ليس للأكراد أصدقاء..!!



حسن خضر


لا أنكر تعاطفي مع الأكراد، فهم ضحايا تقاطعات سياسية وجغرافية وثقافية، في الإقليم وخارجه، وضحايا أنفسهم أيضاً. فباسم الوحدة التراتبية للعديد من بلدان الـمنطقة، والتي كانت على حسابهم، حُرموا من حق تقرير الـمصير، وباسم التجانس الثقافي، الذي يعني سيادة لغة وثقافة الأغلبية، حرموا من تطوير لغتهم وثقافتهم الخاصة، وعوملوا كمواطنين من الدرجة الثانية.
كانوا ضحايا لصراع القوميات والإمبراطوريات في القرن التاسع عشر، وضحايا لصراع أقطاب الحرب الباردة في القرن العشرين. ألحقت بهم القوميات التركية والفارسية والعربية القدر الأكبر من الظلـم، رغم قربهم منها بالـمعنى الحضاري وإسهامهم في ثقافتها على مدار قرون.
يعتبر صلاح الدين الأيوبي، بطبيعة الحال، أحد أكثر الأكراد شهرة في التاريخ العربي. ومع ذلك، يكاد الاعتراف بدورهم يتوّقف عند هذا الحد، رغم ما لهم من إسهامات كبيرة في الثقافة العربية الحديثة، ومن بين أسماء كثيرة لأشخاص من أصول كردية يمكن التذكير بأحمد شوقي، وعباس محمود العقّاد، ومحمود تيمور، ومعروف الرصافي، وجميل صدقي الزهاوي، ومحمد كرد علي، ناهيك عن زرياب وإبراهيم الـموصلي، أكثر الـموسيقيين شهرة في التاريخ العربي القديم، وربما ابن خلدون، أيضاً. وفي هذه الأيام يكتب سليم بركات، الشاعر والروائي الكردي ــ السوري بعربية فصيحة تكاد تكون من أفضل ما لدى العرب.
كان الأكراد ضحايا أنفسهم، أيضاً، فهم يحاربون، ويقتلون، ويُقتلون، على مدار القرون الثلاثة الـماضية، ويكررون الأخطاء نفسها بطريقة تكاد تكون قدرية، كأن أحداً لا يتعلّم من أحد. التاريخ والجغرافيا في حالات معيّنة من أفضل حلفاء الحركات الاستقلالية، وفي أحيان أخرى من أشد خصومها عداوة وفتكاً. وعدالة قضية ما ليست بالشرط الوحيد أو الكافي لانتصارها. وبالقدر نفسه فإن الانخراط في لعبة الأمم، والتحالف مع هذه القوّة أو تلك، يظل محفوفاً بالـمخاطر، بالنسبة للشعوب الصغيرة.
ومن الـمؤسف أن التاريخ والجغرافيا كانا، دائماً، ضد الأكراد، وأن عدالة قضيتهم لـم تحل دون تكبدهم لهزائم متلاحقة، وأن الحلفاء طعنوهم في الظهر الـمرّة تلو الأخرى. كانوا على مدار قرنين مع وضد: العثمانيين والروس والإيرانيين والعرب والأتراك، والبريطانيين، والأميركيين، وفي كل مرّة خذلهم هؤلاء، ودفعوا وحدهم ثمن الخديعة.
في سيرة الأكراد ما يُذكّر بالـمصير الـمحزن للفلسطينيين، الذين صعدوا طريق الآلام كشعب بعدهم بكثير، لكنهم تصرفوا، دائماً، بالطريقة نفسها، وكانوا ضحايا لأنفسهم، بقدر ما كانوا ضحايا لآخرين، وارتكبوا الأخطاء نفسها، ودفعوا الثمن بدمائهم ودموعهم، رغم عدالة قضيتهم، وعدم ترددهم في تقديم التضحيات الـمطلوبة، أو حتى الـمبالغة فيها.
وهذه نقطة إضافية تفسّر ما يجري على الحدود التركية ــ العراقية هذه الأيام، وما يتهدد كردستان العراق من مخاطر حقيقية، نتيجة لعمى البصر والبصيرة. فقد تمكن الأكراد العراقيون، وفي لحظة تقاطعات نادرة، نجمت عن انهيار عالـم الحرب الباردة، وانخراط أميركا في مغامراتها الإمبراطورية، من تحقيق قدر يكاد يكون كاملاً من الاستقلال الذاتي، وانخرطوا في مشاريع لبناء مؤسسات محلية سياسية واجتماعية واقتصادية، تمكنهم إما من إعلان دولة مستقلة، إذا سارت الأمور بطريقة إيجابية بالـمعنى الإقليمي والدولي، أو انتزاع حقوقهم القومية غير منقوصة في ظل عراق جديد.
وهما احتمالان محفوفان بالـمخاطر، يستدعي النجاح في أحدهما قياس الفعل والكلام بميزان الحكمة والذهب، أي التنازل عن الحماسة الـمفرطة، حتى وإن كان في القلب والواقع القومي والعاطفي ما يحض عليها. فشبه الدولة الكردية في شمال العراق يمكن تحويلها إلى حطام في زمن قصير، إذا اجتمعت الإرادات التركية والأميركية، تماما كما حدث في أواسط السبعينيات عندما تمكن صدّام حسين من تحطيم التمرّد الكردي بعد التفاهم مع شاه إيران، حليف الأكراد حتى ذلك الوقت.
ولكن يبدو أن الأكراد، كالفلسطينيين، يصبحون أقل ذكاء كلـما اقتربوا من الهدف. والذكاء في الحالة الكردية العراقية يعني تسكين الـمخاوف التركية والإيرانية بكل طريقة ممكنة، وبكل تنازل ممكن، حتى إذا استدعى الأمر تصفية قواعد أكراد تركيا في أراضيهم، وتسليم الـمطلوبين. فإنشاء قواعد لـمقاتلين من أكراد تركيا في كردستان العراق يعتبر حماقة سياسية من جانب الأكراد في العراق وتركيا على حد سواء.
لا شك في أن الأكراد، سواء في سورية، أو تركيا، أو العراق، أو إيران يتعاطفون مع بعضهم، لكن قضايا الأكراد في هذه الدول منفصلة، وذات خصوصية لا تقبل التعميم. لذلك، على كل طرف البحث عن حلول تناسبه دون توريط الطرف الآخر. أو بصياغة أخرى، من واجب جميع الأطراف الكردية، على اختلاف بلدانها، تركيز العين والقلب، على الثمرة الأكثر نضجاً، أو الحلـم الأكثر قابلية للتحقيق، والتضامن لقطف الثمرة، وتحقيق الحلـم.
الـمفارقة أن الأكراد كالفلسطينيين يملكون الكثير من الحكمة، لكنهم لا يستثمرونها في السياسة. ثمة حكمة كردية قديمة تقول "ليس للأكراد أصدقاء". أوجلان، زعيم الـمقاتلين الأكراد، الذي يقبع في السجن التركي، يعرف هذه الحقيقة أكثر من غيره. فقد سلـمه حلفاؤه السوريون للأتراك في لحظة تمكنوا فيها من الحصول على ثمن مناسب لرأسه.
وقبله شرب من الكأس نفسها البرزاني الأب، عندما باعه الشاه لصدّام حسين مقابل تنازلات عراقية في شط العرب. وليس ثمة ما يبرر عدم بيع الطالباني والبرزاني الابن، في مزاد للقوى الإقليمية والدولية، إذا لـم يجدا حلاً مقبولاً للورطة قبل فوات الأوان. مزاد الرؤوس احتمال قوي، طالـما ليس للأكراد أصدقاء.



نقلا عن صحيفة الايام الفلسطينية