دور الجزيرة في إصلاح الأنظمة المستبدة
الحكومة المصرية منعت الجزيرة من تغطية الاحتجاجات الشعبية (الفرنسية)
كتب لورنس بينتاك -العميد المؤسس لكلية إدوارد مورو للإعلام في جامعة ولاية واشنطن- عن دور قناة الجزيرة في التشجيع على المطالبة بالإصلاح والديمقراطية في العالم العربي، وهذا ما جاء في مقاله الذي نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية:
حينما حل الظلام في ميدان التحرير مساء الأول من فبراير/شباط, كانت هناك شاشة عرض كبيرة تبث تغطية حية ومباشرة للانتفاضة المصرية إلى الجماهير المتحمسة, كما أن القناة بثت في وقت لاحق خطاب الرئيس المصري حسني مبارك الذي أعلن فيه عدم نيته الترشح لولاية أخرى للرئاسة ولكنه سيمضي بقية ولايته في منصبه, وقد هتف المتظاهرون تحت الشاشة معبرين عن عدم رضاهم عما أبداه من تنازل اعتبروه غير كاف.
لقد كانت لحظة حكت وعبرت كثيرا عن الصلة الفذة بين قناة الجزيرة -التي تتخذ من قطر مقرا لها- وبين الانتفاضة المصرية والثورة التونسية التي كانت ملهمة لها, كما أنها أكدت الحقيقة الجديدة التي تواجه الأنظمة العربية التي تقول إنه لم يعد بإمكانها السيطرة على زمام الأمور والتحكم في الرسالة.
منذ 28 يناير/كانون الثاني كانت الجزيرة تلعب لعبة القط والفأر مع نظام مبارك الذي أغلق موقع بث الجزيرة عبر قمر نايل سات, وأغلق مكتبها وصادر معدات البث واعتقل بعضا من موظفيها.
ولكن ومع نهاية الأسبوع، كانت هناك العشرات من القنوات الفضائية في المنطقة التي تؤثر تغطية الجزيرة للأحداث على برامجها، محبطة بذلك مساعي النظام لحرمان المواطنين من مشاهدة القناة التي باتت لعنة النظام الرئيسية أو مرهبه الرئيسي.
بروز الجزيرة
وفي هذا السياق قالت الجزيرة -عبر بيان لها على موقعها الإليكتروني- "نعمل على مدار الساعة لضمان وجود ترددات بديلة، ومن الواضح أن هناك قوى لا ترغب في بث صورنا وتغطيتنا المهمة التي تدفع باتجاه الديمقراطية والإصلاح، ومنع الشعب من مشاهدتها".
هذا هو السبب الذي أدى لبروز الجزيرة لتلعب مثل هذا الدور المركزي في الدراما التي تحصل في المنطقة, وقد استأثرت الجزيرة باهتمام وأمل الجماهير التي احتشدت في شوارع القاهرة لمشاهدة بثها على عكس قناة التلفزيون الحكومية أو منافستها قناة العربية الأكثر محافظة والمملوكة من قبل السعودية.
وفي هذا السياق، قال لي ذات يوم مدير مكتب الجزيرة في واشنطن عبد الرحيم فقرا عنها: "إنها القناة التلفزيونية العربية الرائدة والمميزة، لكونها أدركت عمق الهم والألم العربي المشترك المسمى الإحساس العربي، وحولته إلى صورة تروي وتتحدث عن شيء متغلغل عميقا في النفسية العربية".
وبكلمات أخرى: كان من المستحيل مشاهدة ما يجري حاليا من أحداث استثنائية لو لم يشاهد المصريون مجريات الثورة التونسية -وهم داخل غرف المعيشة والمقاهي- عبر شاشة الجزيرة.
لم تكن وسائل الإعلام هي الوحيدة في استمرار هذا الهياج والغليان في مصر, والثورة التونسية، أو مشاهدة صور المظاهرات المشابهة التي تجري في أماكن أخرى في العالم العربي, ففي الأصل هناك غضب أججته عقود من الركود السياسي والاقتصادي والفكري، مما تسبب في تقارب ثلاثة اتجاهات رئيسية قوية في العالم العربي، وهي القومية العربية, والدولة أحادية القومية، والإسلاميون.
ومع ذلك, فإن وسائل الإعلام العربية كانت في طليعة من بلور هذا التطور الجديد المتفجر, فمحطات التلفزة العربية التي تبث عبر الأقمار الصناعية مثل الجزيرة، وكذلك الجرائد العربية المتحمسة المتجسدة في صحف مثل المصري اليوم المصرية، والصحيفة التونسية واسعة الانتشار الكلمة التونسية, أذكت الشعور بالهم المشترك بين العرب في كل جزء من أنحاء المنطقة، وجعلت منه حقيقة مثله مثل "المجتمعات المتخيلة" التي في صلب مفهوم الدولة.
وكما قال فيصل القاسم -المشرف على برنامج قناة الجزيرة الأكثر شعبية والمعروف باسم الاتجاه المعاكس، والذي كثيرا ما يمثل أكثر الآراء تطرفا اللافتة للنظر في المنطقة- "على إعلامنا أن يعد العدة لتحرير الشعوب العربية من جلاديها الداخليين".
التغيير
كان التغيير هو سبب وجود الجزيرة قبل 15 عاما خلت حينما أسسها حاكم الإمارة الصغيرة الحديث العهد بالسلطة حينها، وسماها الجزيرة تشبيها بذلك الجزء الصغير من الصحراء على شكل الإبهام في منطقة الخليج الذي يشكل كيان دولته الصغيرة, ووظف لذلك مجموعة من الصحفيين العرب الذين فقدوا وظائفهم في هيئة الإذاعة البريطانية، وفوضهم بقض مضاجع منافسيه من الحكام المستبدين ومضايقتهم، وتعزيز مفهومه السياسي داخل المنطقة عبر تلك العملية.
وحتى حين إقدام الحكومة المصرية على قطع معظم وسائل الاتصال عبر الإنترنت والهواتف المحمولة، من أجل اعتراض وإعاقة قدرة الناشطين السياسيين على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي, استمرت قنوات البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية -ومن بينها مجموعة من محطات التلفزيون ذات الملكية الخاصة ومقرها القاهرة- في تشكيل قوة التوحيد الكبيرة للمصريين والعرب في المنطقة لمشاهدة التغطية الحية والمباشرة للعنف في الشوارع ولردة فعل مبارك الباهتة والمضطربة.
ربما كان النقاء والشفافية الصحفية في الغرب مصدرا لإلهام المنظمات الإخبارية للمساعدة بصراحة في إذكاء وتعزيز الثورة, لكن تاريخ الصحافة الأميركية مفعم بالناشطين الصحفيين من أمثال توماس بيني وبنيامين فرانكلين وصموئيل آدمز، وهم غيض من فيض, والسياسات العربية الحالية لها قواسم مشتركة كثيرة شبيهة بما كان عليه الحال في أميركا في القرن الثامن عشر, ونفس الشيء ينطبق على صحافة العالم العربي.
"
ولى الزمن الذي كان فيه المذيعون الحكوميون يمكنهم صنع وفبركة الوقائع والحقائق، مثلما ولى عهد الفاكس، وما عليك سوى النظر إلى شاشة التلفزيون الكبيرة في ميدان التحرير
"
محل انتقاد
لا يعني هذا أن نقول إن وسائل الإعلام العربية بتلك الضخامة والقوة، أو أنه لا يوجد معارضون ومنتقدون لقناة الجزيرة في العالم العربي, فمثلما أن قناة فوكس وأم أس أن بي سي تجتذب الأنصار في الولايات المتحدة, فكذلك العرب يتوجهون إلى الجزيرة, ومنافستها "العربية" المملوكة للسعودية أو غيرهما من القنوات التلفزيونية العديدة، وفقا لسياساتهم.
فهناك العديد يزعمون أن الجزيرة تدعم حركة حماس الفلسطينية الإسلامية، وهذا ما عززه ما بثته الجزيرة من وثائق سرية بخصوص المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وذلك على نمط تسريبات ويكيليكس، وهو ما فتّ في عضد السلطة الفلسطينية وهز أركانها,
كما كان هناك شعور بأن قناة الجزيرة التي تتخذ من قطر مقرا لها تناصب مبارك العداء, ولكن أعين المشاهدين هي الحكم فيما إن كان ذلك أمرا جيدا أو سيئا.
يوم 29 يناير/كانون الثاني حينما عادت خدمة الهواتف النقالة إلى العمل في القاهرة, تمكنت ابنتي المراهقة أخيرا من الاتصال بالعديد من صديقاتها, وكانت من بينهم واحدة تبكي، وكان بالإمكان سماع الطلقات النارية في الخلفية حينما اجتاحت عصابات الدهماء والغوغاء المنازل المجاورة، بينما قالت أخرى إن أباها وغيره من الرجال في المنطقة قد خرجوا إلى الشوارع ليتصدوا للمسلحين ممن يقومون بعمليات السلب والنهب، وكانوا أحرقوا لتوهم مركز تسوق قريبا.
وقد اتصلت بوالدتها لفترة وجيزة فسألتني: هل تشاهد التغطية؟ فرديت بالقول نعم بالطبع. وسألتني أي قناة؟ فقلت كنت أشاهد الجزيرة وسي أن أن وبي بي سي, وعندها صرخت: "آه لا تشاهد الجزيرة, إنها تبالغ".
ربما يختلف الكثير من العرب مع ذلك, وبعد ذلك بفترة وجيزة قرأت رسالة على التويتر تقول: "الناس في الإسكندرية يقولون إن الجزيرة هي القناة الصادقة الوحيدة وكل القنوات المصرية كذابة", ليس المهم أي قناة يفضلون, ومعظم العرب يتفقون على أن القناة التلفزيونية المصرية المملوكة للدولة تخدم النظام كواجب لها، وتبث صورا لمسيرات مشكوك فيها لأنصار مبارك، وتبث أشرطة فيديو لمواطنين مصريين أقوياء البنية مفتولي العضلات والعلم الوطني على خلفية أنغام النشيد الوطني.
ملحوظة إلى مبارك: ولى الزمن الذي كان فيه المذيعون الحكوميون يمكنهم صنع وفبركة الوقائع والحقائق، مثلما ولى عهد الفاكس، وما عليك سوى النظر إلى شاشة التلفزيون الكبيرة في ميدان التحرير.
المصدر: فورين بوليسي