بعد أن زعمت في مكان آخر أن عقيدة الثالوث لا وجود لها في التوراة اليهودية، رد عليّ الاستاذ عبدالمسيح بعدة آيات، و أود هنا الرد على عبد المسيح حيث أن لي بعض الدراية المتواضعة بالأمر.
تتعلق مزاعم المسيحيين بوجود عقيدة الثالوث في العهد القديم و التوراة اليهودية، بعدة تخبيصات لغوية و تاريخية. قبل أن أبدأ بالخوض في الأمثلة التالية، أود أن أقول أنه من المنطق أن يفترض القارئ أن كبار الحاخامات اليهود و رجال الدين أدرى بلغتهم و كتابهم من المسيحيين الذين باتوا يعيدون تفسير الكتابات اليهودية لتناسب عقائدهم على هواهم، و كأن اليهود كلهم حمير و لم يلاحظوا أن عقيدة الثالوث موجودة في كتابهم المقدس بكثرة و هم الذين يقرأونه ليل نهار و لم ينتبهوا لها!
لنأخذ عدة أمثلة، يعتمد عليها المسيحيون و يصدقها من لا علم له باللغة العبرية و العادات اليهودية القديمة:
--
المزمور 110 : 1 قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ
في هذا المزمور، يستخدم النص العربي كلمة "رب" مرتين، و النص الانجليزي يستخدم كلمة Lord، بينما النص الاصلي العبري يستخدم كلمة يهوه (أي اللـه) في الحالة الاولى، و كلمة أدوني אדֹנִי (أي السيد) في الحالة الثانية. يعني الآية تقول، "قال اللـه لسيدي اجلس عن يميني،" و هنا يحدث اللـه مسيح اليهود (أي ملكهم و سيدهم) و يقول له أنه سيرفع مقامه بين الأمم و ينصره على أعدائه. اذن لا يوجد هنا أثر لعقيدة الثالوث. و الجلوس على يمين اللـه هنا لا يؤخذ بمعناه الحرفي، بل هو كناية عن تكريم اللـه لملك اليهود و رفع قامته أمام الأمم بصفته سيد الشعب الذي اختاره اللـه.
لمن يعرف قراءة الحروف العبرية على الأقل، يمكنه الاطلاع على النص الاصلي للتوارة هنا:
http://www.mechon-mamre.org/p/pt/pt26b0.htm
من الواضح أن النص يقول، "قال يهوه لأدوني.." و هذا يعني "قال اللـه لسيدي" و ليس كما يريد المترجمون المسيحيون أن يوهمونا بأنه يقول، "قال الرب لربي".
دليل من سياق آخر لو قرأنا النص التالي من
1 صموئيل 29 - 8 فَقَالَ دَاوُدُ: «مَاذَا جَنَيْتُ، وَأَيُّ عِلَّةٍ وَجَدْتَ فِي عَبْدِكَ مُنْذُ أَنْ مَثُلْتُ أَمَامَكَ إِلَى الْيَوْمِ حَتَّى لاَ أَشْتَرِكَ فِي مُحَارَبَةِ أَعْدَاءِ
سَيِّدِي الْمَلِكِ؟»
كلمة "سيدي" هنا واردة في النص العبري "أدوني" אדֹנִי . و المترجمون يعلمون هذا و ترجموها بشكل صحيح الى "سيدي"، فلماذا اذن غيروا في ترجمة المزامير، و غيّروا كلمة "سيد" الى "رب"؟؟
-----------
أمثال 30 : 4مَن صَعِدَ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ؟ مَن جَمَعَ الرِّيحَ في حُفْنَتَيْهِ؟ مَن صَرَّ الْمِيَاهَ في ثَوْبٍ؟ مَن ثَبَّتَ جَمِيعَ أَطْرَافِ الأَرْضِ؟ مَا اسْمُهُ وَمَا اسْمُ ابْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟ 5كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ نَقِيَّةٌ.
أولا: هنا النص يتكلم عن اللـه، و يقول أن اللـه صعد الى السماوات و نزل، و جمع الريح و صر المياه و ثبت أطراف الارض. اذن هذا الكلام عن اللـه و ليس عن إبن اللـه.
ثانيا: فيما يتعلق بلفظة ابن اللـه، فقد شاع عند اليهود تلقيب الكثير من رجالاتهم من ذوي المقامات المقدسة و العالية بأبناء اللـه مجازا.
من الأمثلة على ذلك خروج 22:4، حيث يعقوب اسرائيل تم تلقيبه بإبن اللـه البكر! (و الإبن البكر له مقام رفيع المستوى عند اليهود). و في اماكن اخرى افرايم تم تلقيبه بإبن اللـه و كذلك الملك داود و غيرهم. لا يوجد و لا يهودي واحد يعتقد أن هؤلاء فعلا آلهة او ابناء فعليين للـه، و انما اللفظة تستخدم بشكل مجازي.
لا أدري لماذا يحمل المسيحيون هذه الكلمات فوق طاقتها بما لا تحتمل، و أنا سمعت من عدة لاهوتيين مسيحيين يرددون هذه الاقاويل في كنائسهم بهذه الامور، مستغلين حقيقة ان المسيحيين المعاصرين لا يعرفون اللغة العبرية و لا يعرفون التقاليد اليهودية. و كأن لفظة "ابن اللـه" هي لفظة فريدة لم يتفوه اليهود بها عن أحد إلا يسوع!
----------------
أشعياء 48
14اِجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ وَاسْمَعُوا. مَنْ مِنْهُمْ أَخْبَرَ بِهَذِهِ؟ قَدْ أَحَبَّهُ الرَّبُّ. يَصْنَعُ مَسَرَّتَهُ بِبَابِلَ وَيَكُونُ ذِرَاعُهُ عَلَى الْكِلْدَانِيِّينَ. 15أَنَا أَنَا تَكَلَّمْتُ وَدَعَوْتُهُ. أَتَيْتُ بِهِ فَيَنْجَحُ طَرِيقُهُ. 16تَقَدَّمُوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا هَذَا. لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنَ الْبَدْءِ فِي الْخَفَاءِ. مُنْذُ وُجُودِهِ أَنَا هُنَاكَ وَالآنَ السَّيِّدُ الرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ.
من الايات السابقة (14 خصوصا)، يلاحظ القارئ هنا أن اللـه يتحدث عن عن ملك البابليين (و يقول المؤرخون أن اسمه"سايرس")، حيث تمت كتابة أشعياء أثناء سبي اليهود الى بابل، و يقول النص أن اللـه سعد بيايرس و مكّنه من هزيمة الكلدانيين. اذن النص لا يتكلم عن المسيح، بل عن سايرس.
أما عبارة "منذ وجوده أنا هناك"، فإن أدق الترجمات الحديثة NRSV (التي لا تختلف عن غيرها حقيقة) تقول النص التالي:
from the time it came to be I have been there
النص العربي يقول "وجوده" و كأنه يرمز الى وجود اللـه و هنا تكمن الصعوبة في النص العربي الذي يستخدم "هـ" الضمير، بينما الترجمة الصحيحة فيها الضمير "it" و من المستحيل ان يرمز ضمير الجماد هذا الى اللـه بل الى الأمر الذي يتحدث فيه "في الخفاء" كما هو وارد في النص. يعني القائل يريد أن يقول أنه كان هناك منذ بدء الأمر، و لم يقل أنه كان هناك منذ بداية اللـه!
-----------------
أمثال 8 : 22«اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ مُنْذُ الْقِدَمِ. 23مُنْذُ الأَزَلِ مُسِحْتُ مُنْذُ الْبَدْءِ مُنْذُ أَوَائِلِ الأَرْضِ. 24إِذْ لَمْ يَكُنْ غَمْرٌ أُبْدِئْتُ. إِذْ لَمْ تَكُنْ يَنَابِيعُ كَثِيرَةُ الْمِيَاهِ. 25مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقَرَّرَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ التِّلاَلِ أُبْدِئْتُ. 26إِذْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَنَعَ الأَرْضَ بَعْدُ وَلاَ الْبَرَارِيَّ وَلاَ أَوَّلَ أَعْفَارِ الْمَسْكُونَةِ.
لو قرأ أي شخص عادي الفصل الثامن من كتاب الأمثال في العهد القديم، يرى و بوضوح أن الكاتب يتكلم عن الحكمة و المعرفة بشكل مجازي، داعيا القراء الى تحصيلها. و هذا التشخيص للحكمة الموجودة في سائر الكون لا علاقة له بالثالوث. يبدأ الكتاب قائلا: 1أَلاَ تُنَادِي الْحِكْمَةُ؟ أَلاَ يَرْتَفِعُ صَوْتُ الْفِطْنَةِ هَاتِفاً؟ إلخ على لسان الحكمة. و هذه الطريقة في الكتابة كانت شائعة عند الكثير من اليهود و غيرهم و تعتمد على تشخيص أمور لا شخص لها، مثل الحكمة و الضمير و العقل. فمثلا عندما يقول المرء، "ماذا يشير عليّ ضميري؟" فهو هنا لا يعني أن ضميره شخص يشير عليه و يتكلم معه!!
هناك أمثلة كثيرة. مثلا، عندما نقول أن النظام يحكم الكون، فهل هذا يعني أن النظام شخص أزلي موجود أبدا و يحكم الكون كإمبراطور؟
عندما يأتي شخص و يقول لك، "المنطق و العدل يحكمان بكذا و كذا،" فهل هذا يعني أن المنطق و العدل أشخاص ملوك يحكمون و يقررون؟؟ طبعا لا فالاستعمال هنا مجازي.
طيب المسلمون يقولون أن اللـه رحمن رحيم كريم جبار، الخ. فهل هذه الصفات كلها آلهة جالسة مع اللـه تحكم معه؟
------------
أشعياء 9 : 6لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّاً رَئِيسَ السَّلاَمِ.
هنا نأتي لحالة فريدة من الافتراء على النصوص. جملة "إلها قديرا" واردة في النص العبري كإسم للملك الموعود، و ليس كصفة. أي أن الإسم يصف اللـه بالقدرة و الجبروت، و لا يصف الملك بالألوهية. جملة "إلها قديرا" واردة في النص العبري على شكل اسم "إل جبور". و كان الاجدى بالمترجمين المسيحيين ترجمتها الى "يدعى اسمه عجيبا مشيرا إل جبور" مثلا، و لكنهم لغاية نعلمها اليوم، ترجموها حرفيا الى "إلها قديرا".
قد يخفى على القارئ أن اليهود اعتادوا على تسمية اولادهم بأسماء يرد فيها اسم اللـه و صفاته. فمثلا، اسم "حزقيال" تعني اللـه القوي. و أيضا جبرائيل تعني اللـه الجبار. يشوع او يسوع هو اسم عبري يعني اللـه يخلص. و هذه الاسماء و غيرها موجودة عند اليهود قبل و بعد المسيح، و يتسمى بها الكثير من الناس. فهل كل هؤلاء الناس آلهة يا ترى؟
طيب لماذا لم يترجم المسيحيون اسم "حزقيال" الى "اللـه القوي"؟ لماذا لم يترجموا اسم "جبرائيل" الى "اللـه الجبار"؟ لأنهم يعرفون أن هذه مجرد أسماء لأشخاص و الأسماء لا تترجم حرفيا. فمثلا اذا كتبنا اسم عبداللـه بالانجليزية، نكتب Abdullah و لا نكتب worshipper of God!
و هذا دليل آخر على تواطؤ المترجمين المسيحيين مع العقيدة و ليس مع العمل الصحيح بموضوعية اثناء ترجمتهم للتوراة اليهودية.
-----------
دانيال 7 : .13كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ.
لفظة ابن انسان هنا أخذها المسيحيون و جعلوا منها لفظة سحرية. للعلم فهذه اللفظة بالعبرية تعني مجرد انسان، و استخدمها اليهود لوصف الكثير من الناس.
و اليهود هنا يشبهون العرب في استخدام لفظة "بني آدم" كناية عن انسان، حيث يقولون בן־אדם (بن آدم). أما لفظة "ابن الانسان" فحديث دانيال هنا عن "ابن انسان" يأتي و يحكم كل الأمم و لا نهاية لملكه هو عن ملك اليهود الموعود و المنتظر ليخلصهم من السبي و من ظلم الأمم الاخرى، و قد كتب دانيال هذا الكلام اثناء سبي اليهود الذين كانوا يتوقون الى ملك يخلصهم من الاجانب الذين هزموهم و الاعداء الذين دمروا مملكتهم، و لا علاقة لهذا الكلام بالثالوث او الاقانيم. و في كتاب حزقيال، نجد أن لفظة "ابن الانسان" مستعملة كثيرا للكلام عن حزقيال نفسه. فكيف اذن أصبحت هذه الآية ترمز الى الثالوث او الى المسيح؟
------------------
يصر بعض المسيحيين على أن اللفظة العبرية "إلوهيم" الواردة في سِفر التكوين كناية عن اللـه، هي لفظة بصيغة الجمع، مما يدل على الثالوث.
لقد قرأت عددا من المصادر في الماضي حول الموضوع، و لكن ليس أنجع و أفضل من الموسوعة الكاثوليكية للرد على هذا الكلام، حيث تقول بأن صيغة الجمع العبرية هنا يتم استعمالها للدلالة على التجريد المفهومي conceptual abstraction و ليس الجمع العددي. في سِفر الخروج مثلا، هناك نص يقول بأن موسى هو بمثابة إله لأخيه (خروج 16:4)، و هذا يرمز الى سيادة موسى على أخيه، كما يسود اللـه على البشر. و النص يقول "إلوهيم" بالجمع التجريدي. فلو افترضنا أن إلوهيم ترمز الى ثالوث، فما معنى تشبيه موسى بالإلوهيم هنا يا ترى، هل يُعقل أن موسى أيضا ثالوث؟؟ و استخدام صيغة الجمع عند الرمز للإله الواحد لم يكن أمرا مقتصرا على اليهود بل أيضا على الشعوب الاخرى التي عاشت حولهم. الأمر لغوي بحت. و صيغة الجمع التجريدية هذه تنطبق على الكثير من الكلمات في اللغات السامية القديمة، و ليس فقط اللـه.
لمزيد من المعلومات و الاستفاضة حول كلمة "إلوهيم"، هذه الصفحة بالانجليزية على الموسوعة الكاثوليكية الرسمية للمهتمين:
http://www.newadvent.org/cathen/05393a.htm
لماذا يصر المسيحيون أن يزجوا عقائدهم المبتدعة في اوائل القرن الثاني الميلادي في نصوص التوراة العبرية؟ بالأدلة الدامغة، هذا لا أساس له من الصحة. و لا يوجد خبير لغات او مؤرخ عبري يجد أي أثر للثالوث في التوراة اليهودية.
تحية،