هذا الموضوع متفرع من موضوع الزميل ابراهيم (لماذا خلق الله الشر؟).. وقد فضلت فتح شريط منفصل لأن موضوع الزميل ابراهيم خرج عن مساره ليتحوّل إلى شيء آخر تماماً ليس له علاقة بالنقاش الأساسي...
على كل حال فإن كلامي هذا موجه فقط للأشخاص الذين يفكرون بعقولهم لا للذين يدّعون ذلك.. سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود.. ملحدين لا أدريين وغيره وغيره... ومقدماً أقول أن كلامي لن يعجب بعض الزملاء المسلمين لأنه لا يتوائم مع الموروث الثقافي الذي يحملونه... ولهذا أعود وأقول بأن هذا الموضوع موجه فقط للذين يفكرون بعقولهم...
اسمحوا لي أولاً أن اتوجه ببعض التساؤلات التي لابد لنا أن نجيب عنها حتى نستطيع أن نصل إلى اجابات مقنعة..
مثلاً.. كيف عرفت البشرية الفرق بين الخير والشر؟؟ وبين السعادة والمعاناة؟؟
لماذا خلق الله الشر والمعاناة؟؟
هل الله عادل؟؟ ولماذا لا يكون عدل الله مطلق؟؟
لابد لنا من الإشارة بأن التاريخ الطويل للنشوء والارتقاء الذي قطعته البشرية في رحلتها كان سبباً في ظهور أعضاء الإحساس.. وقد كانت هذه الأعضاء سبباً للشعور بالكسب أو الخسارة... ولابد لهذه الرحلة لاستيعاب الكثير من المكاسب والخسائر أن تؤدي بالتدريج إلى الارتقاء بأعضاء الحواس لتسجيل وجود البهجة والألم والسعادة والمعاناة.
ولو أننا تأملنا في تاريخ الأشكال الدنيا في الحياة.. عند العتبات الأولى من رحلة الارتقاء وقارناها بأشكال الحياة العليا التي وصلت إليه اليوم.. فإننا سنكتشف أن الارتقاء في حقيقة الأمر ليس إلا ارتقاء للإدراك... فالحياة تتحرك تصاعدياً في حركة لولبية مستمرة من حالة أدنى من الإدراك إلى حالة أعلى.. مع الصقل المستمر لقدرات الوعي والإدراك...
إن الوعي بالكسب والخسارة يكون خاملاً وخفياً عند البداية... ولا نستطيع أن نحدد مكاناً أو مركزاً معيناً لهذا الوعي والإدراك في تشريح المخلوقات الأولية.. لكننا نعلم أنه من خلال ردود فعلها للعناصر والظروف المحيطة بها أن لها نوعاً من الوعي الخفي.. وهذا الوعي الخفي هو الذي يستعمله الخالق تعالى لإيجاد نوع من الإدراك في الحياة.. وقد قطع هذا الإدراك رحلة طويلة في مسيرة الارتقاء والتطور وصارت له مراكز في الكائنات الحية.. وهذه المراكز هي التي ترسبت فيما نعلم عنه الآن أنه مراكز الحواس.. وعلى ذلك فإن خلْق المخ لا يمكن أن يكون منفصلاً عن هذا التطور في الحواس... فلن يكون لتطوير أعضاء الإحساس معنى بغير تطوير مقابل لجهاز عصبي مركزي ليترجم الإشارات التي ترسلها الأعضاء الحسية ويحولها إلى مشاعر كسب أو خسارة.. معاناة أو سعادة... لذا فإنه من الواضح أن المخ قد تكون في تناظر تام مع نظام الإحساس الأساسي.. وكلما تطور الوجدان والشعور كلما زادت حدة الشعور بالمكسب والخسارة التي تشعر بها المراكز العصبية المعينة.. فتترجم الإحساس بالخسارة إلى شعور بالألم والمعاناة.. وتترجم الإحساس بالكسب إلى بهجة وسعادة... وكلما قل الإدراك والشعوركلما قل أيضاً الشعور بالمعاناة والألم وينطبق نفس الأمر على الشعور بالسعادة... وبالتالي فإن الأجهزة الحسية التي تزود الكائن بشعور البهجة والألم لا يمكن الاستغناء عنها... ومن المؤكد أنه إذا قلت القدرة على الإحساس بالألم والمعاناة لدى أي كائن حي تقل أيضاً القدرة على الإحساس بالبهجة والسعادة بنفس القدر عند نفس الكائن... ومن الواضح أن القدرتين متساويتان تماماً في دفع عجلة التطور.. وكلاهما على نفس القدر من الأهمية.. إذ لا يمكن إلغاء إحدى القدرتين دون الأخرى.. الأمر الذي يخل تماماً بفاعلية النظام الخلاق الذي يعمل على التطور والتقدم.
فليسمح لي الزملاء أن اتحدث عن هذا الموضوع من وجهة النظر القرآنية لبعض الوقت.. إذ لا بد لنا أن نؤكد على حقيقة هامة ذكرها القرآن بهذا الخصوص.. فالله تعالى يؤكد في القرآن أنه لم يخلق المعاناة كحالة مستقلة قائمة بذاتها.. ولكن كمقابل لابد منه ولا يمكن الاستغناء عنه للراحة والبهجة.. فغياب البهجة هو معاناة.. والمعاناة هي بمثابة الظل للبهجة.. تماماً كما أن الظلام هو الظل الذي يسببه غياب النور.
إذا كانت هناك حياة فلابد أن يكون هناك موت.. يقف كل منهما على أقصى طرفي قطبين وفيما بينهما درجات متنوعة من الظلال لا حصر لها... وكلما ابتعدنا عن طرف الموت فإننا نقترب بالتدريج من طرف الحياة الذي يمثل الشعور بالسعادة... وكلما ابتعدنا عن طرف الحياة فإننا نقترب نحو الموت باحساس من الألم والمعاناة.. إن هذا هو المفتاح اللازم لفهم الصراع من أجل البقاء الذي يؤدي بدوره إلى التحسين المستمر في نوعية الحياة.. ويساعدها على تحقيق الهدف الأسمى للتطور.
إن مبدأ البقاء للأصلح يلعب دوراً هاماً ومتمماً لنظام الحياة العظيم وارتقائها.. وقد ذكر القرآن الكريم هذه الظاهرة في الآيات التالية:
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الملك
إن الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في البداية (لماذا خلق الله الشر والمعاناة؟؟) قد جاءت بوضوح في هذه الآية وفي أوسع تطبيقاتها... إن الفلسفة العميقة للحياة والموت ودرجات الظلال العديدة بينهما والدور الذي تلعبه في صياغة شكل الحياة وتحسين نوعيتها.. كل ذلك تشمله الآية أعلاه... فهي تحتوي على الغاية من الخلق والحياة والموت كما يبينه الله تعالى.. فنحن نعلم أن الحياة هي فقط قيمة إيجابية.. وأن الموت ليس إلا غياب هذه الحياة.. ولا يوجد بينهما حد فاصل معين وإنما هي عملية تدريجية.. تندرج فيها الحياة في اتجاهها نحو الموت حتى تختفي.. وفي الاتجاه المعاكس أيضاً حين لا يكون للحياة وجود.. أي في حالة موت.. ثم تتجه الحياة من حالة العدم إلى حالة الوجود، فتكتسب القوة والطاقة والإدراك.. وهي تسير في طريقها نحو الموت.. هذا هو المقصد الأعظم في خطة الخلق.. وهذا يقودنا إلى السؤال التالي الذي طرحناه في البداية.. لماذا خلق الله هذا النظام للحياة؟؟؟
لقد تأخر الوقت وغالبني النعاس..
نكمل غداً بإذن الله
تحياتي
سلام