{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
ثورة أكتوبر 1917 في ميزان التاريخ
ابن سوريا غير متصل
يا حيف .. أخ ويا حيف
*****

المشاركات: 8,151
الانضمام: Dec 2001
مشاركة: #1
ثورة أكتوبر 1917 في ميزان التاريخ
مقال مهم صدر لهذا الشهر في شهرية "اللوموند ديبلوماتيك" الفرنسية.

ثورة أكتوبر 1917 في ميزان التاريخ
موشي ليفن*


ورثة غير متوقّعين للنظام القيصريّ

ظهر عدد خاص من مجلّة "التاريخ" Historia تحت عنوانٍ كبير: "جرائم الشيوعيّة". هكذا بعد ثمانين عاماً من سقوط قصر الشتاء، وكأنّ التجربة الاجتماعية التي جرت يمكن اختزالها فقط في الستالينية وفي سجون الغولاغ. المؤرّخ موشيه ليفن يبتعد عن هذه النظرة الأحاديّة ويعيد وضع الشيوعيّة السوفيتيّة في إطار التاريخ الروسي ويطلق التفكير في الدروس والعبر التي يمكن أخذها: حول نموّ وانهيار الأنظمة السياسيّة على العموم، ثمّ تلك التي تدّعي بينها الاشتراكية على وجه الخصوص.

طبعت ثورة أكتوبر 1917 [1] تاريخ القرن العشرين. وقد أثارت العديد من الجدالات والتبريرات والخطابات الإيديولوجية والتوهّمات الشعبية والأحكام النهائية التي اختلطت كلها مع الحقيقة الواقعية بحسب رأي الكثير من المراقبين. وقد كان من شأن استمرار هذه التفسيرات المتجذّرة حول الحدث المؤسِّس المتمثّل في احتلال قصر الشتاء أن ساهم في حجب الواقع عن أذهان الكثيرين. فما ساد في العام 1917 هو انهيار جميع مؤسسات الدولة (الجيش، الشرطة، أجهزة الدولة، الأوساط الاقتصادية، الرأي العام، مفهوم الحياة السياسية) إلى جانب حالةٍ من الفوضى ضغطت بقوّة على خيارات البلاشفة.

وعلى كلّ، فإن ما جرى، ولمرّات متتالية، على الساحة السوفيتية لم يكن له علاقة بالمظهر وبالخطابات، وهو ما ولّد تاريخاً مليئاً بالمفاجآت لأن إطاره كان حيّزاً حافلاً بالأزمات، وفيه تفاعلت عوامل التفكّك بعنفٍ متميّزٍ، فيما اتّخذت عوامل إعادة التركيب أشكالاً مفاجئة.

إذ يجب تحليل أيّ نظام، حالي أو سابق، من وجهة نظر قواه الحيّة، وعلى أساس قدرته أم لا، على إصلاح ذاته، ومن ثَمَّ قدرته على توفير قوّة حياتية جديدة بعد التخلّي عن توجّهات خطيرةٍ ما. وغالباً ما تكون الإيديولوجيات مُعمية لأنها تمارس امتداح الذات: إذ تحمل البشر على نسيان أن النظام الذي يعيشون في ظلّه والذي يعتبرونه أقصى منيتهم قد بدأ يعمل وفق قواعد مختلفة بتأثير من عوامل اقتصادية واجتماعية هدّامة كفيلة بأن تفرغه من جوهره كيلا تبقي منه سوى مظاهره الخارجية. ويمكن مقارنة وضع من هذا النوع بعملٍ مسرحي لا صلة فيه بين الديكور والأحداث. كأن يكون الديكور لمسرحيّة أخرى تعود إلى عصر مختلف، فيما تقودنا أحداث التمثيليّة كلّياً في اتّجاه آخر.


ثورة أكتوبر 1917

تعدّ الأزمات وأطوار التفكّك جزءاً لا يتجزّأ من مجرى التاريخ؛ وهي غالباً ما تَسِم نهاية عصرٍ ونظام. وإذا ما وجِدَت، في بعض الحالات، قوى (داخلية أو خارجية) ما، فتنفتح عندها صفحة جديدة تسمّى أحياناً "ثورة". ونلفت النظر إلى أنّ عدداً كبيراً من الكتّاب قد تحدّثوا عن ثورة "ناجزة" على يد البلاشفة، وهو ما يحمل في طياته غالباً مغزى أنهم "مذنبون" بارتكابها.

إنّ قراءة الأحداث بهذا الشكل هي بكلّ بساطة أمرٌ مثير للأسف. فهي تنمّ عن جهلٍ تام لما حدث في أيلول/سبتمبر وتشرين الأوّل/أكتوبر عام 1917، عندما تعطّل كلّ شيء في روسيا وشلّت حركة الحكم كلّياً، وكان التوجه، في جميع أرجاء البلاد، نحو ثورات عامّية على نطاقٍ واسع ونحو الحرب الأهلية، أي باختصار نحو الفوضى الشاملة. لم تكن الثورة (لأن هذا هو ما حدث فعلاً) سوى ردّ على هذه الفوضى المتنامية وعلى احتمال زوال روسيا بكلّ بساطة كدولة أمّة.


حكمٍ "منهك"

ليست الثورة، باختصار الكلام، هي التي فجّرت الأزمة، بل إن أزمة شديدة قد جرى حلّها بفضل ثورة قادها البلاشفة، وذلك بعد أن حاولت قوى أخرى أن تسيطر دون جدوى على الوضع، فلم يكن منها إلا أن عمّقتها. وبعكس بعض الأفكار المتوارثة، لم يكن النظام السياسي الرسمي، في ذلك الحين، الذي مثّلته الحكومة المؤقتة التي أٌلِّفت بعد سقوط النظام القيصري في شباط/فبراير 1917، سوى مجرّد ديكور، إذ أنّها لم تفعل شيئاً؛ بل "أُنهِكَت" وانتهت. ولم يعُد هناك سلطة دولة، إنّما مظهرٌ لها وحسب.

إن الفكرة القائلة بأن البلاشفة قد "استولوا على الحكم" (من أحدٍ ما) تتجاهل الواقع كلّياً، فلم يكن هناك من كان يمسِك بالحكم ثم أُقصي عنه. ليس فقط إن البلاشفة لم يغتصبوا الحكم من أحد، بل كان عليهم في الحقيقة إنشاء هذا الحكم. وكما كتب فلاديمير إيليتش أوليانوف، المسمّى لينين فيما بعد، لم يكن البلاشفة بدايةً يتمتّعون بأيّ شيء باستثناء شعارات مثل "الاشتراكية" و"الثورة" وإلغاء الامتيازات والألقاب (ارستقراطية، بيروقراطية). ولا ننسيَنّ أن العنصر الذي كان مفتاح نجاحهم هو الدعوة التي وجّهوها إلى الفلاحين لكي يستولوا على الأراضي التي يزرعونها ويعتبروها ملكاً لهم. وكان من شأن هذا الإجراء أن ينقذ الحكومة المؤقتة لو أنّها اتّخذته، لكنها كانت تلهث وراء ممثّلي الملاكين مقتنعةً بأن الاشتراكية مستحيلة التطبيق؛ وفي ذلك استنتاجٌ خاطئ انطلاقاً من مسلّمة صحيحة.

فعلاً إقامة الاشتراكية كانت مستحيلة؛ لكن زعماء الحكومة المؤقتة رفضوا الاقتناع بأن ثورة ديمقراطية بورجوازية كانت مستحيلة بدورها. وتلك كانت مأساة الأحزاب السياسية التي شاركت في التحالفات ما بين شباط/فبراير وتشرين الثاني نوفمبر عام 1917، فقد كانت الفوضى تتوسّع وهم لم ينجحوا لا في فهم أسبابها ولا في التحكّم فيها. أما الذين بادروا إلى العمل وانتصروا في النهاية، فقد جازفوا كثيراً ليس لأنّ "البيضَ" (الملكيين) قد بدؤوا جمع قواهم (ضدّ الحكومة المؤقتة)، بل بفعل حدّة الأزمة والموجات الجارفة التي أثارها الانقلاب الكلّي في المجتمع.

انتصر البلاشفة إذاً، غير أن الحزب المنتصر لم يتسلّم الحكم في البداية إلا شكلياً، إذ كان مجرّد عنوان. وهو لم يستطع الصمود في أتون الأحداث، إزاء التدفق الكثيف للأعضاء المحازبين الجدُد والضغط الهائل بسبب المهمّات التي كان مطلوباً إنجازُها، والتي لم تحضّره لها لا تجربته قبل الثورة، ولا طابعه الخاص. ذلك إنّ هذا الحزب كان له وجوده بكلّ بساطة، ومع ديمقراطية داخلية فعلية، لكنه لم ينجح في تجاوز الاضطرابات ليس نتيجة الحرب الأهلية (إذ خرج منها البلاشفة منتصرين)، بل بفعل الضغط الناتج عن المهمّات الإدارية العديدة وعن مهمّة بناء الدولة. ففي العام 1921، وتحديداً قبل إطلاق "السياسة الاقتصادية الجديدة"، في فترة الاستراحة بعد "شيوعية الحرب"، أدرك لينين أنّ عليه أن يبني حزباً جديداً: إذ لم تعد البلشفية، التي كانت ما تزال تبرهن على قدرتها على المبادرة أثناء الحرب الأهلية، سوى شبح.


ستالين والبلشفية

ومع انتهاء الحرب الأهلية (1921)، تغيّرت طبيعة الأحداث حتى وإن ظلّ الديكور هو نفسه. فقد تولّى البلاشفة الحكم، لكن عدداً من الكتب المخصّصة لهذا الموضوع لم يفهم أن الاستمرار في الكلام على "البلشفية" يعني التحدّث عن شبح. فالمسرحية التي جرت، وهذه تسمية قد تنطبق عليها، تمثّلت في تحوّل حزبٍ ثوري إلى طبقة من الإداريين.

وللمزيد من الدقّة، يمكن القول إنّ المواجهة وقعت بين سيناريوهين في الديكور نفسه: فتحديد روحية النظام الناشئ عن الثورة كان هو الرهان. وقد برهنتُ في كتابي "العصر السوفيتي Le Siècle soviétique" على أن المواجهة بين لينين وجوزيف ستالين كانت تعبّر عن تصادمٍ بين برنامجين سياسيين متضادّين، وليس بين تيارين داخل حزبٍ واحد. وإذا ما اقتنعنا بأنّ البلشفية الأصلية كانت قد زالت، نرى أن المعركة تواجه فيها لينين، المندفع في محاولة وضع برنامج لمعسكرٍ سياسيّ جديد ليكون متكيّفاً مع الوضع المستجدّ كلّياً بعد الحرب الأهلية، مع ستالين، الساعي لصياغة مفهومه الخاص عمّا يجب أن تكون عليه الدولة (ليكون هو على رأسها)، والتي تتأسّس على مقدماتٍ منطقيّة لا علاقة لها أبداً بالبلشفية، تقوم على نظرته إلى سلطةٍ شخصيّة اعتبرها هدفاً بحدّ ذاته وتتغذّى من مفهومه لتاريخ روسيا، أي ما عناه هذا التاريخ في الماضي وما يتطلّبه في الوقت الراهن. هذان البرنامجان اللذان تعارضا إلى حدّ المواجهة في العامين 1922 و1923، وبالدرجة الأولى أثناء البحث في إنشاء اتّحاد الجمهوريّات الاشتراكيّة السوفيتية [2]، يقصى أحدهما الآخر ولم يسعيا إلى إخفاء طابعيهما المتضادّين. وقد انتهت هذه المعركة مع مرض لينين ثم وفاته في كانون الثاني/يناير عام 1924.


الستالينية، نظامٌ غير قابل للإصلاح؟

تقدّم الستالينية [3] مثالاً ملموساً عمّا يمكن أن تعنيه شيخوخة نظامٍ ما، حتّى أنها تحمل على التساؤل عمّا إذا كان أمد حياته في هذه الحالة "مقدّراً سلفاً وراثياً" بفعل عجزه عن إصلاح نفسه. فلم يكن للستالينية إلاّ أن تكون ما كانت عليه، وقد تحتّم عليها أن تبقى نظاماً أمنياً إلى أقصى حدّ أقيم من أجل رجلٍ استبدادي وحوله؛ وهي، على ذلك، غير قابلة للإصلاح. كان ذلك هو السبب الذي جعل الستالينية، بفعل تأثير التغييرات الطارئة في المجتمع نتيجة سياسة الدولة نفسها، لا تقدر سوى أن تحفِرُ حتماً قبرها بيدها.

عندما ندرس ستالين ندرك أن كفاحه الدائم ضدّ الماضي الثوري يتأتّى من كون هذا الماضي لا يوفّر له أي أمان، وهو لم يتّبع دروسه، لا بل كان معارضاً لها كما يتبيّن من معركته من أجل إقامة اتّحاد سوفيتي شوفيني يتمثّل روسيا العظمى. وليس إذاً من المفاجئ سعيه إلى ماضٍ يلائمه على أفضل وجه، ولا حتّى كونه استحضر إرث النظام الاستبدادي لكي يحدّد الخطوط الكبرى لما يجب أن يكون عليه اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. وحده النظام القيصري أكسبه الشرعية التي كان يسعى إليها، ذلك لأن السلطة في ظلّ حكم القيصر كانت تمارس بدون وسطاء، لكونها ممنوحة ومأخوذة من الله مباشرة.

والمستغرب أكثر في المقابل كانت استعارته المنهجية للبنى الإيديولوجية التي سادت في روسيا القيصرية، وذلك خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها؛ وهو ما يكشف أنّ ستالين تغاضى عن واقعٍ كان مسلَّماً به، وهو أن هذا النظام كان قد استنفد جميع إمكانياته في زمن الحرب العالمية الأولى. ويبدو أن سيّد الكرملين كان يجهل أن النموذج الذي أراد اعتماده كان يحمل في طيّاته الأزمات التي أودت به، ناهيك عن الكلام على نموذجه المفضّل، إيفان الرهيب [4]، الذي أغرق البلاد من قبل في فترة مظلمة من الاضطرابات.

وسوف يشهد النظام الستاليني مصيراً مشابهاً في الوقت الذي بدا فيه للعالم أجمع، وللمفارقة، في قمّة مجده بعد سحق النازية. فعندها تعطّل هذا النظام ودخل في مرحلة تقهقر، في حين كان زعيمه، قائد القوّة العظمى المنتصرة يستفيد من هيبةٍ قصوى. لكنّها كانت قوّة عظمى قائمة على أسسٍ واهية، وهذا ما كان يعرفه جميع رفاق ستالين.

وهذه ناحية تستحقّ التوقف عندها. ففيما يخصّ النظام القيصري، لم يكن له أيّ منقذٍ ولا أي وريثٍ شرعيّ وكفء. أما من ناحية النظام الستاليني، فقد كان له بين مجموعة الرفاق المقرّبين من ستالين من ينتظرون بفارغ الصبر اللحظة التي يتسنّى لهم فيها الشروع في العمل لتجديد نظامٍ متعطّلٍ ومنحرف. ففي حين كان هذا النظام يندّد بالـ"كوسموبوليتيين" الذين "يعفّرون الجبين أمام الغرب"، والذي فُرِضَ فيه على كبار الموظّفين ارتداء زيٍّ موحّد، وصارت الألقاب تمنح مباشرةً من "طاولة الرتب" التي أقامها بطرس الأكبر، والذي صفّي فيه المثقّفون اليهود واغتيل بعض كبار المسؤولين (قضية لينينغراد) [5] وفتحت محاكمة القمصان البيض [6]، كان من الصعب التكهّن بأنّه ما زال أمام الاتحاد السوفيتي فترة تطوّرٍ ملموس.

وفي الواقع، فإنّ قسماً من رفاق ستالين المقرّبين، المفترض أن يكونوا ستالينيين صداميين (وبعضهم كان كذلك فعلاً!) قد تحوّلوا إلى العمل بغية التخلّص من الورطة التي تسبّب بها ستالين. بل سارعوا إلى ذلك بعد وفاته في آذار/مارس 1953، وبطريقةٍ جذرية، معتمدين سلسلة من الإصلاحات المهمّة التي تجسّدت في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي المنعقد في العام 1956.

ومرّات عديدة، صدم بعض الأشخاص الذين تماهى كرههم للاتحاد السوفيتي مع حاجة سيكولوجية صعبٌ عليّ فهمها، عندما أكّدت أن إلغاء "معسكرات العمل (الغولاغ)" كان من أوائل الإجراءات التي اعتمدتها القيادة التي خلفت ستالين. وفي الواقع يبدو لي أمراً حاسماً أن يجري التمييز بين "الغولاغ" في زمن ستالين، كمركّبٍ اقتصاديّ صناعيّ في وزارة الداخلية السوفييتية MVD، ونظام المعسكرات الذي أُصلح جذرياً والذي استمرّ في الحقبة التي أعقبت موت ستالين [7].

وفي هذا الخصوص، يمكن التساؤل عن هذا التركيز من جانب الغرب على "الغولاغ"، وعن الأسباب التي جعلته يقبل من دون أي تحفّظ الخطاب الذي يساوي بين الغولاغ والنظام السوفيتي، الذي اعتبر الشرّ المطلق. فقد رُحّب بصاحب هذه الفرضية، ألكسندر سولجنستين، وكأنّه نبيّ. والحال أنّ هذا الأخير كان يدافع عن إيديولوجية ماضوية. فهو كان يكره الاشتراكيين الديمقراطيين الذين تجمّعوا حول مجلّة "نوفي مير" ومحرّرها "ألكسندر تفاردوفسكي". وهو قد عادى معاداةً لدودة الديمقراطية الغربية. فهل كان وجود هذا المبشّر بأرثوذوكسية القرون الوسطى ضرورياً ربّما لملء الفراغ الإيديولوجي الذي ساد في أثناء الحرب الباردة؟


سقوط النظام السوفيتي

هكذا شهد الاتحاد السوفيتي طوراً آخر من التراجع في الفترة التي عرفت بفترة "الركود" والتي بدأت في أواخر ستينيات القرن الماضي. وهذا الطور يحمل على طرح سؤالٍ آخر يتعلّق بالاتّجاهات المتناقضة داخل النظام، والتي نتجت عن ظهور توجّهات تغييرية جوهرية؛ وفيه أصبحت عملية التمدين، وتحديث البلاد على مستوى واسع ظاهرتين أكيدتين. وحتّى وإن ظلّت نسبة سكان الأرياف كبيرة، فقد بات أغلب المواطنين المقيمين في المدن يتلقّون التعليم ويتآلفون مع التكنولوجيات الجديدة. كما عرف وضع المرأة أشكالاً مهمّة من التحسّن. هذه التحوّلات الهائلة في المجتمع كان لها أيضاً انعكاسات مباشرة على أبناء الريف الذين اعتنقوا خطوطها الرئيسية من دون الانتقال إلى المدن.

وكان من شأن هذه الحركة السريعة أن ولّدت مجتمعاً مدنياً جديداً نسبياً. وكانت عملية التمدين هذه "فتيّة" في حين أن الدولة البيروقراطية، المماثلة للنظام القيصريّ، كانت "هرمة". وهكذا فإنّ النظام الذي أرسي بعد العام 1917 أصيب بالهرم قبل أوانه بالرغم من فتوّته النسبية.


خطأ في التشخيص

وهذا يحيلنا إلى السؤال عن دلائل الحيوية. فالدولة السوفيتية بيروقراطية كلّياً وتطبّق مركزية متشدّدة تحت رقابة من الأعلى. ولكن في المقابل، أصبح الحكم في قمّته خاضعاً كلّياً للآلة البيروقراطية، وخصوصاً لأوساط الوزراء، التي نجحت في إرغام القمة على مساومتها؛ وهي عملت شيئاً بعد شيء كي تأتي هذه المساومة لمصلحتها، حتى أن الأمر انتهى بها إلى التوقف عن الاستجابة للأوامر. هكذا تحوّلت هذه الآلة البيروقراطية إلى وحشٍ يحرّكه منطقه الخاص دافعاً النظام إلى الهاوية.

وتكمن النقطة الجوهرية في كون المركز قد فقد سلطته وقدرته على التحكّم في الأحداث. وقد تبيّن عجزه عن القيام بما يجب أن تقوم به الأنظمة إذا أرادت تفادي الزوال، أي أن يعرف كيف يصلح نفسه، ويتكيّف مع المتغيّرات، وأن يبدّل استراتيجيته وتوجّهاته السياسية، ويكسب مؤيّدين جدد ويخوض معركة التغلّب على المعوّقات الرئيسية. لكن النظام فقد دوره السياسي ولم يعد قادراً على فرض أيّ شيءٍ وعلى أيٍّ كان. هكذا كانت قيادة البلاد رمزياً بيد ليونيد بريجنيف، الأمين العام المحتضِر، إن لم يكن الميت.

فقدان الدور السياسي، بمعنى خسارة كل قدرة على ممارسة السياسة، لم يكن مجرّد عارضٍ مرضيّ، بل كان يعني أن الأمور قد بلغت نقطة اللاعودة. وهذا ما يؤكّد الفكرة القائلة بأنّه لم يعُد هناك وجود "لحزب قائد" بمعنى التنظيم الكفيل بتطوير نشاطٍ سياسيّ ذي فعّاليّة. ولو وجد حزبٌ من هذا النوع لكان تفادى التبعيّة المؤسفة لهذه المجموعة الكبيرة من كبار المسؤولين في الإدارات المتنوّعة، والذين انحصر اهتمامهم بمصالحهم الشخصية وأشرفوا على جيشٍ ضخم من القادة المنشغلين بـ"خصخصة" الشركات التي كان من المفترض بهم إدارتها.

وراح المحلّلون والمخطّطون والكتّاب يكتبون ويحذّرون ويتكهّنون بالكارثة، لكن القمّة كانت مشلولة. وفي تلك الحقبة (أي من أواخر ستينيات القرن الماضي إلى الثمانينيات منه) اعتُبر أيّ تحرّكٍ، وفي أي اتّجاهٍ كان، قاتلاً. ولم تكن الخرافة التي انتشرت على نطاقٍ واسع، والقائلة بأنّ الاتحاد السوفيتي قد انهار بسبب الإنفاقات المرهقة الناتجة عن الحرب الباردة وعن سباق التسلّح سوى خطأٌ في التشخيص إذا قلنا الأمور بشيءٍ من الاعتدال. إذ كانت الفترة الانتقالية مع يوري أندروبوف (الأمين العام للحزب ما بين 1982 و1984) مهمّة جدّاً، لكنها وجيزة جدّاً لكي تكون مقنعة. فقد وفّرت هذه الفترة القصيرة عناصراً كان من شأنها أن تساهم في استعادة النظام لدوره السياسي وفي دفعه في اتّجاه الإصلاحات الملحّة في المجالين الاقتصادي والسياسي، حيث كانت تكمن شروط النجاح.

يزخر إذاً سقوط النظام السوفيتي بالدروس عن الأنظمة وتحوّلاتها وتبجّحاتها وشيخوختها وأزماتها. والكلام عن شيخوخة نظام يعني القول بأنّ أيّ نظامٍ يمرّ عبر مراحلٍ مختلفة يبرهن فيها الحكم عن ديناميّةٍ كبيرة ليشهد فيما بعد مراحل ركودٍ وانكفاء، تتبعها أطوار دينامية جديدة. ويمكن اعتبار هذه الفترات المختلفة كحلقات في سلسلةٍ واحدة ما دام يمكن تحديد النظام المعنيّ على هذا الأساس وما دام يمكن شفاؤه.

ويمكن فهم هذه الظواهر المتلازمة أكثر إذا أجريت المقارنة بين الاتحاد السوفيتي والصين. فمما لا شكّ فيه أنه يمكن القول بوجود توازٍ بين النظامين، فقد شهد نظام ستالين مثل نظام ماو تسي تونغ "قفزات كبيرة إلى الأمام"، أعقبها في كلا البلدين مراحل من الركود والتقهقر، ثم أشكال معيّنة من الترميم. ومع ذلك شهد النظامان مسارين تطوّريين مختلفين.

فقد غرق النظام السوفيتي، بالرغم من كونه أكثر تطوّراً بكثير، في طور ركود، ثمّ تبيّن أنه عاجزٌ عن السير في إصلاحاتٍ فعّالة رغم أنها كانت ضروريّة وكانت البلاد مستعدّة لتقبّلها. وفي المقابل عرف النظام الصيني (وهو من طبيعة النظام السوفيتي نفسه) كيف يطلق الإصلاحات اللافتة للنظر، في حين أنّه لم يكن مختلفاً كثيراً عن نظام ستالين. فقد كان، في الحقبة نفسها، أكثر قمعيةً بكثير ويتحكّم بالمجتمع بقوّةٍ أكبر من الاتحاد السوفيتي. وهذا يبرهن على أنّ المشكلة ليست مشكلة "الأنظمة الشيوعية" التي طالما جرت مهاجمتها، بل إنّها تعود إلى قدرات القيادات، في مراحلٍ معيّنة، على التغيّر أو عدم قدرتها على ذلك.


وماذا عن الاشتراكية؟

ما من شكّ في الطابع الاشتراكي، والتحرّري في مطلق الأحوال، لثورة أكتوبر. لكن في المقابل هل يمكن التحدّث عن دولة سوفيتية اشتراكية؟ يبدو من الصعب الدفاع عن هذه الفرضية. فأن تكون هذه الدولة قد حدّدت نفسها على أنّها "اشتراكية"، في ظلّ حزبٍ "شيوعي"، هو أمرٌ ليس بعيداً عن الشعارات والعناوين الرسمية. فالاشتراكية هي شكلٌ ديمقراطي يتجاوز جميع الأشكال التي يمكن أن توجَد في العالم الرأسمالي. لكن هذا لا يوضِح لنا أيّ نمطٍ من الأنظمة الاقتصادية تريد تطبيقه هذه الديمقراطية، إلاّ ما يمكن ببساطة قوله أنّ هذا النظام يجب أن يتولاّه المجتمع، من دون رأسماليين ولا بيروقراطيين.

والتأمّل في طبيعة هذه الدولة، التي ادّعت بالصوت الصارخ الاشتراكية في ظلّ قيادة حزب شيوعي، يمكن أن يوفّر عناصر الإجابة. فهذه التصريحات (على غرار الأوهام التي حاولت دولٌ أخرى أن تنشرها على الملأ) كانت ضروريّة لتشريع النظام في نظر شعبه وأمام الرأي العام العالمي. إلا أنّ هذه التصريحات ما كانت لتصمُد أمام التجربة الواقعية، ليس فقط خارج روسيا، بل في روسيا نفسها حيث قام، بعد ستالين، مجتمعٌ مدنيّ متطوّر ومثقّف، فيه عددٌ كبيرٌ من الكوادر الخبيرة في جميع المجالات، ومن ضمنها ما يتعلّق بإدارة الشؤون العامّة. ولم يكن بإمكان هذا المجتمع أن يأخذ الحديث عن "الاشتراكية" على محمل الجدّ.

وتكمن المأساة في أنّه لم تتمّ إزاحة عبء التاريخ، وما كان ذلك بالإمكان. فالطغمة البيروقراطية التي سيطرت بقوّة، والتي كانت ازدهرت في روسيا القيصرية، قد زالت ربما على صعيد الأفراد، لكن الظاهرة قد انبعثت بكلّ بساطة وفق أشكالٍ تكيّفت مع الوقائع السوفيتية.

وهنا لا يفيد التباكي. فالدولة السوفيتية تستحقّ دراسةً جدّية. إلا أنّ الأمر الواضح هو أنّها لم تكن اشتراكية. لكن الذين قاموا بثورة أكتوبر كانوا على العكس اشتراكيين، والأفكار التي آمنوا بها وطبّقوها حافظت حتّى اليوم على الحيوية التي تمتّعت بها آنذاك، حين اندفعوا، في عزّ انهيار بلدٍ وأمّة في طريقهما إلى التفكّك، وأعادوا إلى روسيا موقعها كثوّة فاعلة في التاريخ.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* استاذ شرف في جامعة بنسلفانيا (الولايات المتحدة)، مؤلف: La Formation du système soviétique, Gallimard, Paris, 1987 وايضا La Grande mutation, La Découverte, Paris, 1989. Siècle soviétique, Fayard-Le Monde diplomatique, Paris, 2003.

[1] جرى الاستيلاء على الحكم (الذي رمز إليه سقوط القصر الشتوي في بيتروغراد، أي سان بطرسبرغ، حيث أقامت الحكومة المؤقتة) في ليل 6 إلى 7 تشرين الثاني/نوفمبر بحسب التأريخ الغريغوري الذي كانت روسيا قد اعتمدته قبل أشهر. وقبل ذلك كانت تعتمد التأريخ الجولياني وبحسبه قامت ثورة البلاشفة في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر.

[2] في النقاش حول مستقبل الاتحاد السوفيتي، قامت المواجهة بين لينين (مدعوماً من القادة الأساسيين، من غريغوري زينوفييف إلى ليون تروتسكي) المؤيّد لـ"اتحادٍ" يمنح أكبر قدرٍ من الحقوق إلى الجمهوريات غير الروسية (على أن تناط فقط الدبلوماسية والشؤون العسكرية بالسلطة المركزية) مع ستالين الذي دافع عن فكرة حصر السلطات بالمركز، على ألاّ تتمتّع الجمهوريات غير الروسية إلا باستقلاليةٍ شكليّة. ومن هنا الاتهام الذي وجّهه لينين إلى ستالين بأنّه يشكّل استمرارية لشوفينية روسيا الكبرى. حول هذا الموضوع راجع:Le Siècle soviétique, pp. 35 – 51.

[3] أعني بالستالينية فقط الفترة التي كان يتولى فيها ستالين الحكم.

[4] هو إيفان الرابع (1530-1584) الذي لقّب بـ"إيفان الرهيب"، هو الأمير الكبير الأوّل من موسكو الذي توّج رسمياً كقيصر، ويعتبره البعض واحداً من الرجال الذين ساهموا في صناعة عظمة روسيا. وقد حفظ له التاريخ كونه طاغية دموياً بسبب وحشيته (وبسبب جنونه على الأرجح).

[5] في العام 1950 جرت تصفية جميع قدامى قياديي الحزب والإدارة في ليننغراد. والمتّهم الرئيسي بذلك هو ألكسي كوزنتزوف الذي عيّنه ستالين سكرتيراً لكوادر الحزب. وفي هذا المنصب كان من المحتمل أن يكون كوزنتزوف خلفاً محتملاً لستالين. وكان من بين الضحايا نائب رئيس الوزراء، قائد "غوسبلان" نيقولاي فوزنزنسكي.

[6] حول قمع اليهود السوفيتيين الذي اشتدّ بعد الحرب العالمية الثانية وبلغ أوجه في العام 1953 مع اتّهام أطباء ستالين (اليهود) بالتآمر، اقرأ:Laurent Rucker, Staline, Israël et les juifs, Presses universitaires de France, Paris, 2001.

[7] المرجع السابق:Le Siècle soviétique, pp ; 151 – 166 et 204 – 222.
11-26-2007, 08:24 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
حمزة الصمادي مبتعد
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,411
الانضمام: Nov 2006
مشاركة: #2
ثورة أكتوبر 1917 في ميزان التاريخ
اكثر من رائع

بس كانه الترجمة حرفية

صديقي طارق

شكرا
:redrose:
11-27-2007, 11:37 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
حسام يوسف غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 809
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #3
ثورة أكتوبر 1917 في ميزان التاريخ
القول بان الاستيلاء على السلطة بواسطة البلاشفة كان حتميا لفراغ السلطة هو قول خاطئ تماما
فالحكم كان لصالح تحالف من البرجوازية و الاشتراكيين
وكان التطور الطبيعى هو تحول الحكم من النظام القيصرى الماقبل راسمالى الى النظم الجمهورى الراسمالى التعددى
11-27-2007, 06:44 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
سيناتور غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,957
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #4
ثورة أكتوبر 1917 في ميزان التاريخ
شكرا طارق


مقال جميل للغاية
12-01-2007, 04:33 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
Video الإيديولوجيا وسيط ضروري للفعل في التاريخ رشيد عوبدة 0 618 08-31-2012, 04:04 AM
آخر رد: رشيد عوبدة
  ثورة بو عزيزي السلفية . بهجت 14 3,547 05-22-2012, 01:33 AM
آخر رد: بهجت
  ثورة الحمقي في بلاد ما وراء الحائط فارس اللواء 8 2,428 02-24-2012, 02:42 PM
آخر رد: فارس اللواء
  مصر تشتعل مجددا .... ثورة 27 مايو فى الطريق أحاه 70 17,527 12-18-2011, 02:18 PM
آخر رد: طنطاوي
  من ثورة الكرامة السورية.. كلمات حرة the special one 6 4,276 12-05-2011, 07:06 PM
آخر رد: the special one

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS