بدون انفعال
شنداخ ولد طليبه
كل من كان يرى شنداخ في طرقات المحمودية كان يرفع يده ورأسه إلى السماء قائلاً : يا رب يوم انك أخذت المسكينة طليبه شلون نسيت تاخذ ولدها شنداخ ؟! وحمدية كانت تفخر بأنها عندما كانت على ذمته كانت تبخر "دواخله" بالطيب ! وتقلم أظافره وتغسل ملابسه بيديها ( بالشلهة ) ، إلا أن "صنته" عادت تسد الأنوف بعد أن تركته !
ذات مرة وشنداخ يقود سيارته التاكسي بالكاظمية صدم الزائر الإيراني سهراب وتركه وهرب ! وأنبه ضميره فذهب لزيارته في المستشفى ووقف أمام سريره معتذراً مستخدماً لغة الكلام والجسد : سامحني دعمتك وانهزمت ( هربت ) ، اش تريد انطيك! فنظر إليه الإيراني وعليه الكثير من الأجهزة وفهم أنه يعتذر فقال له بالفارسية بتكرار : باشه ( أي ميخالف ) فرد شمداخ : تريد باشه بنت عمي ، وداعتك تزوجت محقان ابن عمي وساكنبن بحي النهضة بصف المقبرة ! والا والله ما تغلى عليك ! واقترب من سرير سهراب وانحنى عليه قائلاً : قصتك ( أي اسمح لي أن أقبل جبينك ) ، وبينما هو يقبل الجبين وإذا بالإيراني يزرق ويصيح به بالفارسية : " ارنجت از اوكسجين دور كن " وشنداخ يقبله أكثر والإيراني يردد العبارة نفسها إلى أن فاضت روحه ، فحضر الطاقم الطبي ، وسأله المترجم ماذا حدث ؟ فقال شنداخ : وانا استسمحه واحب على قصته كان يكرر عبارة "ارنجت از اوكسجين در كن " ! فرد المترجم : كان يقول لك ابعد كوعك عن أنبوب الأكسجين ! لأنك كنت دايس عليه !
لكثير من دول العالم سياسات خارجية واضحة ومنها دول في الشرق الأوسط ، السياسة الخارجية العمانية مثلاً تعتمد على تقوية العلاقات مع الآخرين والبعد تماماً عن الأزمات مع أي طرف ، وضح ذلك في ترسيم الحدود بينها وبين المملكة العربية السعودية قبل أعوام إذ كان الموقف العماني مرناً إلى أقصى الحدود فنجحت الإتفاقية ولم يعد هناك فتيل لأزمة بين البلدين مستقبلاً ، والشيء نفسه بينهم وجارتهم الأخرى اليمن. يقول السلطان قابوس : إنه ينظر يومياً إلى خريطة العالم ، ويقول لماذا لا تكون لنا علاقات متميزة مع هذا البلد ؟ ، وقد يكون البلد المذكور على بعد آلاف الكيلومترات من عمان.
تتحكم المصالح الإقتصادية في السياسة الخارجية الناجحة لدولة الإمارات ، وتحاول تفادي الأزمات ولعب دور الوسيط المتعقل والحكيم في أزمات المنطقة ، ولكنها تدخل أحياناً في سبيل مصالحها في المواجهة غير المعلنة ؛ كما حدث في التسعينات حيث وضعت الإمرات كل ثقلها في دعم "طالبان" في أفغانستان لا تعاطفاً معها ، وإنما من أجل إضعاف وإحراج إيران هناك بسبب خلافهم على الجزر. أخبرني أحد الساسة الأفغان المعارضين ل"طالبان" في ذلك الوقت أن سيارات "طالبان" كانت تحمل لوحات معدنية عليها كلمة دبي علناً.
العراق من الدول المؤسسة لكثير من المنظمات العالمية كالأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ودول عدم الإنجياز ، وتشاء الأقدار أن يكون للعراق ستة جيران ، من العرب أربعة ومن العجم اثنان ، وللعراق تركيبة دينية وعرقية مختلفة ، لذا فإن تركيا مثلاً لا يمكن أت همل التركمان في العراق المرتبطين بها عرقياً ، والعرب مرتبطون بالعرب من الناحية القومية ، ويتفاعل الشيعة في أماكن أخرى مع شيعة العراق ، ذلك كله يضع على العراق كنظام مسؤوليات جسيمة. عندما لا تكون لديك محاور واضحة في التعامل مع الآخرين تبين مالك وما عليك ومالمشترك بينك وبينهم فإنك ستدخل حتماً في مشاكل ، وهذا ما حصل للعراق منذ نشأته ككيان مستقل. فهل مر على العراق وقت لم يكن فيه على خلاف على خلاف مع دولة أو أكثر مجاورة أو بعيدة ؟ مشاكل مع سورية ، الأردن ، السعودية ، الكويت ، تركيا ، إيران ودول بعيدة مثل مصر وبريطانيا لنأخذ مثلاً مشكلة قديمة بين العراق وإيران ، مشكلة شط العرب ، ممر مائي قصير بينهما ، وليس به ثروات نفطية أو سمكية أو سياحة وأقصى ما ينبت على ضفافه نبات يستخدم كعلف حيواني رخيص يعرف باسم "شولان"! إذاً ما كان سيضيف كون حدود العراق تمتد إلى الضفة الأخرى من هذا الممر المائي ؟ ألم يكن بالإمكان منذ البداية حل الموضوع ودياً وببساطة مع إيران ؟
البين أن غالبية اللذين مثلوا العراق في المحافل الدولية كانوا على مستوى عال ومشرف بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية ؛ من المفاوض العراقي اليهودي ساسون حسقيل في العهد الملكي ، مروراً بالدكتور عبدالجبار الجومرد وطارق عزيز ، ناجي صبري الحديثي وعبدالأمير الأنباري وغيرهم من عهد "البعث". بينما احتفظت الأنظمة العراقية المختلفة والمتعاقبة بالسيئين من رجالها بالداخل لخدمة مآربها ؛ كالأحمق محمد زمام السعدون والسائق الجاهل حسين كامل والمجرم كاظم كزار والسفيه فاضل عباس المهداوي ، وغيرهم. ولكن ما فائدة الأكفاء في غياب لغة الحوار وفي عدم إعطائهم أي صلاحيات في المفاوضات ؛ ذهب جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي مع وفد كبير إلى جنيف أثناء الغزو العراقي للكويت ، ومعه اجوبة لستة وثلاثين احتمالاً قد يثيرها الوفد العراقي برئاسة طارق عزيز ، لكن الأخير لم تكن لديه أي تعليمات فسهل على بيكر المهمة كما وصفها لاحقاً ، إذ كل ما كان يقوله طارق عزيز إن العراق بلد عريق ! ولا يمكن أن يخضع ! وحمد الله البعض أنه لم يكن لبيكر "شوارب" لأن التعليمات التي أعطوه إياها في بغداد تتلخص في أن يقول لبيكر : ولك العراق بيها زلم ! لعنة على هذا الشارب !
سياسات ارتجالية متهورة في الغالب كانت تفتقد إلى العقلانية لم تؤد إلا إلى تدمير العراق وهكذا كانت على الدوام ، وعلى مدى العقود المنصرمة خلقا ثغرة بين العراق والآخرين تأثرت بها مع الأسف لا الحكومات وحدها ، بل الشعوب أيضاً.
الأردن هذه الدولة ذات المصادر الإقتصادية المحدودة كيان قوي ومهم في توازن الشرق الأوسط لدى كل الأطراف ، يكفي أن ننظر إلى مباني السفارات في عمان ومنها مبنى السفارة الأمريكية الضخم والخيالي ليجيبك إن كنت في شك ! مع هذا ما زالت الخزعبلت تدور في عقل المواطن العراقي البسيط من أن الأسرة الهاشمية ما زالت تحلم في ملك الحجاز وتفكر في الإنتقام من الشعب العراقي نتيجة مقتل الأسرة الهاشمية في العراق ! السياسة العراقية العشوائية هي من تسببت في هذا الغرس وإلا فإن نظام حكم قوي كالأردن أكبر من أن ينشغل بمثل هذه الأمور !
يقول الدكتور محمد البرادعي : إن المفاوض الإيراني شرس ويصعب التغلب عليه وعلى درجة عالية من الذكاء. إذا من وضع في ضمير العراقي البسيط بأن "العجمي" إنسان ساذج ! غير أناس من أمثال خير الله طلفاح. لو خير الكويتي وأقولها بصراحة بين شرب الماء الصليبي (المر) وأن تمد له أنابيب المياه العذبة من العراق لفضل الأولى لأنه لم يعد يثق في الإنسان العراقي ، ويعتقد أنه قد يقطعها عنه في أي لحظة ليموت عطشاً ! ويعتقد العراقي أن الكويتي إنسان كسول ومدلل ! فمن خلق هذا بين الشعبين غير سياسات عراقية خاطئة بدأها الملك غازي وشجعتها حاشيته مثل نوري السعيد وتبناها عبدالكريم قاسم وصدام حسين !
التركي هو الذي يصنع المرسيدس في عقر دار الصناعة ؛ ألمانيا ، في حين أن العراقي المغلوب على أمره يعجز عن صناعة بلم ( قارب ) ! فمن أقنع العراقي بأن التركي إنسان غبي غير حكومات استهانت في التعامل مع دولة حكمت العالم خمسمئة عام ، يرتعب منها الغرب ، أليس هناك سياسي عراقي قرأ كتاب يوحنا بولس الثاني ليعرف وزن تركيا ؟ لكن إقامة جسور بين العراق وحكومات وشعوب أخرى لا يعني تصدير الأفكار ، بل إقامة شبكة من العلاقة الإقتصادية والإنسانية لا كما فعلته الأنظمة العراقية السابقة في دول مثل لبنان واليمن وموريتانيا. تحتاج موريتانيا إلى استثمارات مالية تنقذها ؛ إذ أن الفقر متمكن من هذا الشعب فوق الوصف ، فإلى الآن يقف سكان سواحل موريتانيا يمسك كل منهم بعصا يضرب بها البحر ، فتحن عليهم دلافين البحر وتحيط بأسراب السمك ترسلها إلى الساحل فيجمعها الأهالي ويجففونها ليأكلوا منها موسماً كاملاً ! مثل هذا الشعب يحتاج أشياء كقوارب صيد الأسماك يستفيد منها الشعبان العراقي والموريتاني لا أن ينشئ العراق حزب "البعث الموريتاني" ليغني فنانوه : نفديك يا صدام حسين بالرجال والبنين !
هل يمكن تفادي ما حصل لو كان هناك لغة مشتركة بين شنداخ وسهراب للتفاهم ؟!
يتقن أهل الناصرية صنع حلو يشبه الرز باللبن المصرية مضاف له الزعفران يعرف باسم زردة ، أكله يهدئ الأعصاب عند الإنفعال !
د. جواد مبارك سعود
gilgamesh_kw@hotmail.com
الراي الكويتية
بحث
قائمة الأعضاء
التقويم
وثائق المساعدة
