الهوية العصرية .
نشأت مشكلات المسلمين الحالية نتيجة لتصنيف الناس على أساس هوية دينية إنفرادية ، و غياب نموذج بديل يرسخ فكرة الهويات المتعددة المتداخلة للجنس البشري ، لذلك فأسوأ ما نفعله هو أن نقبل فكرة أن العالم مجرد فيدرالية للأديان و الطوائف ، لأن الهويات الدينية الإختزالية ، ستؤدي إلى تهميش المجتمع المدني ، و تقزيم المواطنين و تعبئتهم داخل صناديق طائفية منعزلة ،كذلك تؤدي إلى شيوع العنف و التصادم .
ملخص .
خلال 4 أشرطة متتالية هي ( سجن الهوية ، قبيل الطوفان ، بحار الكراهية ،و العقل الأسير ) - حاولت طرح مفهوما للهوية العصرية ، وهي هوية أراها بالضرورية تعددية ، يحتل الإسلام فيها موقعا هاما ،و لكنه لا ينفرد وحده بالمكان ، هذا المفهوم أراه حيويا كي تتجاوز المجتمعات العربية أزمتها مع الحداثة ، في تلك الأشرطة تعمدت تجزئة الموضوع حتى لا يضيع دون أن يلقى ما يقابل الجهد الذي بذل فيه من جانب ، وهو جهد لو تعلمون عظيم ، ومن جانب آخر كي أتمكن في كل شريط من تناول وجها بذاته من أوجه تطبيق الفكرة المطروحة ، أعتقد أيضا أن الفكرة المحورية هنا ليست شائعة ، على الأقل في الأدبيات المنشأة بواسطة مفكرين عرب ، هذه الفكرة تقدم من وجهة نظري بديلا لمقترب الإصلاح الديني الإسلامي ، وهو الإصلاح الذي يطرحه الغرب تحت مسمى إعادة تعريف الإسلام ، هذا الإصلاح لا أعتقد أنه سيكون ممكنا عمليا قبل سنوات قد تمتد بلا نهاية ، أيضا حاولت الإبتعاد عن أدبيات العلمانية و متلازماتها ذات الجذور الغربية ، مؤكدا أني لا أقدم هنا نظرية ما ، بل مجرد مقترب جديد نوعا لمشكلة قائمة منذ زمن طويل بلا حل ، أيضا لا أقدم حلولا عملية ، فتلك الحلول ستكون نظرية تماما و هزلية ، قبل أن يكون هناك قبولآ للإطار الذي تطرح خلاله ، هذا الموضوع أيضا ليس منتجا نهائيا ،و لكنه مشروع في طور التكوين و التلوين و التأصيل .
من تابع هذه الأشرطة و شعر بنوع من التكرار و الإلحاح على الفكرة الرئيسية سيكون مصيبا ، إني أشعر بالفعل أن الأفكار الأساسية تتوه دائما في بحر من التفاصيل قليلة الأهمية ، ليس في هذا الموضوع تحديدا ،و لكن في كل موضوع يتم طرحه ، و لهذا شعرت بأنه من المفضل أن أعرض موجزا لما طرحته حول موضوع الهوية ، مبلورا عناصره الأساسية آملآ أن يلقى عناية الزملاء .
التعددية و الهوية الأحادية .
1. إن المشكلة التي تواجه العالم اليوم ، ليست صراع الهويات و الحضارات أو تحاورها ، و لكن المشكلة في جوهرها نشأت نتيجة حتمية لتصنيف الناس على أساس هوية ثقافية إنفرادية دينية المحتوى ، و غياب نموذج بديل يرسخ فكرة الهويات المتعددة المتداخلة للجنس البشري .
2. لذلك فأسوأ ما نفعله هو أن نقبل فكرة أن العالم مجرد فيدرالية للأديان و الطوائف ، فذلك يتعارض مع تفعيل هويات أخرى يتمايز بها الناس ، مثل الهويات المتعلقة بالمهنة و الطبقة و اللغة و الجنس و الأخلاق و القوميات و العلوم و السياسات و ....، إن هذه التقسيمات المتداخلة و المتشابكة للجنس البشري تجعله أقدر على الفهم و التعايش ، أما الهويات الإختزالية و الإقصائية القائمة على أساس العقيدة الدينية ، ستؤدي إلى مزيد من ترسيخ الهوية الدينية الإقصائية ، و تهميش المجتمع المدني ، و تقزيم المواطنين و تعبئتهم داخل صناديق طائفية منعزلة ،كذلك تؤدي إلى شيوع العنف و التصادم .
3. حتى في حالة نجاح عمليات الإصلاح الديني ، فأقصى ما يمكن تحقيقه مع شيوع الهويات الدينية الشمولية ، هو هدنة تقصر أو تطول مع الآخر المنتسب بالضرورة إلى هوية مخالفة ولا سبيل للإلتقاء الحقيقي معه ، أما السبيل الفعال لتجاوز تلك التقسيمات المصمتة كما نراه هو ترسيخ المجتمع المدني و تحفيز تعدد الهويات و تداخلها .
الهوية و الكراهية .
4. إن العنف الطائفي في كل مكان الآن ، كما أن وهم الهوية المنفردة يزرع بمهارة فائقة على يد قادة متمرسين على التحريض الطائفي ، و هذا النجاح يرتبط بضرورة ربط تلك الهوية الإنفرادية بهدف قتالي عنيف ، وقوة تلك الهوية ترتبط تصاعديا بمقدار درجة الكراهية و العنف المطلوبين .
5. إن تعزيز الكراهية و العنف هو فن قتالي يعتمد على توظيف الغرائز الأساسية للإنسان ، فالهوية التي يجري تأكيدها و ترسيخها ليست هوية مفتعلة ،و لكنها بالفعل هوية أصيلة للإنسان المستهدف ،
6. لتحويل الإدراك للذات إلى أداة للكراهية ثم للقتل ، يتم المرور بمرحلتين ، الأولى طمس كل الإنتماءات و الإرتباطات الأخرى ، أما الخطوة الثانية فهي إعادة تحديد مطالب الهوية - التي تفردت الآن - في قالب قتالي ، هنا تحديدا تبدأ الكراهية في النشاط و تثمر أهدافها الدموية المتوخاة من البداية .
الهوية و الإرهاب .
7. ينظر صناع السياسات الغربية إلى المسلمين وفقا لتصنيفات الهوية الدينية ، و يرون أن مقاومة الإرهاب ( الإسلامي ) يكمن في إعادة تعريف الإسلام ، بشكل أشبه بحركة الإصلاح الديني المسيحية ، و من أجل تحقيق هذا الإصلاح ، هناك محاولات محمومة لجذب المؤسسات الدينية الإسلامية إلى مواقف متوافقة مع الأمن و السلام العالميين .
8. محاولة تجنيد رجال الدين لدعم قضايا سياسية ، هي سياسة خاطئة خاصة فيما يتعلق بالإسلام السني السائد وهذا يعود لسببين ، فالإسلام السني يتميز بعدم المركزية و خلوة من سلطة دينية عليا تتخذ القرارات الدينية الرئيسية الملزمة لعموم المؤمنين ، ثانيا خطورة تكثيف السلطة بيد رجال الدين من أجل القيام بدورهم المأمول ، فهذه السلطة يتم توظيفها لاحقا لدعم الأحزاب و الجماعات و المؤسسات الدينية .
9. تعريف (المسلم الحقيقي) بموقفه من قضية الإرهاب ، هو نوع من التسطيح الشديد لقضية الدين ، و أن موقف المسلم من التسامح و التعصب هي مواقف لا يمليها الإسلام كدين بل الهويات السياسية و الخلفيات التاريخية للمسلمين ، و التاريخ الإسلامي ليس بالقطع تاريخ الإسلام بل هو تاريخ المسلمين كبشر و شعوب .
10. مواجهة الإرهاب تمر بمقتربات عديدة ، أهمها التوقف عن التقسيم الديني للشعوب ، و علينا أن نقر أن إعلاء قيمة الحرية و التسامح كما نفهمه في الحضارة المعاصرة ، لم يكن جزءا من ماضي أي بلد أو حضارة في العالم ، و علينا أن نبحث عن حلول سياسية لمشاكل سياسية كما كنا نفعل لعشرات السنين .
11. حتى يمكن أن نتغلب على ظاهرة الإرهاب ، العالم في حاجة إلى فهم جديد لطبيعة الهوية الأصولية وحدودها ، فالأصولية تقود حتما إلى العنف ، و علينا إذا التوقف عن تصور أصولية بلا عنف ، فكل الأصوليات لابد أن تتحول إلى كيانات قتالية .
12. علينا ألا نسمح للتنظيمات التي تتبنى الإرهاب كعقيدة بالعمل السياسي ، حتى لو لم تعد تمارس الإرهاب إنتظارا للظروف المناسبة ، دون أن نحتج بقواعد الديمقراطية و آلياتها ، مثل هذه الطروحات المائعة التي يتبناها المحاظون الجدد في أمريكا ، تبريرا لمساندتهم الإخوان المسلمين في مصر أو سوريا ، لم يعد من الممكن قبولها لو كنا جادين في مقاومة الإرهاب حقيقة ، و ليس توظيف الإرهاب نفسه لصالح مشروعات سياسية.
13. علينا أن نعيد بناء المجتمع المدني في عقول الناس ليكون جزءا أساسا من الثقافة السائدة ، إن العالم كله في حاجة إلى ثورة ثقافية جديدة ، من أجل تعددية حقيقية فعالة و متفاعلة ، و المجتمع المدني التعددي لا يهيط من السماء و لكنه يتكون بالتربية السليمة و الممارسة السياسية العاقلة الرشيدة ، كما علينا أن نثمن عاليا تلك الصفات في أنفسنا و الآخرين ، ومن الضروري تعديل النظام العالمي ليتيح فرصا بشكل أكثر إنصافا ، هذا المجتمع العادل سيكون له دور جوهري في إبعادنا عن الإنقسام الحاد بين الهويات المختلفة .
14. القيادات الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تفتقد المعايير الأخلاقية العالية المطلوبة فيمن يقود الدفة الكونية ، وهناك العديدون في العالم اليوم يشاركون باراك اوباما طموحه إلى التغيير و بناء عالم جديد لأمريكا و للناس جميعا .
الهوية الدينية و العقلانية .
15. إن خلفيتنا الثقافية ( الدينية ) تؤثر بشكل عميق في تفكيرنا و سلوكنا و نوع الحياة التي نحياها ، و الأهم أنها تؤثر في إدراكنا لهويتنا ، و يمكن أن تكون هويتنا الدينية عظيمة الأهمية ، و أن تلعب دورا إيجابيا مؤثرا في تطورنا و مستقبلنا ، شريطة ألا تحتكر الوعي و الإنتماء .
16. الهوية الإسلامية في طبيعتها هوية مدنية و ليست دينية ، وهي تنتسب إلى ممارسات المسلمين التاريخية و ليس للذات الإلهية ، و من يريد بعث تلك الهوية ، عليه أن ينظر إليها كمشروع بشري و ليس دينا مقدسا ، هذه هي نقطة الإفتراق الأساسية التي تفصل الفكر العقلاني عن الفكر الأصولي السلفي .
17. إن إقصاء الدين عن المجالات الحياتية ليس افتئات على العقيدة الدينية (الإسلام في حالتنا ) ، بل لأن تلك المجالات تخرج بداية عن النسق الوظيفي للدين ( مجال عمل العقيدة ) ، كذلك فالعقيدة الدينية ليست ذات أهمية منفردة في تقرير حياتنا و هويتنا ، فهناك عوامل أخرى قد تكون أشد قوة و تأثيرا على الناس ، مثل الوطن .
18. الهوية الدينية ليست صفة متجانسة ، و يمكن أن تكون هناك تنوعات هائلة داخل الوسط الديني نفسه و حتى داخل المذهب الواحد ، و هكذا نجد أن الحتميين الثقافيين يسيئون تقدير التنوعات داخل ما يعتبرونه ثقافة واحدة ، وهم ينسبون الأصوات المتمردة عادة إلى تأثيرات و مؤامرات خارجية ، بينما هي نتاج طبيعي للتنوعات البشرية داخل نفس المجتمع .
19. الأديان لا تقف ساكنة و لكنها تتحرك و تتغير و تتأثر بالعناصر الأخرى حولها ، أما افتراض الثبات في الهوية الدينية فهو نوع من الخداع ، و من يروج لمقولة الثبات و العصمة لدين ما دون غيره ، هو مخادع يحاول التهرب من أن يدخل السباق بزورقه الممتلئ ثقوبا .
20. تتأثر الأديان كلها بالعولمة الثقافية وتتفاعل معها ، سواء تفاعلا إيجابيا خلال آليات الحرية الثقافية ، أو تأثرا سلبيا خلال المحافظة الثقافية العنيدة ، و هناك اتجاه ملحوظ لتضمين الحريات الثقافية في القيم الحضارية التي يقدرها الناس في الآخرين ،و بالتالي فلا يمكن لمجتمع الإحتفاظ بهوية واحدة متسامية ، دون أن تتعرض للغرق في تيارات من التدفقات الثقافية التي تنهمر على مدار الساعة .
الإسلام ضد الغرب .
21. الموقف المعادي من الغرب ليس متجنيا ، رغم ذلك فهو موقف خاطئ ، لأنه يعني أن يعيش الإنسان في الماضي و يستغرق فيه ، و سيكون ذلك على حساب الحاضر ، كما سوف يدفع ثمنه من فرص المستقبل .
22. (العقل الأسير) أو المستعمَر هو العقل المتهووس بالعلاقة الإرتجاعية بالغرب و جرائمه ضد المسلمين ، هذا العقل يجد صعوبة في إدراك الذات بشكل سليم ، و مثل هذا العقل لن يدرك وجوده التاريخي الفريد في هذا الكون سوى كمجرد ضحية للغرب .
23. الجوانب السلبية لظاهرة العقلية الإسيرة ضخمة و مدمرة ، و يمكن تحديدها في 3 عناصر هي : أولآ دعم الأصولية الدينية و الإرهاب العالمي ،و ثانيا تشويه قراءة التاريخ الفكري و العلمي للعالم ، و ثالثا تشجيع عداوات لا ضرورة لها لكثير من الأفكار الإنسانية العظمى .
24. هناك جهود حثيثة في العالم الإسلامي الآن لمقاومة التغريب ، و لكن هذه الجهود تتجه لإجتثاث كثير من الأفكار التي لا تنتمي للفكر الغربي تحديدا ، بل تعادي غالبا أفكارا تشكل جزءا من ماضينا الكوكبي المشترك لا يتميز به الغرب وحده، و نجد أن بروز مفاهيم الهوية الإرتجاعية و تركيزها على العداء للغرب ، تؤدي إلى محاولة تأكيد الهويات اللاغربية ، أكثر من التفكير بحرية و استكشاف مناطق أخرى هامة من الذات الإنسانية ، هذه العقلية الأسيرة تقف خلف الكثير من المصاعب التي تواجه إلتحاق المسلمين بالعالم المعاصر ، كما تساهم في تضليل ردود الأفعال التي يواجه به الغرب التحدي الإسلامي .
25. إن حقوق الإنسان بما في ذلك الحريات الدينية ، ليست غربية ،و لكنها تكونت خلال تراث كوكبي مشترك ، ورفض الإسلاميين لتلك الحريات ، هو تعبير عن تعصب الإسلاميين و تخلفهم الحضاري ،و ليس تمسكا بالقيم الإسلامية ، كما أن الشورى و غيرها من التجارب التي تهدف إلى المشاركة السياسية للشعب في اتخاذ القرارات الهامة ، هي الروافد التي غذت الفكر الديمقراطي الحديث ،و أن الديمقراطية ليست فكرة غربية بحتة ، بل هي تراث كوكبي شاركت في صنعه كل الحضارات الهامة ، بما في ذلك الحضارة الإسلامية .