بغضّ النظر عن الجهود البطولية التي قام بها قلّة قليلة من الكهنة كبارتولومي دي لاس كاساس [17]، فإنّ الكهنة والمبشرون الذين رافقوا الغزاة والمستعمرين المتأخّرين قاموا بتبرير عمليات التصفية والاستعباد التي ارتكبوها بحق السكان الأصليين في أمريكا. وتلك من أكثر السمات طفيلية يمكن أن يتميّز بها دين من الأديان.
طبعاً، الفيروسات والبكتيريا البيولوجية قتلت بشراً أكثر ممّا قام به الجنود أو الرهبان الكاثوليك, لكن كلاهما تصرّف بشكلٍ مزدوج ومتبادل إذ أنّ أحدهما سهّل مهمّة الآخر. فقد أظهر الباب بنديكيت بشكلٍ مفاجئ عدم إدراكه لحقيقة الدمار الذي خلّفته كنيسته في خطابه الذي وجّهه لأساقفة البرازيل في سبتمبر عام 2007:
(( ...ما الذي عناه قبول الدين المسيحي لأمم أمريكا اللاتينية والكاريبي؟ بالنسبة لهم، كان ذلك يعني معرفة المسيح والترحيب به، الرب المجهول الذي كان يبحث عنه آبائهم، من دون أن يدركوه، في عاداتهم وتقاليدهم الدينية الغنية. فالمسيح هو المخلّص الذي كانوا يتوقون إليه بصمت. في الواقع، إنّ الاعتراف بيسوع وبإنجيله لا يتضمّن في أي نقطة تغريباً للثقافات ما قبل الكولومبية، ولم يكن فرضاً لأيّ ثقافة أجنبية بديلة)) [18]
لا حاجة للقول هنا أنّ هذه الكلمات استفزّت الناس وأثارت ردود فعل عنيفة بين الجماعات المحلية وحتى بين الكهنة المحليين. كيف يمكن لأحد أن يتعامى لهذه الدرجة إلا إذا كان مصاباً بفيروس الإله على مستو عالٍ؟ حيث كان الناس يقولون أنّ اليهود كانوا ينتظرون هتلر ليريهم نجوم الظهر، وعندها يمكن أن يقال عنهم بأنهم يعيشون في الجهالة، لكن يبدو أنّ البابا قد حصل على دخول مجاني بفضل هذه التصريحات القاسية والفظّة.
اليوم وصل فيروس الكاثوليكية في أفريقيا إلى مرحلة الطفيلية. من خلال إعلانه الحرب ضدّ الواقيات الذكرية وحبوب منع الحمل، لذا نلاحظ أن فيروس "الإله" يسهّل عمل فيروس الإيدز HIV. والنتيجة هي اتباع الطرق الكاثوليكية في الزواج أو الموت جرّاء الإصابة بفيروس الإيدز. من سخرية القدر، أصبحت الكاثوليكية ضعيفة للغاية وهي في عقر دارها _إيطاليا_ حيث أنّ معدّلات الولادة فيها من بين أقل المعدّلات في العالم. إذ ينبغي على أحدهم استخدام الواقيات الذكرية أو حبوب منع الحمل في إيطاليا، أو أصبح الإيطاليون عُزّباً أجمعين.

خلاصة
يمتلك فيروس "الإله" على استراتيجيات تساعده على البقاء والانتشار. الفيروسات المتطوّرة تمتلك دفاعات أكثر فعالية من الفيروسات الأخرى، وكنتيجة لذلك، فقد صعدت لتفرض سيطرتها على غيرها من الفيروسات الأقل تطوراً. فيروسات "الإله" تتطفّر باستمرار، وقد تنفلت إحداها من عقالها وتخترق الحافظات الفيروسية في أي وقت. أفضل واقٍ يحمينا من فيروسات "الإله"، وخصوصاً التغيرات الأصولية والمتطرّفة، هو التربية العلمية. فكلّما كان التعليم مرتكزاً على الأسس والأصول العلمية، كلّما قلّت الأدوات والأساليب التي يلجأ إليها فيروس "الإله" لنشر عدواه في المجتمع.

06-19-2012, 02:19 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
حائر حر غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 343
الانضمام: May 2011
مشاركة: #4
الرد على: فيروس الاله
الفصل الثالث
الرب يحبك: عقدة الذنب المعيقة

((تحفر في الأرض بحثاً عن الجواب، حتى تدمى أصابعك، لتشبع جوعك، لترضي رغبتك. إنهم يغذّونك على الذنب، ليبقوك وضيعاً وصغيراً، بعض الرجال والأساطير التي اخترعوها، منذ ألف سنة))
[ميليسا إيثريدج، "تراث صامت Silent Legacy" أغنية من ألبوم: يس آي آم]

الآن وقد عرفنا السمات الاجتماعية والسياسية لفيروس "الإله"، يمكننا الآن أن ندقق أكثر في بعض المكوّنات الشخصية والسيكولوجية. وسنبدأ بالدور الذي تلعبه عقدة الذنب في الترويج للعديد من الأديان. وكيف أنّ الشعور بالذنب يقود سلوك الفرد ويوجّهه؟ وكيف يُستغلّ هذا الشعور لربط الناس بالفيروس؟

الأب جوزيف
عندما كنت ما أزال أمارس عملي في عيادتي الخاصة، جاء إليّ قسّ في نهاية العقد الرابع من عمره _48 سنة_ للاستشارة (سأسمّيه هنا بالأب جوزيف إلا أنّ ذلك لم يكن اسمه الحقيقي). كان قلقاً جداً وكان يشدّد كثيراً على سرية الجلسات وما يدور فيها. كان قلقاً لأنّه مارس عادة الاستمناء واستخدم مجلاّت إباحية. كان يشعر بذنبٍ كبير يثقل كاهله إلا أنه لم يستطع منع نفسه. كان قد أظهر علامات الإصابة بالاكتئاب. وبعد عدّة جلسات، اعترف أخيراً بأنه كانت تنتابه أفكار مدمّرة للذات. "أظنّ أنه سيكون من الأفضل أن أكون ميتاً على أن أفكّر بهذه الأفكار والرغبات السيئة. إذ أني كنت أفكّر فيها وأنا أخطب بالجمهور أو أقدّم استشاره للأزواج".

شعر بأنه ليس هناك أيّ أحد من الكنيسة يمكنه أن يتحدّث معه، لذا فقد سعى إليّ بنفسه. خلال استماعي إليه، كان يبدو كرجلٍ عادي وطبيعي. ذكر يفتقر لمنفذ جنسي مسموح به. كل سنوات تدريبه وتثقيفه علّمته أنّ الاستمناء والإباحية من الخطايا القاتلة. شعرت بالألم لسماعي معاناته وشعوره بالذنب. وكل ما كان يمكنني القيام به هو أن أجعله يعلم أنّ كل ما أخبرني به كان طبيعياً جداً، وأنّ الدافع الجنسي عند الذكور من البشر قويٌ للغاية وأنه ليس من الطبيعي كبته بهذا الشكل.
بعد عقد الكثير من جلسات المعالجة النفسية الصعبة، كنا قد وقعنا على صراع عنيف بين برمجته ودوافعه الطبيعية. أنا لست متأكّداً بأنه قد نجح في حلّ مشاكله لكن بعد حوالي ستة أشهر تقريباً، اتصل بي قس آخر وطلب مني تخصيص جلسات له، كان الأب جوزيف هو من أرشده إليّ. وتمّ الكشف عن سيناريو مطابق للسيناريو السابق.
كل من هذين الرجلين المخلصين والملتزمين كانا حائرين وقلقين حول أمر طبيعي جداً. فصراعاتهما، الشعور بالذنب والقلق قادتهما إلى حالة من الاكتئاب الشديد _وحتى أسوأ من ذلك. لقد سيطر الفيروس الديني على عقليهما وبرمجهما جنسياً بطريقة لم يكونا قادرين على أيجاد سبيل أو مخرج للخروج منها. لا أعرف ما الذي حدث لهما حتى هذه اللحظة منذ أن انتهت الجلسات. على الرغم من حياة كاملة من التكريس والالتزام، فقد وجداً نفسيهما بأنهما سيئين ولم يكونا جيدين كفاية. فالتصرف وفق الحاجات والدوافع الطبيعية كان كافياً بأن يدينهما في عينيهما وفي عيني الرب.

 أنت لست جيداً كفاية
((الذنب: هو معاقبة نفسك قبل أن يقوم الربّ بذلك)) [آلان كوهن]
لقد تحوّل الشعور بالذنب إلى أكبر الأدوات وأكثرها فعالية في الديانات الغربية. طبعاً، كان الشعور بالخوف موجوداً قبل اليهودية والمسيحية والإسلام بوقتٍ طويل، إلا أنّ هذه الديانات بالذات طوّرته وجعلت منه أداةً منتجة ومضخّمة للشعور بالذنب فعّالة للغاية. إنّ تطوّر الشعور بالذنب عند الفرد يمّد فيروس الإله بالطاقة. تلك الطاقة تتمثّل في أنه كلما ازداد شعورك بالذنب كلما رجعت إلى دينك أكثر ليخفّف من هذا الشعور المؤلم. فعندما يساعدك القس أو الكاهن على تجاوز شعورك بالذنب، ستشعر بشعور كبير بالراحة. حتى أنه يقرّبك أكثر من الدين ويربطك به، من أجل المرة القادمة التي ستشعر فيها بالذنب.
الذنب عبارة عن حلقة دائرية مفرغة لا نهاية لها تحافظ على هيمنة الفيروس وتمنعك من صرف طاقاتك بطرق إيجابية. والطريقة الفعلية الوحيدة للقضاء على شعورك بالذنب هي أن تستسلم بشكل نهائي للفيروس. وبعد أن تكون قد سلّمت نفسك ، وإذا استمرّ شعورك بالذنب، فهذا يعني أنك لم تسلّم نفسك نهائياً بعد. وهذه طريقة فيروسية آسرة وداعمة للفيروس. فأنت لست جيداً كفاية. كان الأب جوزيف رجلاً مخلصاً ولعلّه كان أكثر التزاماً من أيّ أحد وفي أيّ ديانة، ومع ذلك لم يكن جيداً كفاية.
منذ أن كنت في الحادية عشرة من العمر خــلال سـنوات طفولتي الأولى، كنت أصلي بحرارة للرب ليخلّصني من دوافعي ورغبتي الشديدة بالاستمناء. أهلي، الكنيسة، المدرّسين في مدرسة الأحد، وحتى أساتذة الرياضة، كانوا يشدّدون على أنّ الاستمناء سلوك خاطئ وبأنك ستذهب إلى الجحيم لقيامك بذلك. وكلّما كنت أصلي أكثر، كنت أمارس الاستمناء أكثر. حتى في مخيّم الكنيسة! بالتأكيد سيرسلني الرب إلى الجحيم فوراً، هذا إذا لم يقتلني على الفور لأني مارست عادة الاستمناء في مخيم الكنيسة! أكثر من ذلك، كنت أقوم بالاستمناء على أفكار كانت تراودني عن ابنة الواعظ المثيرة في المخيّم. وتلك كانت خطيئة قاتلة بالتأكيد.
ظلّ الأمر على هذه الحال حتى وقعت يدي على كتاب ماسترز وجونسون Masters & Johnson "الاستجابة الجنسية عند الإنسان Human Sexual Response" (1966) ولاحقاً كتاب أليكس كومفورت Alex Comfort "متعة الجنس The Joy of Sex" (1972) عندها أدركت أنّ ديني كان مخطئاً كلياً بشأن عملية الاستمناء. ما أن تخلّصت من شعوري بالذنب، سرعان ما بدأت بالتساؤل: "ما هي الأمور الأخرى التي ينظر إليها ديني نظرة خاطئة؟".
لابد أن تكون قد مررت بتجارب مماثلة بشعورك بالذنب الديني إذا كنت قد نشأت في بيئة متديّنة. الشعور الديني بالذنب بشكل عام هو أمر سلبي وستختبره عن قرب خلال رحلتك في التحرّر من فيروس الإله. المشكلة تتمثّل في أنّ البرمجة قد تكون عميقة جداً ومتمكّنة لدرجة أنك لن تدرك أو تشعر بأنك تنشّط الشعور الديني بالذنب.

 الرسائل المزدوجة في الدين
إحدى التحدّيات الكبيرة خلال فترة الرشد متعلّقة بشكل كبير بالبرمجة الفيروسية المبكّرة. فالتلقين الديني أمر مربك جداً، بالإضافة إلى مئات الرسائل المختلطة التي يتلقّاها الفرد خلال حياته. الكثير من البشر يحملون بقايا من البرمجة التي تلقّوها خلال فترة طفولتهم وبشكل يومي حتى بلغوا سنّ الرشد. هنا أورد بعض المعتقدات والأفكار التي يتعرّض لها الناس خلال فترة تدريبهم وتلقينهم المبكّرة.
• الرب يحبّك، لكنه سيرسلك إلى الجحيم إذا لم تفعل ما يأمرك به بالضبط.
• الرب يحبّك ومنحك دماغاً ذكياً لتفكّر من خلاله ولتفهم خلقه، لكنه سيعاقبك إذا طرحت أسئلة ممنوعة ومحرّمة.
• الربّ يحبك وقد منحك رغبة جنسية للاستمتاع، لكن إيّاك أن تستعملها إلا ضمن حدود خاصّة وقيود صارمة.
• الرب يحبكّ أنت وأطفالك. لكن إذا فعلت أمراً من شأنه أن يؤدّي إلى ضلالهم وابتعادهم عن جادة الحق، فإنه سينزل عليك أقسى العقوبات. [مرقص 9: 42]
• الله يحبّك وقد خلق مخلوقات جميلة هي النساء لكن لا يجب أن تستمتع معهنّ إلا عن طريق الزواج أو خلف أبواب مغلقة.
• الله يحبّكِ، لكنكِ لن تدخلي الجنة إذا لم تطيعي زوجكِ وتنسجمي مع زوجاته الأخريات.
• الله يحبّك وهو يريد منك أن تزدهر وتتحسّن أوضاعك. لكن إذا كنت فقيراً أو جائعاً، فهذا معناه أنك ارتكبت خطيئة في نظره.
• الرب يحبّك، وهو يصيبك بالمرض، الحزن، الكوارث، الفيضانات، الأعاصير، وأكثر من ذلك بكثير حتى ترى إرادته، فتندم وتتوب إليه حتى تعود للصراط المستقيم.
• الرب يحبك، وقد خلق الشيطان ليغريك ويمتحنك.
• الرب يحبك، لذلك جعل من الصعب جداً مقاومة الإغراء والبقاء على الصراط المستقيم.
• الرب يحبك، وهو يحب جميع المسيحيين. وهو يكره المسلمين، البوذيين، الهندوس، وجميع أولئك الذين ينكرونه.
• الرب يحبك، لذا عليك أن تنبذ أهلك، أولادك، جيرانك، أقاربك أو أي أحد لا يعترف به وغير مؤمن به [1].
• الرب يحبكِ، لكن إن انفصلتِ عن زوجك، فأنت دنسة. [متى 5: 31-32]
• الرب يحبك. ولذلك أرسل لك ابنه ليموت فداءً لك. الكثير من البشر ماتوا باسمه ويجب أن تكون أنت على أتمّ استعداد لتفعل نفس الشيء [2].
• الرب يحبك، لكنك ولدت غير نقي ودنس، ولن تكون نقياً أبداً من دون الله.
هذه الأنواع من الرسائل تخلق رابطاً مزدوجاً. شعوراً بأنك لن تكون جيداً كفايةً وأنّ الذنب ذنبك وحدك مهما حاولت. لهذا السبب أنت بحاجة إلى يسوع، أو الله، أو أي من الآلهة الأخرى للاعتماد عليها. ((لأنّ الجميع قد أخطأوا وهم عاجزون عن بلوغ ما يمجّد الله)) [الرسالة إلى مؤمني روما 3: 23]. يعتبر هذا الاقتباس من أقوى الفيروسات الإلهية. فهو يضع كل مؤمن في مصاف الفشل المطلق. فالله خلقك غير كامل والطريقة الوحيدة ليتحسّن شعورك بشأن نفسك هي من خلاله فقط.
فقط استمع لبضعة ثوانٍ على واعظين وخطباء على غرار بول واشر Paul Washer، واعظ معروف للشباب له آلاف من مقاطع اليوتيوب YouTubeTM. عملياً كل ثانية مع مقاطعه متركّزة على الشعور بالذنب، الخطيئة، الإدانة، والكفر. والسبيل الوحيد لنجاتك هو عن طريق اتباع تعاليمه بحذافيرها [3].
الحياة الدينية هي إحدى الانتكاسات التي تحدث في الدوائر الثابتة. لقد ولدت مخطئاً وستبقى في مستنقع الخطيئة إلى الأبد. عليك أن تسعى للمغفرة من الله الذي جعلك خطّاءً منذ لحظة ولادتك. إسعى لنيل الغفران. لتلد من جديد، لكن لا ترتكب خطيئة مرة أخرى.
عندما تخطئ، سيبدأ الأمر من جديد. عليك أن تسعى للغفران مرّةً ثانية. فالفيروس يزرع فيك شعوراً دائماً بالذنب وعدم الجدوى لا يمكن التخلّص منه نهائياً. كما جالت السيدة ماكبيث قاعات وردهات قصر دونسينان غاسلةً يديها وهي تقول "أخرجي أيتها اللطخة الملعونة"، فالدين يخلق لطخة عاطفية دائمة لا يزول أثرها أبداً.

 حلقة الذنب
أغلب الأطفال يتمّ تعليمهم الشعور بالذنب عن طريق الأهل، الأقارب أو الشخصيات ذات السلطة. هذا الإحساس الطفولي بالذنب غالباً ما يكون مرتبطاً بانعدام الأمان الأبوي أو المشاكل العاطفية أكثر من ارتباطه بأيّ سلوك سيّء من ناحية الطفل. مثل الأم التي تجعل ابنها يشعر بالذنب لأنه لم يقبّلها قبل النوم أو الجدّان اللذان يعاتبان حفيدها لعدم اتصاله بهما كل يوم. هذه الأشكال من السلوك قد تخلق إحساساً بالذنب عند الطفل يحمله معه حتى سنّ الرشد.
الدافع للتخفيف أو القضاء على الشعور بالذنب دافع قوي جداً. وكنتيجة لذلك، قد يفعل الناس عدداً من الأمور. قد يظلّون على اتصالهم بأجدادهم كل يوم حتى يبلغوا سنّ الرشد. قد لا يفوّتون فرصة واحدة في تقبيل أمهاتهم قبل النوم. قد يجدون أنفسهم يسعون لنيل موافقة أهاليهم على أيّ تصرّف سيقدمون عليه حتى في سنّ الرشد. العديد من الراشدين اكتشفوا أنّ الذنب الذي يشعرون به آتٍ من خلال عملية تدريب أو برمجة غير مناسبة خلال طفولتهم. أي عيادة للمعالجة النفسية نلاحظ أنها مليئة بالأشخاص الذين يتعلّمون طرق وأساليب التعامل مع شعورهم الطفولي بالذنب. الذنب هو عبارة عن قوة سيكولوجية بالغة القوة، والدافع لتخفيف الشعور بالذنب قد يحفّز سلوكاً ما لأعوام، هذا إذا لم يكن لحياة كاملة. إنّ فهم دافع التخفيف من الشعور بالذنب سيساعدنا على فهم قوّة الدين.

 حلقة الذنب الدينية
مارتن لوثر نفسه كان قد كافح ضدّ حلقة الشعور بالذنب المفرغة عنده. إلا أنّ حلّه _في الوقت الذي كان يعتبر فيه بأنّه كان مبتكراً_ لم يقدّم الكثير لتخفيف الشعور بالذنب لدى الملايين من أتباعه على مرّ القرون. أمّا حلّ لوثر كان في رؤية الخلاص عن طريق الإيمان، وليس الأعمال. وكان هذا الحلّ ردّة فعل على ميل الكاثوليك إلى الاعتقاد أنه يمكن للإنسان أن ينغمس في اللذّات أو يقوم بأعمال خيّرة لتحقيق الخلاص. تركيز لوثر على الإيمان جعل الأمور أسوأ ممّا هي عليه بما أنّه من الصعب للغاية تقييم الإيمان وقياسه. من السهل الحفاظ على سجلّ بالأعمال الخيرة أو الاعتقاد بأنّ إلهاً ما يمتلك قسماً للمحاسبة والإحصاء. لكن ما معنى الإيمان؟ كيف لك أن تعلم أنّ المسيح قد أنزل بركته عليك؟ كان مبدأ لوثر في التبرير _في حين أنّه صُمِّمَ لتخفيف شعوره بالذنب وتقديم طريق صحيح ومستقيم إلى الرب_ أشبه بالمستنقع المجهول. فيقينه في الخلاص سمح له بأن يدين اليهود ويشجّع على محاكمتهم وقمع ثورة الفلاّحين عام 1524-25. من الواضح أنه لم يشعر بالذنب لذلك. من سوء حظّ أتباعه، كان الحلّ الذي قدّمه لوثر لم ينتج سوى مزيداً من الشكّ حول الخلاص والشعور بالذنب المشوب بالنقص.
لكي نسوق مثالاً معاصراً هنا، علينا إلقاء نظرة إلى الأم تيريزا. خلال حياتها، كان ينظر إليها على أنها مثالاً يحتذي به للإيمان والورع الديني. أمّا بعد وفاتها، تكشف رسائلها عن امرأة قلقة، ممزّقة بشعورها بالذنب. إذن إذا لم يكن القدّيس المستقبلي حرّاً من الشعور بالذنب، فما هو شأن الأتباع العاديين ومصيرهم؟
هل سبق أن لاحظت بأنّ المدمن، الكحولي، المدخّن و/أو المدمن الديني يشعر بشكل عام بالذنب ويندم على الفعل الذي اقترفه أو اقترفته لكن سرعان ما يذهبون لاقترافه مرةً ثانية؟ قد يقولون:
• لقد وعدت أبنائي أن أقلع عن التدخين. إلا أني بتّ أدخّن أكثر الآن.
• لقد أقسمت ألا أشرب الليلة الماضية، ثم نزلت إلى البار من فوري.
• لقد أقسمت لله بأني سأمضي المزيد من وقتي مع أولادي، والآن أجد نفسي أعمل لوقت إضافي أكثر كل أسبوع.
• عندما مرّروا الأطباق أمامي، شعرت بالذنب لأني لم أضع سوى عشرة دولارات في الطبق.
• لقد وعدت الرب بأني لن أمارس عادة الاستمناء مرةً ثانية، لكني مارستها مرّتين خلال هذا الأسبوع.
• أقسمت بالله بأني لن أمارس الجنس مع صديقتي حتى نتزوّج، لكنها أغرتني بجمالها، ومارسناه الليلة الماضية.
بدلاً من تغيير التصرّفات التي سبّبت الشعور بالذنب في المرتبة الأولى، غالباً ما يدفع الذنب الناس للقيام بتلك التصّرفات بشكل أكبر. كلما شعرت بذنبٍ أكبر، كلّما سعيت أكثر لتسكين شعورك بالذنب بنفس الشيء الذي حفّزه أو استثاره في المرّة الأولى. وهذا يخلق حلقة ذات تغذية رجعية لا يعود بمقدورك الإفلات منها من دون مساعدة خارجية. مثل برنامج الكمبيوتر الذي يدخل في حلقة ثمّ يتوقف عن العمل، ودماغك أيضاً يعلق في حلقة مفرغة للذنب تزيد الأمور سوءاً.
تصرّف  ذنب  توتر  سلوك  ذنب  توتر
((حلقة الذنب))

بما أنّك تحمل على عاتقك هذا الحمل العاطفي الثقيل المتمثّل بالشعور بالذنب، عندها يأتي القس، أو الكاهن، أو الحاخام وهم يحملون الوعد بالمساعدة. ما يقوم به هؤلاء هو أنهم ينجزون الأمر عن طريق كسر الحلقة ثمّ تمريرها عبر الدين وإعادتها إليك. على النحو التالي:
أنت لا تستطيع التغلّب عليها بمفردك. امنح نفسك للرب وهو سيساعدك في التغلّب عليها. ستتغلّب على ضعفك وستغفر لك خطاياك. لن تعود بحاجة لتحمّل عبء هذا الحمل الثقيل لبقية أيّام حياتك.
سلوك  ذنب  مغفرة دينية  شعور بالراحة  توتر  سلوك  ذنب  توتر  مغفرة دينية  شعور بالراحة
((حلقة الذنب الدينية))
النتيجة هي شعور مؤقّت بالراحة لكن الثمن سيكون باهظاً. فكل حلقة مفرغة (ذنب-غفران) ترسّخ الفيروس وتثبّته بشك أعمق وأعمق، ممّا يصعّب الحصول على الشعور بالراحة أكثر فأكثر.

 نوعان من الإحساس بالذنب
من الصعب رؤية الذنب باستقلال عن الدين. ولنفهم ذلك بشكل أفضل، يجب أن نلقي نظرة على نوعان مختلفان من الشعور بالذنب: الذنب الاجتماعي والذنب الديني.
أنت تشعر بالذنب الاجتماعي بسبب التربية الاجتماعية في أيّ مجتمع. الكثير من الناس يشعرون بالذنب إذا تجاوزوا أشارة مرور بشكل عرضي. كانت جدّتي تشعر بالذنب ولعدّة أيّام إذا نسيت الاتصال بأحد لتهنئته في عيد ميلاده. حتى أني قد شعرت بالذنب بسبب نسياني ذكرى أو حادثة مهمة وخاصّة. هذا الإحساس بالذنب نشعر به عندما ننتهك معيار اجتماعي معيّن _الذنب الاجتماعي.
في الكثير من الحالات، الذنب الاجتماعي ليس أفضل حالاً من الذنب الديني، إلا أنّ هناك بعض الأوقات حين يكون الذنب الاجتماعي أمراً جيداً. يكون الذنب مناسباً عندما تنتهك حقوق أحدٍ آخر. سيكون المثال واضحاً تماماً إذا قمت بخيانة أو إلحاق الأذى بأحدٍ ما عن قصد. أودّ أو آمل أنك عندها ستشعر بالذنب. فالعجز عن الشعور بالذنب في مثل هذا الموقف هو علامة على شخصية سوسيوباثية.
أمور أخرى أقل من ذلك قد تحفّز الشعور المناسب بالذنب. أيّ فعل أو تصرّف يؤذي شخصاً آخر، كالنميمة مثلاً، الخيانة أو السرقة من أحدٍ ما كل هذه الأمور التي يجب أن تثير شعوراً بالذنب المناسب والرغبة في الامتناع عن فعل ذلك مرةً أخرى. لا أريد أن تكون لي أيّ علاقة مع شخص لا يشعر بالذنب حول ذلك النمط من الأفعال. وهذا الأمر ليس له أيّ علاقة بالدين بل له علاقة بالتربية الاجتماعية الجيّدة في ثقافتنا.
بعض الأمور تقع ضمن قائمة الأمور المحفّزة للذنب فقط بالمعنى الديني، طبعاً بمعنى ديني بالتحديد. لذلك، لن تشعر بالذنب إلا إذا كنت مؤمناً أو قد لا تشعر بأنك مذنباً إذا كنت تؤمن بدين مختلف. وعادة الاستمناء هي مثال واضح عن كيفية استغلال الدين للسلوك الإنساني العادي وتوظيفه لزيادة الشعور بالذنب. المذهب الكاثوليكي يدين عادة الاستمناء، وأغلب الجماعات البروتستانتية المتشدّدة يستنكرونها بشكل مريع، وهذا ما يفعله الإسلام أيضاً. من ناحية أخرى، إذا كنت من أتباع مذهب الويكا، الكواكر أو اليونيتاريان، فلن تشعر بشيء حياله.
الاستمناء نشاط أساسي وكوني لا يمكن السيطرة عليه والتحكّم به. وحتى المتشدّد الأصولي جيمس دوبسون James Dobson، مؤسّس كنيسة التركيز على العائلة، يقرّ بأنّ حوالي 99% من المراهقين يمارسون عادة الاستمناء. فهو يعترف أنه صراع لا معنى له مع المراهقين، لكنه يزعم أنّ الاستمناء لا مكان له داخل مؤسّسة الزواج لأنه يقلّل من ممارسة الجنس عند الأزواج.
ما الهدف من تحريم أمرٍ ما لا يمكن تحريمه واقعياً، شيء ما لا يمكن مراقبته؟ الهدف هو لخلق حالة من الشعور بالذنب الديني. وبالرغم من أنه لا يمكن إيقافه وكبحه، فهو يثير حلقة الذنب التي تربط الشخص بشكل أكبر بالدين، تماماً كما شاهدنا الآن.

 قيم العائلة، الذنب والعار الدينيين
ضمن المناخ السياسي السائد في الولايات المتحدة اليوم، كثيراً ما تمّ طرح مصطلح "قيم العائلة Family Values" على الساحة. ومعنى هذه العبارة ما هو إلا عبارة عن شيفرة قابلة للتأويل المقصور أو الضيّق للعائلة أو للسلوك الجنسي. إذن، قيم العائلة لا تتضمّن زواج المثليّين. قيم العائلة تعني لا للإجهاض. إنها تعني التقشّف وعدم مناقشة أمور كتحديد الحمل مع المراهقين وأكثر من ذلك. معظم الأديان تتبنّي منظومة معيّنة من قيم العائلة، لكن غالباً لا تكون لصالح العائلة. قيم العائلة تعني، "العائلة لها قيمة كبيرة عند الفيروس". وعندما لا يكون للعائلة قيمة فيروسية كبيرة، فقد يشتّت الفيروس العائلة ويفسّخها. والتركيز هو في الحفاظ على العائلة كناقل سليم وفعّال قدر الإمكان بالنسبة للفيروس. واختيار دين مختلف عن دين عائلتك قد يعرّضك للنبذ، إذا لم يكن أسوأ. المرأة المسلمة التي تحاول تغيير دينها إلى الهندوسية قد تصبح عرضةً لما يسمّى "بجرائم الشرف". والناصري الراشد الذي يتحوّل إلى البوذية لن يعامل بنفس الشكل في العائلة مثل الأخ أو الأخت اللذين يصبحان راهبين ناصريّين. الطفل الناصري الذي يظهر ميولاً للاهتمام بالكاثوليكية قد ينال جرعة سريعة وغير سارّة من "قيم العائلة".
العار العائلي Family Shame هو الأساس لهذه الإستراتيجية الدفاعية الفيروسية. أيّ فرد من العائلة يتصرّف ويسلك سلوكاً ضدّ الفيروس يلحق العار بكامل العائلة. يتعامل الفيروس بحكم العادة مع هذا الأمر بجعل العائلة تشعر شعوراً مؤلماً بالخزيّ والعار، والذي بدوره يحفّز بقيّة العائلة للتصرّف مع هذا الحمل الضال.
يقول يسوع في إنجيل لوقا 12: 51-53
((51: أتظنون أني جئت لأرسي السلام على الأرض؟ أقول لكم: لا, بل بالأحرى الانقسام، 52: فإنه منذ الآن يكون في البيت الواحد خمسة فينقسمون: ثلاثة على اثنين، واثنان على ثلاثة، 53: فالأب ينقسم على ابنه، والابن على أبيه، والأم على بنتها، والبنت على أمها، والحماة على كنّتها، والكنّة على حماتها!))
فالنبذ من العائلة والبنية الاجتماعية هو أسلوب فعّال لترهيب أولئك يفكّرون حتى مجرّد التفكير في الخروج عن الصّفّ، وبذلك إزالة أي عدوى محتملة.
في الولايات المتحدة، العائلات المتشدّدة القوية تعزل نفسها عن أعضاء العائلة الضالّين والمعاندين. طفل المورمون الذي يصبح كاثوليكياً قد لا يجد نفسه مرحّباً به في المنزل. فاختيار فيروس آخر معناه جلب حالة من التوتّر والغمّ داخل العائلة حيث أنّ الفيروس الديني المهيمن يكافح لطرد الفيروس الديني الدخيل.
تخيّل عائلة معمدانية قويةّ ولديها ابن بالغ ضال تمّ اعتباره من أتباع الوثنية. خلال العشاء في عيد الشكر يجمع هذا الابن الوثني أفراد العائلة حول المائدة ويقول: "دعونا نصلّي جميعنا للإلهة على هذه النعمة التي منحتنا إياها خلال السنوات الماضية". ماذا سيكون ردّ فعل العائلة تجاه هذه الصلاة؟ ماذا سيحدث خلال السنوات القادمة؟ كيف سيعاملونه هو أو هي؟
الفيروس مهتمّ بقيمة العائلة من أجل الانتشار، وأيّ شيء آخر يحدث ردّ فعلٍ قوي وسلبي. العائلات تواجه أوقاتاً صعبةً للتماسك والبقاء مع بعضها عندما يصاب أحد أفراد العائلة بعدوى فيروسية قوية مخالفة.

 الأبوّة وفيروس الإله
الآباء العقلانيين يريدون أن يربّوا أولاداً متعلّمين ومتّزنين بشكلٍ جيد مع امتلاكهم ملكات وإمكانات منطقية ونقدية. لكن ما أن تحدث العدوى، لا يعود أحد من الآباء عقلانياً. وكنتيجة لذلك، الأهل غير قادرين على تعليم أبنائهم مهارات التفكير المنطقي مع وجود عدوى الدين، وخصوصاً دينهم الخاص.
كما يعلم كل أب وأم، الأولاد لديهم عقولهم الخاصّة. إنهم معرّضون لكلّ ما يقدّمه فيروس الإله في البيئة التي يعيشون فيها، وخصوصاً الفيروسات الأصولية والطائفية. أحد الكوابيس الكثيرة التي تنتاب الأهل هو أن يكون لديهم ابناً أو مراهقاً منتمياً إلى طائفة ما وتمّ حرمان العائلة منه. لا عجب في أنّ أغلب الأديان تخصّص فترة طويلة من الزمن وقسماً كبيراً من المصادر على منح الشبّان لقاحات مختلفة ضدّ الطوائف والأديان الأخرى. الكثير من مناسبات بلوغ سنّ الرشد أو دروس أيام الآحاد تدرّس النشء مفردات وألفاظ حول الدين كمعارض أو مخالف للأديان الأخرى. في طائفتي التي كنت أنتمي إليها، كان يتمّ التعميد عن طريق التغطيس بالماء. ولا أحد يدخل الجنّة إلا إذا تمّ تعميده بشكل مناسب وصحيح. كما أنهم علّمونا أنّ تعميد طفل كان أمراً غير أخلاقي (à la Catholics) بما أنّ الطفل لا يستطيع اختيار المسيح بملء إرادته. تعلّم المعمدانيون أنّك يجب أن تُعَمّدَ على أيديهم وإلا لن يكون تعميدك صحيحاً.

 تخطّي فترة المراهقة عند الآميش Rumspringa*: تلقيح فيروسي بحت
في سنّ السادسة عشر، يخرج أبناء الآميش ليعيشوا في العالم الخارجي حتى يقرّروا بأنفسهم أن يتمّ تعميدهم. بعد فترة من الجري والقفز والتجوّل في الأرجاء (تسمّى رمشبرينغا Rumspringa)، ينبغي على الشاب الذي دخل لتوّه سنّ البلوغ أو الرشد أنّ يقرّر سواءً أكان يريد أن يتعمّد أو يعيش خارج مجتمع الآميش وإلى الأبد، وتتمّ مقاطعته من قبل أفراد العائلة.
إنّ تطبيق الآميش لإستراتيجية الرمشبرينغا هو أمر في منتهى الذكاء. توم شاختمان Tom Chachtman في كتابه ((رمشبرينغا: أكون أو لا أكون من الآميش)) Rumspringa: To Be or Not To Be Amish، يكتب قائلاً:
((يعتمد الآميش استراتيجية الرمشبرينغا لتلقيح الشباب ضدّ الجاذبية القويّة للممنوع والمحرّم عن طريق إعطائهم جرعة من لقاح التجربة الدنيوية إلى حدٍ ما. كما أنّ رهانهم قائم على فكرة أنّه ليس هناك أي رابطة لاصقة قوية بالإيمان وطريقة الحياة أقوى من رابطة الاختيار الحرّ، في هذه الحالة إنّ المختار بعد الرمشبرينغا قد اختبر وشاهد بعض الطرق المتوفّرة والخيارات البديلة في العيش)) [4]
من المهمّ التنبيه إلى أنّ شاختمان يستخدم الاستعارة الفيروسية. فالآميش يدركون الحاجة لتلقين أبنائهم ويدركون أنّ مثل بعض الأنواع من التلقين، قد لا تنجح، أو قد تنقلب النيران عليهم وتتسبّب في كارثة. مع ذلك، يعتبرون أنّ هذا الأمر يستحقّ المخاطرة وإن خسروا البعض.
بالنسبة للآميش، الأولاد الذين لا يرجعون إليهم من الأفضل لهم أن يرحلوا وإلى الأبد على أن يسبّبوا لهم المشاكل بينهم. فطرد المضيف المعيوب ونبذه يحافظ على سلامة الفيروس وقوّته. إنّ حقيقة أنّ معظم أولاد الآميش غير مستعدّين كلياً للعالم الحديث تضمن بأنهم سيعودون بالتأكيد. لذلك 80-90% من الأولاد يعودون للتعميد وقضاء باقي أيام حياتهم ضمن المجتمع. قد يرى البعض أنه من قبيل القسوة والغلظة نبذ أولئك الذين لا يعودون، لكنّ هذا القلق لا علاقة له. فالمسألة هنا لا تتعلّق بالمعاملة الإنسانية للناس، بل تتعلّق بنقاوة وصفاء فيروس الآميش الإلهي. إذا كان ذلك يعني أنه يجب التضحية في البعض، فليكن ذلك. لقد اتبعت الأديان هذه الطريقة منذ قرون طويلة. النبذ، النفي والمقاطعة، جميعها ممارسات مختلفة للحفاظ على نقاوة الفيروس.
 السلوك الأبوي، الذنب والعار
((من المستحيل إقناع بعض الأولاد أنّ بابا نويل ليس موجوداً. فهم لا يفهمون العالم الواقعي بشكلٍ كامل)) [ريبولي]
الآباء يقلقون عادةً بأنهم يجب أن يقدّموا أفضل ما لديهم في عيون الآباء الآخرين. وهذا أكثر ارتباطاً بالعار من الذنب [5]. فمن الممنوع أن يظنّ القس أو الكاهن بأني كنت أربي أولادي بطريق يحيد بهم عن طريق المسيح أو الصراط المستقيم! هل يذهبون إلى مدرسة الأحد كل أسبوع؟ هل يتابعون دروس الإنجيل كلّ أسبوع؟ هل أقرأ لهم الكتب الدينية الصحيحة قبل النوم؟ فالفيروس يتغذّى على القلق، الذنب والعار ليضمن استغلال جميع المصادر المتوفّرة والمتاحة لنقل العدوى إلى الطفل.
خلال سنوات الطفولة، يمكن للآباء أن يصبحوا عبيداً فعليين للفيروس. فكل فعل أو حركة منهم تتمّ مراقبتها من قبل أعضاء الكنيسة الآخرين، أو الكاهن، مدرّسي مدرسة الأحد والأهالي الآخرين. أعظم المخاوف التي يواجهها الآباء المصابون بالعدوى هي أنّه أو أنها ستفشل في نقل العدوى إلى الأبناء بفعالية. ماذا لو كبر ولدي وترك الكنيسة؟ ماذا لو لوّثت ابنتي سمعة العائلة وحملت قبل الزواج؟ ماذا لو أنّ ابني شاذاً؟ جميع هذه الأفكار تستثير مخاوف جمّة مرتبطة بالشعور بالعار والخزيّ لأنهم خذلوا الفيروس وفشلوا في عيون الآخرين.
الكثير من المخاوف الأبوية تتركّز على مشاعر العار والذنب المتعلّقة بالجنس. بأيّ حال، بدل إجراء نقاشات مفتوحة وصريحة عن الجنس والتناسل، غالباً لا يكون هناك أيّة نقاشات على الإطلاق. فالذنب المرتبط بالجنس قويٌ جداً داخل العديد من العائلات المتديّنة والمتشدّدة لدرجة أنه يشكّل عقبة أمام حدوث نقاش عقلاني مفتوح بين الأهل والابن. فكلّما شعر الأهل بذنب أكبر، كلّما كانوا أعجز عن التواصل الفعلي مع الابن حول موضوع الجنس. هذه إحدى النتائج العرضية للدين المعادي للجنس، والذي سنناقشه خلال الفصل الخامس.
علينا أن نتذكّر أنّ الفيروس لا يملك عقلاً أو إرادة خاصّة به، فهمّه الأول والوحيد هو أن يضمن استمراره وانتشاره واستغلاله جميع المصادر الضرورية المتاحة لتحقيق هدفه، بنفس الطريقة التي يقوم فيها الفيروس أو الطفيلي الحي بذلك. كلّما ازدادت شدّة عدوى الأهل، كلّما كان بمقدور الفيروس سرقة مصادر أكثر خدمةً لعملية انتشاره. أغلب الفيروسات الدينية تتغذّى على الذنب، مع أنها تدّعي عكس ذلك. وكلّما كان الإحساس بالذنب أكبر، كلّما ازداد عدد الآباء المستعدّين لصرف المصادر اللازمة لضمان نقل العدوى إلى أطفالهم بالكامل. المصدر المخصّص النهائي يتمثّل في عملية التدريس المنزلي أو مدارس التعليم الدينية. لا أقصد هنا أنّ التعليم المنزلي أو المدارس الخاصّة هي أمر سيء، بل هي إحدى الطرق التي يضمن فيها الأهل المعرّضون للإحساس بالذنب بأنهم لن يخذلوا الفيروس. الرب يراقب باستمرار، لذا من الأفضل لك أن تفعل كل ما باستطاعتك لضمان أنّ باقي الفيروسات الأخرى أو النزعات العلمانية لا تؤثّر على أولادك.


 العائلة الكبيرة والأولاد
((الدين أشبه بالاضطراب العصبي خلال الطفولة)) [سيغموند فرويد]
إنّ عملية التربية قد تكون صعبة، وخصوصاً إذا كان لديك أهل، أجداد، عمّات وأعمام، وخالات وأخوال يراقبونك ويتتبّعونك ويُسمِعونَك كلمات شتى على غرار: "متى سيتمّ تعميده؟" "سيدخل المدرسة اليهودية، أليس كذلك؟" "أنا متأكّد بأنها ستنجح أكثر في مدرسة تحضيرية مسيحية؟" "أنت لن تدع جدّتك الكاثوليكية ترسله إلى مدرسة الأبرشية، أليس كذلك؟ فنحن لدينا مدرسة معمدانية أفضل بكثير هنا في البلدة".
ليس هناك طريقة سهلة في التعامل مع هذا التدخّل إلا عن طريق جعل أولئك الموجودون حولك يعلمون برأيك حول الدين وماهيته وأنّ تصرّفهم هذا ليس مقبولاً بالنظر لقرابتهم وتعلّقهم بأبنائك.
صديق لي كان لديه ابناً غير متدّين قضى عطلة الصيف عند جدّيه المتشدّدين. وخلال زيارتهم، كان الابن قد تعرّض لكافة صنوف التكتيكات المخيفة، ومن ضمنها هذه الفكرة مثلاً "عندما تنزع الستائر خلال الليل، فذلك الشيطان وهو يحاول دخول غرفتك. صلِّ للرب ليبقيه بعيداً عنك". و ظلّ الابن منزعجاً لعدّة شهور بعد ذلك. هذا النمط من السلوك كان شائعاً جداً خلال فترة نشأتي وما زال مستمراً عند العديد من العائلات والكنائس اليوم. الهدف هو فتح مدخل للخوف عند الطفل لإصابة بالمزيد من العدوى الفعّالة.
في حين أنّ معظم الناس تحترم حق الأهل بتربية أبنائهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، إلا أنّ شيئاً ما يخرج الأسوأ عند الأقارب عندما تقول أمامهم بأنك تريد أن تربّي أولادك تربية غير دينية. إذ يعتبر ذلك بمثابة رخصة لهم لبذل جهودهم لتقويض ما تسعى إليه وإصابة أولادك بالعدوى بفيروسهم الإلهي. وكأنهم يرون الطفل أنّ هذا واجب عليهم بما أنّك لا تقوم بدورك الفيروسي. يحتاج الآباء غير المتديّنين لمعرفة هذه الأشكال من السلوك الفيروسي في العائلة والأصدقاء والتعامل معها بطريقة تساعد أولادهم على رؤية الفيروس بوضوح أثناء عمله.
إحدى الطرق الفعّالة تتمثّل في تعريض الأطفال لتشكيلة واسعة وكبيرة من الديانات بسنّ مبكرّة وفي أغلب الأحيان. حيث أنّ التعريض الواسع يقدّم فرصاً لمناقشة آثار الأديان المختلفة على البشر والسلوك. فالأطفال الذين خاضوا تجربة التعريض الواسع هذه يرون بأمّ أعينهم التنوّع الكبير والواسع للمعتقدات والممارسات الدينية الغريبة. عندما بلغ أطفالي سنّ العاشرة والآخر في الرابعة عشر، ذهبنا في رحلة سياحية إلى مدينة سالت ليك موطن المورمون. وقد استمرّ النقاش اللاحق للرحلة عدّة ساعات. لم أقل سوى القليل في حين أنهما كانا يتناقشان في أخذٍ وردّ حول تلك التجربة. وبمساعدة صغيرة مني، استنتجا أنّ المورمون لديهم الكثير من المعتقدات الغريبة كالتعميد بعد الوفاة، الثياب الداخلية المقدّسة، أن يصبحوا آلهة هم أنفسهم والكثير من المعتقدات الأخرى..
الامتحان هنا ليس حماية الطفل بشكل كامل من فيروسات الإله. بل هو في مساعدة الطفل على ملاحظة وتفسير السلوك الديني عند العديد من الديانات المختلفة. قد يصبح هذا بمثابة تلقيح للبشر ضدّ عدّة _أو كل_ ديانات.
بعد أن تخلّصت من سجون نشأتي، أدركت أنّ عائلتي قد فعلت كلّ شيء ممكن تقريباً لتنقل العدوى إليّ. كنّا نرتاد الكنيسة ثلاث مرات خلال الأسبوع، دراسة الكتاب المقدّس، اجتماعات الصلاة، جوقة الترتيل، معسكرات الشباب، مخيّمات الإنجيل وأكثر من ذلك. عمّتي وعمّي كانا من الكواكرز وكانت لديهم نظرة مختلفة تماماً إلى العالم. كانا محلّ شبهة عند العائلة بأكملها لأنهما كانا يرتادان كنيسة أكثر "تحرّراً".
كانا عمّي وعمّتي قد اتخذا لنفسيهما وجهة نظر محدّدة، لا يناقشان أيّة معتقدات دينية أبداً حتى سألتهما بشكل خاص عندما بلغت أواخر سنّ المراهقة. كانا منفتحين، متفهّمين ومثقّفين بشكلٍ كبير. من خلال حديثي معهم أدركت كم من الأمور لم يخبرني إياها أهلي أجدادي وأقاربي. كان هناك عالماً كاملاً من الأفكار الدينية التي لم يسبق أن سمعت عنها من قبل! ليس بمقدوري سوى أن أشكر هذان الشخصان المبجّلان لأنهما فتحا عيني على أمور كثيرة. ليس الأمور التي كانا قد أخبراني بها. بل الطريقة التي تقبّلاني فيها وتناقشا معي بها من دون أن يكونا متشدّدين ودوغمائيين. لم يسبق لي أن اختبرت ذلك مع عائلتي أو أيّ أحدٍ آخر. وكانت النتيجة حياةً منفتحة لمسائلة الدين وطرح الأسئلة الممنوعة، ومن ضمنها هذا الكتاب.

خلاصة
يستعمل الدين رسائل مختلطة كأداة لخلق حلقة من الذنب. الميل الطبيعي عند البشر للتخفيف من الشعور بالذنب يفتح الأبواب أمام الدين للولوج والتدخّل واعداً بإزالة هذا الشعور المؤلم. بما أنّ أسلوب الحيلة لا ينجح بشكل تام إلا نادراً، سرعان ما يعود الناس ليدخلوا في حلقة أخرى من حلقات الذنب ثمّ تخفيفه. وأثر الشبكة هو أن يدفع الناس للتعلّق والارتباط أكثر بالفيروس.
اعرف الدور الذي يلعبه الذنب في العدوى الدينية وتعلّم طريقة التعامل معه بسرعة. تعلّم التخلّص من بقايا الذنب الديني وآثاره وأقِم حدوداً مناسبة حول الذنب الاجتماعي. التعريض الاعتيادي والنظامي للأولاد للعديد من الديانات المختلفة قد يكون اللقاح الأفضل ضدّ الإصابة بعدوى الكثير من أنواع الفيروسات الإلهية. ناقش بانفتاح المعتقدات والممارسات الدينية المختلفة لكافّة الأديان وكُنْ واعياً لحلقة الذنب بداخلك.
**********************
06-24-2012, 09:32 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  فيروس الحوثيين وبكتيريا داعش رائد قاسم 0 526 01-11-2014, 07:24 PM
آخر رد: رائد قاسم
  هل نحتاج الى إله آخر ام تغيير صورة الاله الحالي؟ طريف سردست 9 2,871 07-18-2010, 12:39 AM
آخر رد: The Holy Man
  ثقافة الجواري: البعل (الاله) يحق له اربع جواري طريف سردست 1 788 09-12-2005, 07:20 PM
آخر رد: طريف سردست

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS