أزمة الخطاب المعارض في سوريا
لربما من المفيد التعريج ولو بسرعة على الخطاب السياسي المعارض السوري الذي ساد خلال فترة الأزمة السورية ، للإضاءة على أحد أسباب وصول هذه الأزمة إلى طريق مسدود خلال كل الفترة الماضية ، قبل أن أتحدث عن الوضع الدولي والإقليمي الذي رسم جزء هام من مسار أحداث هذه الأزمة .
وقد يقول قائل أنه من الأجدى انتقاد الخطاب السياسي السلطوي قبل انتقاد الخطاب السياسي المعارض ، وأنه ... أي الخطاب السياسي للنظام السوري كان السبب في الأزمة . وحقيقة سأستغرب كثيراً من هذا الطرح لسببين اثنين :
أولهما : أن النظام السوري لم يعتمد أي خطاب سياسي حقيقي في الداخل السوري ، وبالتالي ما الذي سنناقشه بالضبط ؟.
وقد بات كلنا يعرف أن أحد مسببات الأزمة الرئيسية في سوريا هو عدم وجود خطاب سياسي للنظام يتوجه به للداخل ، يرتكز على فهم حقيقة مشاكل هذا الداخل ومتطلباته الملحة قبل أن تشتعل الأزمة وتتفاقم فيما بعد ، وأن النظام قد اعتمد صيغة الحل الأمني كحل أول وأساس ومؤسس لأي واقع على الأرض أثناء الأزمة ، لقناعته الجوهرية بأن أي خطاب سياسي لن يكون مجدياً ولن يثبته في وجه رياح التغيير التي هبت على المنطقة والتي تسيدتها الشعوب العربية المستفيقة من غفوتها الطويلة وهذا صحيح في جزء منه . ولسبب آخر جوهري أيضاً وهو أن أي خطاب سياسي معقول وطرح سياسي عقلاني داخلي من قبل النظام نفسه ، سوف يكون كرة الثلج التي ستتدحرج في الواقع السياسي السوري آخذة معها النظام في طريقها .
ثانيهما : أن الطرح السياسي القادم من النظام غير المؤسس على مشاركة أكبر قدر من شرائح الشعب السوري على اختلاف تلاوينها وانتماءاتها وأطيافها هو طرح غير عملي في هذه المرحلة ، ولا أدل على ذلك من تعديل الدستور السوري مؤخراً والذي تم الاستفتاء عليه في 26-2-2012 . وكل ما رافق هذه التجربة من لغط يبعث على الشعور بالخطوات السياسية المسرحية أكثر مما يبعث على القناعة بأن هناك حلول عملية تعالج الواقع السوري .
وبالتالي موضوع مناقشة غياب الخطاب السياسي للنظام السوري هو أمر مفروغ منه كونه أحد مفاعيل الأزمة الأساسية .
يبقى أن نناقش الوجه الآخر للأزمة وهي أزمة الخطاب المعارض وما اعترى هذا الخطاب من أخطاء وخطايا عشوائية تارة وممنهجة تارة أخرى ، استطاعت أن تستنفر كل المشاكل والحساسيات في وجه عملية التغيير اللازمة للواقع السياسي السوري .
فتأرجُح هذا الخطاب بين الديماغوجية السياسية والشعبوية الجماهيرية والطروحات التعبوية المسطحة ، جعل منه خطاباً مأزوماً بكل ما للكملة من معنى أكثر منه خطاب يرتقي لمستوى الأزمة ويتفاعل مع الحدث .
ولربما لا نذيع سراً عندما نتكلم عن وجود إنفصال حقيقي في العمق بين الحراك الشعبي المنتفض وبين كوادر المعارضة السياسية التي حاولت التكلم باسم هذا الحراك وإن كانت الصورة تدل على غير ذلك ، لكن النقطة التي يغفل عنها البعض وربما يتغافل عنها البعض الآخر ، هي الأزمة التي خلقها كل من هذين العنصرين لبعضهما البعض وبالتالي لعملية التغيير المنشودة في سوريا .
فكل فوضى وغوغائية زائدة عن اللزوم ناتجة عن قمع النظام لهذا الحراك او عن غياب الدولة في بعض الأماكن ، يتحمله هذا الخطاب المعارض ويحاول أن يبرر له بطريقة ممجوجة أحياناً ، وكل خطأ في التقدير أو بسبب غايات سياسية تتعلق بالمعارضين أنفسهم ولا علاقة لها مباشرة بمصلحة هذا الحراك ، اضطر أن يتحملها هذا الحراك رغم أن لا علاقة بنيوية أو مصلحية له بهذه المقاصد والغايات .
وهذا ما يشكل أحد أهم الأسباب في تشتت الشارع المعارض ، وحياد قسم كبير من الشارع السوري المعني بالتغيير في هذه الأزمة واكتفائه بالتعاطف مع المنتفضين رغم كل الدماء التي بذلت من قبل المحتجين السلميين في بداية الأزمة .
ففي تفصيل لغة العواطف ترى التيار الأعم – غير الراديكالي من الجهتين- من الشعب السوري متعاطف مع بعضه البعض في الأزمة ، ولكن عندما يصبح الأمر منوطاً بلغة العقول تبرز الخلافات العديدة والرؤى المتناقضة لتطفو على السطح .
ولا أعلم إن كان مجدياً سوق الأمثلة ، لأن موضوع الأمثلة سيغرقنا في التفاصيل التي قد نختلف عليها نتيجة اعتماد كل شخص مجموعة مبادئ وقناعات مرجعية مختلفة ، ناظمة لرؤيته الوطنية والسياسية والمجتمعية . والذي سيؤدي بنا إلى الغوص في تفاصيل الخطاب المعارض باختلاف تلاوينه والأحداث وهذا يتطلب عدة مداخلات منهجية على أقل تقدير ولا يمكن حصره في مداخلة مركزة ومختصرة .
فلو تطرقنا مثلاً إلى موضوع التدخل الخارجي ، والطرح الذي تم تسويقه على أنه الخلاص الوحيد من أجل سقوط النظام ومع كل ما رافق هذا التصوير من مفاعيل سلبية إن لجهة إقناع الشعب السوري بتدني قدرته الذاتية على التغيير وبالتالي شعور كامن بالدونية المترافقة بالعجز ، أو لجهة تصوير النظام وكأنه نظام فولاذي غير قابل للانهيار تحت قوة الضغط الشعبية وهذا غير صحيح في الواقع . قد أدى هذا الطرح المستوحى والذي سعى إليه البعض ولعب عليه البعض الآخر في الدخل والخارج لأسباب عديدة تتصل بسوء التقدير للحظة السياسية الراهنة ، أو لاستعجال التغيير أسوة بالتجارب العربية التي سبقت هذه الأزمة ، أو بسبب خبرة فاشلة سابقة في مواجهة هذا النظام –أحداث الثمانينات- وما ترافق مع هذه الخبرة من تراكمات سلبية في العقل الجمعي السوري ... كنت أقول أدى في النهاية إلى الدخول في نفق مسدود مليء بالحلول غير القابلة للتطبيق في أحسن الأحوال ، واستثارة الحساسيات الوطنية في أسوءها .
ولا بد هنا من أجل الانصاف أن نقول أن أحد الأسباب الرئيسية في صعود الخطاب المعارض المستثير للحساسيات بعد فترة من بداية الأزمة السورية ، كان النظام يتحمل جزءاً كبيراً منه لأنه قام بتصفية وإبعاد الشباب المثقف والمتعلم وفصله عن هذا الحراك وزجه في السجون . بينما ترك الشارع لشباب متطرف غير مثقف سياسياً يدير هذا الحراك لا يدرك أبعاد الطروحات الخلافية التي كان يقدمها للشعب السوري عبر خطابه الموجه من الخارج والداخل .
وإذا أردنا أن نكمل الصورة وأن نكون منصفين للنهاية . يجب علينا أن نقر بأن الغالب الأعم من القوى المعارضة –التي تتواصل مع الشارع عبر الفضائيات الخليجية- والتي حاولت الارتباط بهذا الحراك لم تتحلى بالوعي الكامل لخطورة هذا الوضع على عملية التغيير المنشودة ، بل ولم تتحلى بالشجاعة الكافية لكي تقول للجماهير أنت أخطات حيث أخطأت ، خوفاً من خسارة شعبية مفترضة بين الناس هي غير موجودة فعلياً في رصيدها . وبات الوضع مرهوناً بحلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل المضاد المتوزع بين السلطة والمنتفضين وبطريقة تناوبية (1) . فكلما ارتفع عنف السلطة ارتفعت الطروحات المؤمنة بعجز الشارع عن التغيير السلمي وبالتالي رد العنف بالعنف المضاد غير المتكافئ أصلاً ، وكلما ارتفع عنف الشارع في وجه السلطة ارتفع عنف السلطة كي يقمع هذا العنف لندخل بعد ذلك في دوامة وقودها دماء السوريين من كل الاتجاهات وخطاب من المزايدات التي لا تنتهي يتراقص على أشلاءهم ، أصحابها سلطة تؤمن بحل أمني كمخرج وحيد لبقاءها ومعارضة تفتقد الطرح السياسي الذي يؤمن المخرج المقنع ويسقط الحل الأمني –عبر سلمية الاحتجاجات- ويبين مدى عقمه وبشكل نهائي لا لبس فيه (2).
ومن أحد أسباب الأزمة التي يعيشها الخطاب السوري المعارض أيضاً ، هو تطبعه بطبائع الخطاب السياسي السلطوي الذي مورس عبر العقود الماضية ، وإعادة إنتاجه لكل سيئات هذا الخطاب .
هذا الخطاب المتطبع بالشعبوية المفرطة التي ترتكز إلى الديماغوجية الوقحة ، والمفاهيم التعبوية المقولبة بالرؤية الأحادية ، والشعارتية التي تفرغ كل هدف من مضمونه مع تعذر الفعل . استعمله النظام على مدى عقود لمصادرة العقل الجمعي السوري واحتكار هذا العقل ليبقى تحت سلطته وأسير رؤيته .
لكن الغريب والمؤسف في آن معاً ، أن يتسلح الخطاب المعارض –الراديكالي- بكل أدوات الخطاب السلطوي في سوريا . في مشهدية مؤسفة بكل ما للكلمة من معنى ، بحيث أن التعاطف الشديد الذي ترافق مع الحراك الشعبي وما تعرض له من قمع من قبل السلطة والذي كان من الممكن أن يتحول إلى تيار جارف في وجه السلطة مع اكتمال شروطه الموضوعية وإعطاءه فرصة من الوقت ، تحول نتيجة هذا الخطاب إلى تبني ردة فعل سلبية تجاهه من قبل قطاعات مختلفة من الشعب أدركت أن الخطاب السياسي المعارض لبعض القوى هو الوجه الآخر لخطاب السلطة الذي أكل الدهر عليه وشرب وعانى السوريون منه القرف الشديد .
نستطيع أن نضيف إلى كل ما سبق حالة تخشب خطابي دخلت فيها السلطة وانجرت معها المعارضة في قطاعت واسعة منها إلى هذه الحالة ، بحيث أنه طغى على معظم الأحاديث السياسية المعارضة والنقاشات الفكرية التي تهدف إلى إيجاد حلول أو حلحلة للوضع المستعصي السائد ، مفهوم أن الوقت الآن وقت مواجهة ولا صوت يعلو على صوت المعركة !!.
وأن لا وقت لنا لممارسات نخبوية من قبيل النقد الذاتي أو تصحيح أخطاءنا في ظل القمع ، بل أن كل الأخطاء يجب أن تكون مبررة حتى ولو تضخمت لتصبح خطايا ، وأنه يجب علينا احتراماً لدماء الضحايا أن نصمت وأن لا نفكر أو أن نتكلم ، وجل ما يجب علينا فعله أن ينحصر تفكيرنا في جدلية الفعل ورد الفعل .
ولربما أتفهم هذا الطرح الصادر عن شخص مكلوم أو عن شخص تعرض لقمع النظام المباشر ، لكنني لا أقبل هذا الطرح الصادر عن سياسي معارض المفروض أنه يمثل قوى سياسية وطنية تبحث عن حل سياسي للأزمة وتبلور مخرجاً للمأزق الذي نحن فيه بغض النظر عن مسببها وأسبابها .
فالدوران في ذات الحلقة المفرغة لن يقدم شيء للشعب السوري ، ولن يخدم قضية التغيير المحقة والعادلة ، ولن يوصلنا إلى الخروج من عنق الزجاجة . وإن كانت رؤية البعض تتلخص في أن الحل يكمن في سقوط النظام ، فإن الرؤية الأعم والأشمل تتلخص في تغيير النظام بحيث تعبر سوريا كلها نحو التغيير الجذري والشامل مع هذه العملية ، وأن لا تقتصر العملية على إسقاط قوى سياسية قائمة في السلطة الحالية لإحلال قوى سياسية أخرى مكانها وإن كان هذا الإحلال هو أحد مراحل التغيير اللازمة .
في النهاية ... لعل التوصيف الدقيق لفعل القوى السياسية الراديكالية الفاعلة من الجهتين والذي ساد هذه الأزمة خلال الفترة الماضية ، نستطيع أن نقسمه في المجمل إلى معلمين بارزين : خطاب المعارضة السلطوي في مواجهة قمع النظام السلطوي !.
الهوامش :
1- في إحدى الجلسات التي تصادفات في الأيام الأولى لدخول الجيش إلى درعا مع بدايات الأزمة . وبينما نحن نتحدث حول الوضع السوري ، بادرني صديق لي من درعا -رجل محترم ،نظيف اليد ،دمث الأخلاق ،قد ناهز الخامسة والخمسين من عمره - بسؤال استفساري وقال لي : هلى تعتقد بأن نزول الدبابات للشوارع هو الحل ؟
فكان جوابي ببساطة بأن هذا حل من لا يملك حل للأزمة . وتابعت قائلاً إن الكرة اصبحت الآن في ملعب القوى السياسية المعارضة . فبادرني أحدهم بصيغة استنكارية وكيف يكون الحل والقوى على الأرض هي بيد الدولة ؟
فكان جوابي : الموضوع ببساطة قد حسم ، السلطة قالت وبشكل صريح أن لا حل لديها لهذه الأزمة سوى الحل الأمني ، وبالتالي على القوى السياسية المعارضة أن تسعى لبلورة رؤية تكون جامعة لأكبر شريحة من الشعب السوري كي تقدم بديلاً مقنعاً للوضع القائم ومخرج آمن من هذه الأزمة نتيجة الالتفاف الشعبي حولها وحول طروحاتها لا أن تكتفي بالصراخ في وجه القمع (نهاية الحديث) .
وللأمانة لا أخفيكم منذ نزول الدبابات لأول مرة إلى شوارع درعا وحتى الآن السؤال الذي يتبادر إلى ذهني هل تغير الوضع القائم ؟ . بل لا زال الحل الأمني هو المتبع من قبل السلطة ولا زال الصراخ والعويل على الفضائيات هو برنامج المعارضة الأساسي في وجه هذه السلطة !.
2- إن ظهور العنف المضاد للدولة أعطى انطباعاً للكثيرين أن حالة اللا استقرار ودوامة العنف يجب أن تحل أمنياً كخطوة أولى ، ومن ثم يتم ذهاب الأطراف المتصارعة إلى الحوار السياسي بعد تثبيت الاستقرار الأمني .