الزملاء الأفاضل .
جاء ذكر هيكل في هذا الشريط بواسطتي في فقرات متباعدة ، و لهذا أعتقد أن حق من يتابع هذا الشريط معرفة رأيي في محمد حسنين هيكل بشكل واضح ، ولأني لا أملك وقتا كافيا كي أعد تعليقا خاصا يلائم ما يتوقعه الزملاء من شخصي المتواضع
.
سأضع هنا تعليق سابق على مقال كتبه هيكل مستأذنآ في انصراف لن يتم أبدآ بدون تدخل الأقدار ذاتها . هذا المقال وتعليقي يعودان لسنوات ماضية و تحديدا في شهر 10 عام 2003 م . ربما يبدوا هذا التعليق طويلآ نوعا ،و لكني أيضا أعددته " بروقان" في وقت لم أكن أتذكر فيه كثيرا المثل المصري القائل ( آخرة خدمة الغز علقة ) كلما أعددت ردا أو قمت بمجهود كبير في نادي الفكر !.
1- نعم هيكل هو أهم صحفي عربي معاصر ، و ظاهرة فريدة في الصحافة العربية ،وفي وقت ما كان هيكل يقترح رؤساء الوزارات و الوزراء في مصر . هيكل أيضا نرجسي إلى حد بعيد ،و هو يحمل شعورا بالتعالي مغلفا بسلوكيات مصنوعة بعناية ، و هيكل يشبه نبيل إنجليزي أكثر مما يشبه صحفيا مصريا ،و هذا شيء لا أراه معيبا بل ربما كان طريفا ومميزا .
2- أختلف مع هيكل في الكثير مما كتبه في الماضي و ما يكتبه حاليا ، و لا أميل لأسلوبه الفضفاض ، وهو أيضا يضفي الكثير من الأهمية حول نفسه بلا مبرر ، و لكن فقط لنتذكر أننا نتحدث عن صحفي في الثمانين من عمره آن له أن يصبح تاريخا ، فقط سأستدرك أنه لو مضى كل من تجاوز الصلاحية كم سيبقى على الساحة من الحكام و الكتاب و المفكرين في أمة كل أعلامها في غرف الإنعاش .
3- عندما يودعنا هيكل رغم شحوبه منذ سنوات طوال أشعر بغصة في حلقي و دمعه حائرة في العين ، ليس من أجل هيكل و لكن من أجل عصر بأكمله كان هيكل ربما رمزه الأخير و مندوبه فوق العادة في عصرنا الآن . من سيذكرنا بعبد الناصر و حلمه العربي الذي ألهب خيالنا ؟، من الذي يحدثنا عن دورنا في العالم بينما يهيئنا الحكام و ببغاواتهم العجموات للموت في الظهيرة ؟. من سوف نغفر له نرجسيته الصبيانية لأنه ( من ريحة عبد الناصر ) و أمين سره ؟.
4- لا أشعر أن هيكل كان موفقا في مقاله الوداعي ، فلم يأت المقال كزجاجة شمبانيا تفرقع مطلقة الرغاوى وسط صيحات الاحتفاليين السكارى ، بل جاءت كفنجان قهوة سادة في مأتم انفض معزونه ، فهل هي ثمانون حجة تثقل منكبيه و تطفأ التوجه الذي طالما أبهرني صبيا و فتنني شبابنا و أحنقني رجلا .
5- نعم لتذهب إلى الظل أيها الفارس و في هدوء ليس لأننا لسنا في حاجة لقلمك و لكن لأنك لم تعد تمسك به جيدا كما فعلت دائما .
6- لم أسلم عقلي لهيكل كما فعل الكثيرون من جيلي ، بل معظم هذا الجيل ، كنت أفضل عليه و في قمة مجده آخرين مثل أحمد بهاء الدين و محمد عوده و كامل زهيري و كثير من كتاب اليسار الشيوعي مثل محمود أمين العالم و صلاح حافظ ( غير صلاح الدين حافظ ) .. كنت أراه متحذلقا بأكثر مما ينبغي مخادعا أيضا ، رغم ذلك فلم يمنعني هذا أن أعيد تقيمه من جديد بسبب موقفه المدافع عن تجربة عبد الناصر .
7- يتمتع هيكل الإنسان بذكاء و حضور نادرين ، إنه ليس ذلك الرجل الذي يعيش فقط داخل ذاته رغم نرجسيته الشهيرة ، بل من الصعب أن تمر في مجاله الحيوي دون أن يلحظك و دون أن يشعرك بهذا .
8- جلست إلى هيكل مرة واحدة في حديث طويل عام 1985 ضمن بعض أعضاء حزب المستقبل أثناء تأسيسه بصحبة المرحوم فرج فوده مؤسس الحزب ( لم أكن عضوا في الحزب بسبب تمسكي بعضوية حزب الوفد ) ، و لا أنكر أن هيكل استطاع بعد دقائق بسيطة أن يسقط تحفظاتنا تجاهه و يمتلك احترامنا و إعجابنا جميعا ، و ذلك رغم أننا ذهبنا إليه محملين باعتراضات حادة بسبب موقف الناصرية من الديمقراطية متأثرين أيضا بمواقف حزب الوفد الذي كنت مازلت عضوا فيه و كان المرحوم فرج قد استقال منه منذ أمد غير بعيد . في بداية تلك الجلسة التي طالت بأكثر مما قدرنا طلب منا الأستاذ أن نتحدث لأنه سيكون فقط مستمعا لجيل آخر يريد أن يتبين ملامحه ،و أخبرنا انه سمع من الإسلاميين و آن له أن يسمع من العلمانيين ( ضاحكا و مشيرا لفوده ) ،و قد طلب المرحوم فرج مسبقا مني و من زميل آخر ( سكرتير الحزب المرشح ) أن نعد أنفسنا للحديث عن بعض النقاط ،و لكنني قلت له انه لا يريد أن يسمع أفكارا بل أشخاصا ، و أنت من يجب أن يقول كل شيء كما يريد بلا إعداد طويل ، لا تحاول أن تبهره بشيء فهو محصن من الانبهار ، فقط قل ما تعتقد أنه يجب أن يعرفه ،و ليكن حديثك فقط عن الموقف من جماعات الإسلام السياسي و علمانية الدولة . وربما ستكون هناك فرصة كي أروى هذا اللقاء .
في مكتب فرج فوده عرفت أكثر الرجال غرابة و أغناهم تجربة ، فلم أقابل في حياتي كلها مثل هذا العدد الكبير المتنوع و المتميز من البشر ، أحيانا كنت أقول له أن الشيء الوحيد الذي يذكرني أننا ما زلنا في مصر هو عم محمد الساعي ( حتى عم محمد كان يطلق على نفسه لقبا مهيبا هو وكيل المكتب منعزلا عن واقع مصر كأي شيء آخر ) .
مكتب صغير متواضع في مدخل البناية ، و لكنه كان متسعا كعالم حافل ترحل فيه بين مختلف الأفكار و المدارس و الرجال ، نادرا ما كان هناك شيئا مدبرا ،و لكن كل شيء يمضي بشكل عفوي و أقول أيضا بريء ، كان هناك ذلك التنوع الذي لا يمكن أن يربطه شيء سوى شخصية فرج فوده الجميلة المنغرسة حتى الأعماق في صخب الحياة . يمكن لأي عابر سبيل أن يدخل إلى المكتب بلا موعد سابق ، ليجد قبلات فوده و أحضانه كصديق قديم ، ثم يسأل بعد اللقاء :" هو مين ده ؟ " ، و كنت دائما أعترض على تلك الفوضى ، و أقول له مداعبا :" سمعت إن الحبيبة يتواعدون في مكتبك لأن المشروبات مجانية !"
في هذا العالم السحري تعرفت على مهندس زراعي من الإسكندرية من طلبة فوده السابقين ، و كان -كأي صديق لفوده - مفتونا بالفكر و الحوار و السياسة . بعد لقاءات محدودة وجدتني في مدينة الإسكندرية أمر على البيوت مع صديقي الجديد و أدعو سكان حي القباري لانتخاب أبو العز الحريري ( التجمع ) الذي لم أعرفه من قبل !( بالمناسبة نجح الحريري في تلك الانتخابات التكميلية ضد مرشح الحكومة ، وهو الآن نائب لامع و شريف ) .
لم أقصد من تلك الرواية سوى أن أوضح عالم فوده المدهش الذي استغرقني لسنوات قبل رحيلي عن مصر و استشهاده هو بعد ذلك ، و الذي شهد لقاء هيكل الذي تحدثت عنه .
أيضا كان هذا الصديق هو الذي رتب اللقاء مع هيكل ، فهو كما عرفت لاحقا أحد أصهار هيكل ، و هو الذي فاتحه هيكل في ترتيب اللقاء عندما عرف بصداقته مع فرج فوده ، ففي تلك الأوقات بدأت في الأفق ظاهرة فرج فوده تثير الدهشة و ربما الإعجاب ، ذلك الدكتور في الاقتصاد القادم من عالم الدراسات و الأعمال ،و الذي يصر على الإبحار ضد التيار ،و يقول لا لتطبيق الشريعة الإسلامية ،ولا أكبر منها للإسلام السياسي وأكبر اللاءت للعنف و الإرهاب ، بينما كانت الدولة ترتعش و تستهلك عددا كبيرا من لفافات البمبرز و هو تقول لا خافتة للغاية فقط للإرهاب !.
للموضوع تتمة و عذرا للإطالة .
ولكن ماذا تحسبون أن يفعل رجل مثلي بينما أسرته في زيارة الجيران سوى الثرثرة .؟
بدأت ظاهرة فرج فوده تثير الانتباه ،و فرض نفسه كشخصية عامة ، و كعادة فرج فوده منذ زمالتنا في مدرسة شربين الثانوية ( الشهيد عوده حاليا ) انقسم الناس حوله ما بين محب متوله و بين كاره حانق ، هناك من يرونه ملاك التنوير القادم بمشعل طه حسين ،و هناك الأغلبية التي تراه شيطان آخر الزمان . و لم يكن للإعلام الرسمي و المحترف أو الخطاب السياسي الحزبي أن يتنكر له أكثر من ذلك ، وتوالت التعليقات حوله منشورة و مسموعة من أسماء بوزن نجيب محفوظ ، توفيق الحكيم ، محمود السعدني ، يوسف إدريس ، مصطفى أمين ، جلال الحمامصي ، عبد الستار الطويلة ، ميلاد حنا ، رفعت السعيد ، مكرم محمد أحمد ، لويس جريس ، و .... ، أيضا لم يبخل عليه الإسلاميون بالهجوم العنيف فانبرى له صلاح أبو إسماعيل و فهمي هويدي و محمد الحيوان و الحمزة دعبس و ...... الخ يوسعونه تكفيرا و تأثيما .
وهكذا أتت دعوة هيكل تتويجا لمد إعلامي و اهتمام غير مسبوق بكاتب ناشئ غير محترف !.كانت سعادة فرج فوده غامرة وهو يخبرني عصر ذلك اليوم بدعوة هيكل الرجل الذي ارتبط في ذاكرتنا كصانع للملوك !.
لا أنكر أنني لم اكن متحمسا لتلك الدعوة ، كنت أشعر أن هيكل يريد فقط أن يرى عن قرب و يسمع بدون وسيط ،و لكنه لن يقدم على شيء آخر ، و قلت لفوده ألا يتوقع أن يكون هذا اللقاء أو فرج فوده و حزبه موضوعا لمقالات هيكل ، فهيكل ليس رجل المبدأ و لكنه رجل الحسابات ، و الحسابات تجعل غموض الموقف هو أفضل الحلول و أربحها ، إنه لم يقدم أبدا على إثارة موقف الثورة أو موقفه من العلمانية و الدولة الدينية ، وهو لم يفعل ذلك لحسابه و لن يفعله لحساب فوده ، و لكنه قال حسنا لنفرض أن هيكل يريد أن يتفرج علينا فلماذا لا نتفرج نحن أيضا عليه ، ماذا سنخسر من زيارة للأستاذ ؟. و كان بالقطع محقا .
قبل الموعد الذي ضربه الأستاذ هيكل و في اجتماع ضمني و فرج فوده و الأستاذ أحمد طلعت شريك فرج فوده في تأسيس حزب المستقبل و صديق آخر من رفقاء الدكتور فرج هو الأستاذ وجيه خير ، و ربما اثنين آخرين ، أتذكر منهما أحد الشباب الواعدين و كان يعمل معيدا بالجامعة و مرشحا لبعثة دراسية في فرنسا سرعان ما سافر إليها ،و كان هذا الشاب مرشحا ليكون سكرتيرا للحزب ، و هو المنصب الذي شغله عمليا الأستاذ وجيه خير حتى وفاة فرج فوده رحمه الله .
إستدراك بسيط .. أود الإشارة إلى أن انغماسي في ذلك النشاط كان بسبب اقتناعي بالدور الشجاع الذي يقوم به فرج فوده رغم عدم عضويتي في الحزب و استمرار انتسابي ( المجمد ) للوفد احتجاجا على التحالف مع الإخوان ، و بهذا ساهمت بدور ما في تأسيس الحزب و إعداد برنامجه السياسي ، بل و بسبب هذا النشاط كان هناك القليلون جدا الذين يعرفون أنني لست عضوا في الحزب .
في هذا الاجتماع أوضحت رأيي في تفضيل أن يكون اللقاء مع هيكل ذو صبغة تعارفية دون الدخول في مناقشة تفاصيل برنامج الحزب أو موقفه من قضايا مثل المرأة أو السلام مع إسرائيل ، فموقف الحزب منها لا يختلف كثيرا عن موقف حزب الوفد مثلا ،و لكن أن يتم التركيز على القضية المحورية لفرج و للحزب أيضا وهي قضية علمانية الدولة و الوحدة الوطنية و الموقف من الإسلام السياسي و الأحزاب الدينية ، و أتذكر أنني عرضت رأيا كان يبدوا طريفا حول هيكل نفسه ، فمن متابعتي لكل ما كان يكتبه هيكل وصلت لما أعتقد أنه أسلوبه القياسي ، فهو يقدم لك قضية مبدئية مفترضا أنها حقيقة غير قابلة للمناقشة ، ثم يبني عليها بناءا منطقيا متكاملا ،فلو سلمت له بهذه القضية المبدئية سيكون صعبا عليك ألا تسلم بنتائجها . وقد اقترحت أن نسلم له بكل شيء فهذا اليوم ليس موعد انعقاد محاكمة محمد هيكل بل فرج فوده !.
لسبب لم أتبينه جيدا اعتذر الأستاذ أحمد طلعت عن اللقاء في آخر وقت ، و هكذا وجدتني اصطحب فوده و وجيه خير و عدد محدود للغاية من منتسبي الحزب - الذي لم يقدر له أن يرى النور - إلى بيت ريفي جميل وسط مزارع الهرم ،و كان دليلنا إليه هو صديقنا المهندس قريب هيكل .
لم تكن المرة الأولى التي أشاهد فيها هيكل عن قرب و لكنها المرة الأولى التي أجلس إليه مستمعا ، و أيضا المرة الأولى التي أراه فيها بعد سنوات طويلة منذ أن ترك الأهرام . إن آخر ما يمكن أن يشعر به أحد تجاه هيكل أنه قريب منه أو أن هيكل يذكره بأبيه أو أخيه الكبير . إنه لا يشبه في شيء الكاتب أو الصحفي المصري قليل العناية بهندامه ذا الأسنان الصفراء نتيجة إدمان التدخين ، و الذي تشعر أنه يجسد كلمة المعاناة بصورتها القصوى . كذلك لم يكن هيكل يشبه في شيء فرج فوده ربيب مقاهي المثقفين القاهرية المصري في كل عاداته ، و الذي يحتضن كل من يراه و يوسعه تقبيلا بما في ذلك الشيخ صلاح أبو إسماعيل !.
كان هيكل في هذا المساء أشبه بلورد إنجليزي من أصل هندي ، يقضي الويك إند في بيته الريفي . تبينت وقتها أنه أقصر مما أتذكر و أشد سمرة ولكن أسنانه أنصع بياضا ، كما يتمتع بصحة و حيوية لا فتة ، ربما تناسب ضابط متقاعد و لكنها لا تناسب صحفي مصري في مثل عمره .
كان في هيكل شيء يمنعك أن تقتحم كيانه بسيل من القبلات المصرية – لا أحبها بدوري - أو أن تعبر له عن فرحتك الغامرة بلقائه ثم تدمع عيناك من فرط التأثر . منذ الوهلة الأولى تشعر كم هو نرجسي و لكنه يغلف هذا الولع بذاته بسلوك مهذب مصنوع . عندما تتابع نظرات هيكل الضيقة و الذكية وهي ترنوا للآخرين تعرف جيدا أنك لا يمكن أن تجتاز مجاله الحيوي دون أن يلاحظك جيدا ،وهو أيضا يشعرك بذلك .
بعد التحيات المعتادة و أيضا السريعة على غير العادة ، فاجئني الأستاذ بسؤال عما إذا كنا قد التقينا من قبل ؟. فذكرته بتلك اللقاءات العابرة ،و التي لم أكن أعتقد أنه يمكن تذكرها لرجل شديد الانشغال مثل هيكل ، أيضا فوجئت بهيكل يشير إلى تعليق قلته عرضا لزميلنا الذي دبر اللقاء ، وكان التعليق حول كتاب هيكل ( خريف الغضب ) فقلت له إن الذي اغتال السادات هو أزمة السكن ولو وجد خالد الإسلامبولي شقة خالية أثناء تجواله لتزوج و لما قابل الخلية التي قادها بعد ذلك لاغتيال السادات ، و علق هيكل ضاحكا ، " لو وجد خالد الشقة لكنت ما زلت في المعتقل !."
أمسك هيكل فرج فوده من يده و قاده إلى مقعد مجاور ، و قال له لقد سمعت من الإسلاميين و الآن آن دور العلمانيين ، و أخبرنا هيكل انه اتصل ببعض رموز الإسلام السياسي و لكنه توقف مع جنوحهم للإرهاب . عرض عليه فرج فوده تطور علاقته بالوفد و فؤاد سراج الدين و كيف استقال بسبب تحالف الوفد مع الإخوان ،و كان رأي هيكل كما فهمته أن الوفد جزء من التاريخ و أنه انتهى عمليا و محاولة إحيائه هي حلاوة الروح ليس إلا ، و أنه جلس لسراج الدين طويلا في المعتقل ،و لكن لم يجد لديه جديد . رغم ذلك لم يكن هيكل متفائلا بتكوين حزب المستقبل من شباب بلا خلفية وظيفية أو مهنية كبيرة ، فهو يرى أن ذلك جديد على المصريين المولعين بالوظائف ،و كنت سعيدا بهذا الرأي الذي كان يدعم موقفي المبدئي من ضرورة العودة للوفد مرة أخرى و الصراع من داخله .
شعرت أن موقف هيكل من فكرة العلمانية التي طرحها فرج كانت محبطة له ، و أنه لم يجد منه الحماس الكافي الذي كان ينتظره ، وعلى الرغم مما قلته له سابقا بان هيكل سيحتفظ بنفسه خارج الصراع ضد الجماعات الإسلامية لحسابات خاصة به محلية و عربية إلا أنه ربما كان يتصور أن هيكل سيدعم فكرة العلمانية بسبب انتماء هيكل المعلن لثورة 23 يوليو و فكر جمال عبد الناصر الذي تصارع طويلا مع الإخوان !. كان تعليق هيكل أن الإسلام هو المكون الرئيسي للثقافة العربية و أن القومية العربية ذات مضمون إسلامي ،و أن عبد الناصر لم يكن محبذا للعلمانية الكلية ،و أنه قدم خدمات جليلة للإسلام ... الخ . و أن خلافه مع الإخوان المسلمين هو خلاف سياسي بسبب رغبة الإخوان في السيطرة على الثورة و توجيهها لأهدافها .أبدى هيكل تخوفه بأن فكرة العلمانية جرى تشويهها بشدة و أصبحت مرادفة للإلحاد ،و أنها لن تلقى قبولا جماهيريا ، بل ستكون على حساب شعبية الحزب .
أتذكر أن فرج علق تعليقا حماسيا انه لا يبحث عن شعبية و لكنه يخدم قضية وطنية ، وهو في النهاية ليس رجل سياسة ،و هو فقط يبحث عن منبر ليعلن منه و خلاله موقفه ،و يقول كلمته ،و أتذكر أن فرج قال له عبارة كتبها هو ( فرج فوده ) بعد ذلك في مقال له :"إنهم يتقدمون بمقدار ما نتقهقر و يشجعون بمقدار ما نجبن " و هذا التعبير تقريبي لأني أكتب غالبا من الذاكرة ،و قد ورد هذا التعبير في فيلم الإرهابي لعادل إمام على لسان ( محمد الدفراوي ) الممثل الذي قام بدور فرج فوده .و كان رد هيكل هادئا كما يليق برجل استمع للكثير جدا من العبارات الحماسية ولم يجرب أن يدفع ثمن إحداها !.
جاء دور هيكل فانطلق في حديث شائق أكسبه رونقه المعهود بحركات يديه ووقفاته المميزة و المعروفة جيدا لكل من جلس إلى هيكل ، انصب حديثه عن رحلته الأخيرة للندن ،و كيف كان يرى بانورما شاملة للعالم من البرج الذي توجد فيه الصحيفة التي يكتب فيها ، وهي صحيفة الصنداي تيمس' كما أتذكر او ربما الصنداي تلغراف ، و كيف أنه تحدث مع هذا و ذاك ممن يصنعون عالم اليوم و ... الخ .
مرة أخرى انطلق يتحدث بإسهاب عندما وردت الثورة الإيرانية في سياق الحديث عن الإسلام السياسي ، وكان حديثه منصبا على لقاءه مع الإمام الخميني و أحاديثه معه ، و كنت قرأت ذلك كله في كتاب ( مدافع آية الله ) ،و لكن الشيء الذي لفت انتباهي أن حديثه عن الخميني جاء أقل حماسا و إعجابا مما كان في الكتاب ، و ربما كان هذا شعور شخصي أو بسبب طرد ( صديقه ) بني صدر من الرئاسة ومن إيران كلها .
كانت هناك أيضا قضية السودان التي جاء رد هيكل فيها محبطا لتطلعات فرج فوده و طرحه ، فوحدة وادي النيل هي مبدأ أساسي لحزب المستقبل وقتها و التي يبنى عليها تصوره لحركة مصر العربية ،و كان فرج متشبعا في ذلك برؤية حزب الوفد التاريخية ، و لهذا السبب وجه فرج نقدا كبيرا للثورة و جمال عبد الناصر بسبب التخلي عن السودان بسهولة . ولكن هيكل ابتسم مؤكدا أن التخفف من علاقات مصر بالسودان كان مكسبا سياسيا كبيرا و أن ذلك هو الذي أطلق مصر في تحقيق ثورتها الوطنية و التنمية التي لم يكن تحقيقها ممكنا في ظل وحدة مصرية سودانية مع مشكلات السودان الكثيرة و الممتدة ،و افتقار السودان إلى مقومات الدولة الحديثة أو الوحدة الوطنية الضرورية لتنمية حقيقية .وكان هيكل يعود للاستشهاد بموقف رئيس وزراء السوداني المعروف محمد أحمد المحجوب الذي جاء من حزب الأمة الانفصالي و كان عدوا شرسا للعلاقات الاتحادية مع مصر ودائم الترديد لبيت من الشعر يقول فيه أن ما بينه و بين أبناء أبيه مختلف جدا !.
لست أدري هل تكررت مقابلات فرج فوده بهيكل بعد ذلك أم لا ،و لكني أعلم أن حماس فرج فوده لهيكل قل كثيرا بعد ذلك ،و أن نظرته لهيكل أصبحت قريبة لنظرتي :" إذا أردت أن تعرف ما سوف يحدث فعليك معرفة رأي هيكل و تنبؤاته لأن ما سيحدث هو عكس ذلك تماما !".
أرجو ألا يشعر أحد أنني أكره هيكل ، لأنني لا أكرهه .
.......................
هذا المقال يعود إلى عام 2003 تغير الكثير بعدها ، فلم اعد عضوآ في حزب الوفد ،و لم يعد أبو العز الحريري نائبا ،ولم يعد فرج فوده حيا ،و أصبح هيكل أكثر بعدآ ان يكون كاتبا كبيرا سوى في العمر بالطبع .