مرحباً للجميع :
ترددت كثيراً قبل أن أطرح الموضوع هنا في نادي الفكر العربي لجملة أسباب كانت وما زالت تمنعني عن دخول النادي فضلاً عن الكتابة فيه .
فجرعة الديماغوجية والدوغما التي بتنا نقرأها في النادي ونستقرأها جاوزت كل حد محتمل وأرست لدينا شعور بعدم جدوى أي حوار أو نقاش مع أي طرف كان فيما يختص بالأزمة السورية نتيجة الأعصاب المشدودة .
ولأكون صريح معكم أكثر كأصدقاء وزملاء ، بعد أحد عشر شهراً على بداية الأزمة السورية بات من الضروري أن نجلس مع أنفسنا قليلاً ونهدأ ونطرح على أنفسنا الأسئلة ونعيد النظر في مواقفنا . بل أكثر من ذلك أن نفكر بحلول جدية وواقعية لهذه الأزمة توقف النزيف وتنقلنا من حالة الغضب وحفلات السباب والشتائم المتبادلة إلى حالة النقاش وتبادل الآراء ومد الجسور بين بعضنا البعض وإن تقطعت ... ففي النهاية لا غنى لنا كسوريين عن بعضنا البعض وهذا الطرح ليس من المنظور العاطفي بل من المنظور الواقعي البحت .
على كل حال قرأت اليوم نص مشروع الدستور السوري الجديد الذي سيطرح موضوعه للاستفتاء الشعبي قريباً ، في السادس والعشرين من الشهر الجاري على ما أظن .
جدياً لا أفكر في الذهاب للاستفتاء لأنني غير مقتنع بشفافية الإجراءات التي ترافق أي عملية تصويت في سوريا ، ولكن على فرض أني سأذهب للاستفتاء على هذا الدستور بالقطع سأصوت "بلا" كبيرة عليه .
رغم معرفتي بطبيعة الواقع السوري وتعقيداته ويقيني أن النظام لن يذهب إلى تداول السلطة مع أي طرف كان في الوقت الحالي لقناعته بأنه قوي وثابت على الأرض ، إلا أنني لا أخفيكم أنه بعد أحد عشر شهراً من الأزمة القائمة توقعت أن يكون مشروع الدستور السوري الجديد أفضل من هذا المشروع "البائس" المطروح للاستفتاء .
فباستثناء المادة الثامنة الموجودة في الدستور الحالي والتي تنص على أن "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية."
لم أجد تعديل جوهري أو حتى شكلي مهم يدفعني للاقتناع كمواطن سوري بهذا الدستور ، أو بأننا نعبر نحو مرحلة جديدة فعلاً .
وإن كان بعضنا يعلم أن الأزمة السورية قد تفجرت أساساً نتيجة مشكلة بنيوية يعانيها النظام ألا وهي وجود شرائح واسعة من المجتمع السوري غير ممثلة بشكل صحيح ضمن السلطة وهذا لا علاقة له بطائفة معينة أو دين معين أو أثنية معينة كما يعتقد البعض ، بالمقابل كلنا يعلم أن أحد مفاعيل هذه الأزمة هو القمع الغير مبرر ، والاعتداء الهمجي على كرامات الناس من قبل أجهزة الأمن الممسكة بالسلطة .
وبالتالي لا ينفع مع هذا الدستور كتابة كلام من قبيل "الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم" ، أو كلام من قبيل "المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة" ، لإشاعة الاطمئنان في نفوس السوريين .
فكهذا كلام لن يكون أكثر من حبراً على ورق ، إن لم يقترن بمبادئ دستورية وقوانين ناظمة لعمل السلطة تمنعها من ارتكاب التجاوزات . وعلى أي حال فإن هذا الكلام موجود بالدستور الحالي ولم يتم مراعاته أو الأخذ به خصوصاً فيما يختص بحق التعبير عن الرأي . فعن ماذا نتكلم بالضبط ؟
هل نتكلم عن المادة الثالثة في الدستور فيما يختص بتحديد دين الرئيس بالدين الإسلامي ؟
حقيقة هذه المادة لا تشغل بالي كثيراً كعلماني ، لجملة أسباب أهمها أن الوقت غير مناسب أبداً لتغييرها -هي موجودة في الدستور الحالي- مع تمدد وزحف الإسلام السياسي لدولنا . وبالتالي سوف نضيع الوقت على مادة لا تقدم ولا تؤخر في الواقع السياسي الذي نعيشه ولن تجلب أصلاً لغير المسلمين مساواة حقيقية في المواطنة إذا ما تم إلغاءها دون فهم حقيقي لطبيعة هذه المساواة وممارسة أصيلة لها ... ومعليش أنا بضمن السوريين المسيحيين أنهم "يطولوا بالهم" علينا بضع عشرات من السنين كمان حتى يدرك الشعب السوري ويستوعب أنهم مواطنين سوريين لهم ما له من حقوق وعليهم ما عليه من واجبات ... وبالتالي كما يقولون بالمثل العامي " الله يجعلها أعظم المصايب" إذا كانت هكذا كل المصائب . لكن للأسف هذه ليست أعظم المصائب .
أعظم المصائب هي في المواد الدستورية التي تختص بالسلطة التشريعية "مجلس النواب" ، والسلطة التنفيذية "الرئاسة والحكومة" ، والسلطة القضائية ، و"ختامها مسك" مع المحكمة الدستورية العليا التي هي الضامن الحقيقي لدستورية القوانين والتشريعات . هذه المحكمة التي لا يحق لها أن تنظر في دستورية القوانين التي يطرحها رئيس الجمهورية على الاستفتاء الشعبي وتنال موافقة الشعب !! .
يعني إذا أردنا أن نبسطها قليلاً بمثال توضيحي تصوروا معي ، إذا أحب الرئيس المؤمن - أياً يكن هذا الرئيس- أن يستفتي الشعب المؤمن -أياً يكن هذا الشعب- في يوماً من الأيام ، كي يأخذ تفويضاً منه للعمل على تحقيق دولة "العلم والإيمان" بواسطة القضاء على "الملحدين" مثلاً . فإن المحكمة الدستورية العليا لا تستطيع حتى أن تبدي رأيها بعدم دستورية هذا الاستفتاء كونه يعتدي على حرية المعتقد . وتستطيعون القياس على هذا المنوال .
بل الأجمل من هذا وذاك تناقض مواد الدستور مع بعضها البعض جملة وتفصيلاً . ولن أدخل في تفصيل هذا الأمر لسببين : أولاً لأني لست قانونياً فهناك من هم أخبر مني في هذا المجال يستطيعون إبداء الرأي القانوني فيما يتصل بهذا الموضوع . وثانياً حتى لا أطيل عليكم ، فتكاد كل مادة في الدستور -حقيقة- تحتاج إلى نقاش مطول وهي موضوع لغط حقيقي .
وفيما لو قرأنا الدستور الحالي ومشروع الدستور الجديد ، لوجدنا أن معظم مواده منسوخة ، لدرجة أنني في معرض المقارنة وأنا أقرأ الدستورين كنت أسأل نفسي لماذا شكلنا لجنة وطنية لإعداد الدستور الجديد . ألم يكن كافياً أن نذهب إلى مجلس الشعب وتعديل المادة الثامنة في ربع ساعة وكفى المؤمنين شر الاستفتاء ؟!
للاطلاع على نص مشروع الدستور الجديد :
http://www.sana.sy/ara/2/2012/02/15/400634.htm
للاطلاع على نص الدستور الحالي والمعمول به :
http://parliament.sy/forms/cms/viewPage....=30&cid=50
ملاحظة : آمل ممن يريد المشاركة في هذا الموضوع قراءة نص الدستور الجديد على الأقل ، وتجنب الطرح المتشنج الذي لا طائل منه .