[CENTER]
تابع: ما هو العلم. و هل العلم نوع من الأيديولوجيا؟
ما هو المنهج العلمي؟
لعلها ليست مصادفة بمجتمعاتنا أن نسمع كلمة المنهج العلمي أو العلم فتتلون إنطباعاتنا النفسية بلون التشكك و الرفض و النظرة الفوقية لما نسمع و كأننا نمتلك الحكمة المطلقة (و نحن أول من نعلم أننا لا نملكها).
و لعلها ليست مصادفة أن يحك حكماؤنا جبهاتهم و هم يكشفون لنا أبعاد المؤامرة من هذه النظرية العلمية أو ذلك الإكتشاف الوافد من عالم الغرب و نحن نصفق لهم بإرتياح مصطنع.
و لعله من الأفضل و المريح نفسيا لنا أن نظل نعتقد أن العلم هو منتج أيديولوجي فكري لمجتمع مخالف لنا - كان - و نحب أن نعتقد و نؤمن أنه لازال - عدوا تاريخيا لنا.
أليس من الأفضل لإستقرارنا النفسي إعتباره منتج فكري أيديولوجي - في مقابل منتجنا الفكري - و قد يكون أي منهما هو الصحيح؟
الغرب المسيحي في مقابل الشرق المسلم - فلندع الأمر عند هذا الحد - و لنقيم مهرجانات التهريج بمواضيع مثل المناظرات الدينية.
و لكن - و يالتناقض الذي لا يدفعنا للتفكير - فلنريح نفسياتنا أكثر و ندعي أن كل هذه العلوم موجودة عندنا و نعلمها مسبقا - في واحدة من أكبر النكات التاريخية.
هل العلم حقا نوعا من الأيديولوجي؟
دعنا أولا نطرح الخلافات الأيديولوجية و الدينية لكافة المجتمعات و الشعوب جانبا - و لنسأل التساؤل الآتي:
ما هي نوعية المعلومات أو القضايا التي يمكن تمريرها ببساطة بين جميع الأفراد بغض النظر عن هوياتهم و دينهم و مجتمعهم - بدون إختلاف - بل و بدون القدرة على الإختلاف؟
و دعنا نعود للخلف قليلا في موضوعنا الحالي في:
ما هو اليقين و كيف يستقي الإنسان يقينه؟
كنا قد حددنا طرق تمرير الأفكار / اليقين بين البشر بالآلية:
1- لدي يقين بقضية ما.
2- أطرح القضية على فرد مختلف - أي أخرجها من داخلي (يقيني الشخصي) بأي وسيلة نشر - لكي أعرضها على الشخص الآخر في صورة موضوع / فكرة / أفكار محاولا إقناعه بها و تحويل هذا اليقين الشخصي الذي عرضته في صورة فكرة موضوعية - تحويله ليقين لدى هذا الشخص الآخر.
3- الشخص الآخر يفكر / يحلل القضية التي عرضتها - لكي يقبلها أو يرفضها.
في هذه الآلية تكون الفكرة ذاتية في الخطوة 1 ثم موضوعية في الخطوة 2 ثم تعود لتكون ذاتية في الخطوة 3
و الحالة الموضوعية للفكرة هي الحالة التي تكون فيها الفكرة موضوع خارجي قيد الإختبار و الحكم - قبل التمرير للغير هي ما يهمنا بالأمر كله.
و نعلم جميعا أنه توجد أفكار / قضايا يمكن تمريرها بسهولة بين البشر بغض النظر عن إنتماءاتهم - و في المقابل توجد أفكار / قضايا دون تمريرها الدماء. فهل لنا أن نحاول تحديد نوعيات هذه و تلك من القضايا؟
حسنا سوف يقوم المتلقي بتحليل أو غربلة القضية أو الفكرة لمطروحة عليه و هذا حسب تصنيف القضايا الذي كنا قد حددناه بنفس الموضع السابق كالآتي:
1- قضايا ذاتية اليقين: و هي قضايا تجريدية بالكامل و لا تحتاج للتجريب بالعالم الخارجي و هي القضايا المنطقية و الرياضية من أسهلها و إلى أعقدها شكلا. و في هذه الحالة فالمتلقي سوف يعمل ما عنده من قوانين موجودة مسبقا و كبنية تحتية للعقل الإنساني على هذه القضية للتيقن من صحتها أو عدمه.
و كمثال (1+1=2 سوف تعتبر قضية صحيحة) و (1+1=3 سوف تعتبر خاطئة) سواء كان المتلقي من الشرق أو الغرب - مسلم أم هندوسي. سوف تمر تلك النوعية من القضايا بين الذوات العاقلة بدون مشاكل. و لن يختلف الأمر في أعقد القضايا الرياضية و المنطقية سوف يحتاج المتلقي للخبرة الزائدة لتمكينه من تحليلها و تفكيكها لصورها البسيطة ثم الحكم عليها أيضا.
2- قضايا غير ذاتية اليقين تحتاج للتجريب / اليقين الخارجي: و فيها سوف يقوم المتلقي بتمريرها أولا و آليا على مصفاة المنطق لكي يتأكد من عدم تناقضها الذاتي - أي أنها ممكنة منطقيا - ثم إذا كانت كذلك يبدأ ببحثها خارجيا و تنقسم تبع هذا لثلاثة حالات فقط:
(أ) قضايا غير ممكنة منطقيا: و هي قضايا خارجية لكنها متناقضة ذاتيا و هنا فالقضية لا يلزم تجريبها خارجيا
و في هذه الحالة لن يتعب المتلقي نفسه بذلك لأن القضية لم تمر على مصفاة المنطق.
و كمثال (يوجد كلب أسود بالغرفة و لا يوجد أي كلاب بالغرفة) قضية متناقضة و مرفوضة مسبقا و لن تستدعي المتلقي لدخول الغرفة من الأساس.
(ب) قضايا ممكنة منطقيا و يمكن إختبارها بالعالم الخارجي: و هنا بعد أن مرت القضية بنجاح على مصفاة المنطق سوف يذهب المتلقي للتأكد من كلامي بنفسه - و قد يكون كلامي صحيحا - أو خاطئا.
و كمثال (يوجد كلب أسود بالغرفة) - (الجو بارد بالخارج) - (درجة غليان الماء 100 مئوية) - (المقذوفات تسير على شكل قطع ناقص) - و هكذا إلى أعقد القضايا مثل (الزمن يتباطأ حال زيادة السرعات لما يقترب و سرعة الضوء) كل هذه القضايا ممكنة منطقيا و قابلة للتجريب و التأكد بالعالم الخارجي سواء أبسطها و بواسطة أي فرد أو أعقدها و بواسطة إمكانات هائلة و معقدة - إلا أنها تظل ممكنة التجريب و هذا لكلا الإثبات و النفي خارجيا بلا أي حساسيات لدى المتلقي.
(ج) قضايا ممكنة منطقيا و لا يمكن إختبارها بالعالم الخارجي: و هنا و برغم أن القضايا ممكنة منطقيا إلا أنها تحمل في ذاتها إستحالة التيقن الخارجي - لكي تظل مجرد إحتمال.
و كمثال (الغرفة مليئة بكائنات غير مادية لا يمكن أن نراها) - (الغابة مليئة بأرواح الموتى من أسلافنا) - (حين نموت نذهب للجنة - للناحية الأخرى من الشاطئ - للجزيرة المقابلة - للسماء - نتلاشى - .... و إلى آخر تلك الإحتمالات) - (يوجد إله واحد خلق العالم - يوجد عدة آلهة - لا يوجد آلهة على الإطلاق .. إلخ).
جميع تلك القضايا لا يمكن التأكد من صحتها أو عدمه و هنا يسقط بيد المتلقي - فكيف يوافقني على كلامي أو لا يوافقني ؟؟
و يمكننا الرجوع للحوار الكوميدي أحيانا بين أتباع الديانات المختلفة - و الذي ينتهي عادة بالسب و القذف - إن لم يكن بالدم - بلا نتيجة ترجى منه.
و الآن - أين العلم من كل هذا؟؟
العلم لا يهتم إلا بالبنود:
البند (1) و تهتم به العلوم الصورية التجريدية (الرياضة و المنطق).
البند (2 - ب) و تهتم به العلوم التجريبية مثل الفيزياء و الكيمياء و البيولوجي .. إلخ.
العلم ببساطة و وضوح هو إستخدام طرق التيقن الإنساني و التي لا و لم يختلف عليها على مر التاريخ. و لا بإختلاف العقائد - و لا العادات و لا التقاليد و الأخلاق.
العلم هو منهج إستخدام البني شديدة التحتية للعقل الإنساني - من البدائي لشديد الحداثة - أي أن العلم قديم قدم الإنسانية - و ليس منتج مخترع.
المنهج العلمي هو منهجة و تقنين الطريقة التي طالما إعتمدها بنو البشر للتيقن بعد تصفيتها من الشوائب الميتافيزيقية و غير القابلة للحكم نهائيا بينهم.
و المنهج العلمي منتج غير مخترع - لكنه مجرد البنية التحتية لكامل العقل الإنساني بعد تصفيتها. و بالتالي طبعا فالمنهج العلمي و العلوم بالكامل لا تمثل أيديولوجي على وجه الإطلاق - و لا يمكن بحال إعتبارها منتج لحضارة معينة أو جنس بشري معين.
و رفض العلوم و المنهج العلمي (بإعتباره أيديولوجي) هو ببساطة رفض صريح للإنسانية بالكامل. و خروج من دائرة العقلاء للمفصومين.
و فرضية رفض المنهج العلمي في حقيقتها فرضية متناقضة ذاتيا و لا تستقيم - لأنه لن يستقيم بعد رفض الطرق التي يفكر بها الإنسان أصلا و يستطيع أن يحكم بها على أي قضية كانت - لن يستقيم أن يرفض أو يقبل أي شئ !!
إن رفض العلم و المنهج العلمي هي دعوة صريحة للجنون و الفوضى - و في الواقع فإن الداعي لها غير صادق و لا متوافق ذاتيا - هذا إن كان أصلا من العقلاء - لأنه يستخدم العلم في كل لحظة من حياته - و لا أقصد هنا إستخدام المنتجات التكنولوجية مثلا - فحتى لو عاش منعزلا بخيمة من صوف الجمل بصحراء قاحلة - فلو قالت له زوجته أنه يوجد ثلاث خراف تائهة فسيستخدم الرياضة ليعلم و يتيقن أن باقي خرافه سبعة (لأنه يعلم أن مجموعها عشرة) - ولو شك بكلام زوجته فسيخرج لعد خرافه بنفسه خارج الخيمة - و فضلا على ذلك فلو هبت ريح عاصفة فسيربط نفسه بالنخلة لعلمه (بالتجربة) أن خيمته العزيزة لن تحتمل الريح ... إلخ.
إن رفض المنهج العلمي هو رفض كل ما نعلمه و نتعامل به مع الواقع و مع أنفسنا و مع الآخرين - إنه تناقض مأساوي - و في حقيقته مجرد ثرثرة فارغة قائلها غير أمين مع نفسه.
و الآن هل مازالت مجرد مصادفة أن يحلو لنا إعتبار العلوم نوعا من الأيديولوجي؟
أم أنها مجرد حيلة نفسية لكي نستطيع أن نقول (مجرد القول) أننا نرفضه و نترفع عنه؟ واضعين رؤوسنا في الرمال في نفس الوقت الذي لا نستطيع فيه نهائيا أن نرفضه في الواقع؟
يتبع ،،