التطور الخالق

3 –

الفصل الأول

الديمومة
واقعة وجود الذات هي واقعة مؤكدة ومعروفة لنا إلي أقصي حد لأننا نحكم علي جميع المعاني الأخري بأنها معان خارجية وسطحية بينما ندرك أنفسنا إدراكا داخليا وعميقا وحين نلاحظ الحالات الشعورية التي تمر بنا من الإحساسات والعواطف والإرادات والتصورات نجد فيها تغيرا مستمرا أي انتقالا من حالة إلي أخري
وقد نتصور أن كل حالة من الحالات هي كتلة واحدة ننتقل بعدها إلي حالة أخري وأنها تدوم مدة ما مثل حالة الحزن أو الفرح ولكن بالتأمل نجد أنه حتي الحالة الواحدة ( الحزن أو الفرح ) تتغير في كل لحظة فالحزن مثلا يحدث فيه تغير في كل لحظة من لحظات الحزن ولا يبقي ثابتا بنفس المقدار أو الشدة ولو توقف التغير لتوقف زمن الحالة عن الجريان
ويمثل برجسون بواقعة الإدراك البصري لموضوع ما وهي حالة نعتقد فيها الثبات فمهما ظل الموضوع ثابتا أمام العين وفي نفس الضوء ومن نفس الزاوية إلا أن رؤيتنا له تختلف في كل لحظة عن اللحظة التالية وما ذلك إلا لتقدم الزمن بتلك الرؤية ( جرب النظر إلي أي شئ وسوف تجد أن الحالة متغيرة فعلا ) وهذا إن كان ينطبق علي الإحساس البصري فهو ينطبق أكثر علي الحالات الداخلية مثل الرغبات والوجدانات ولكننا لا نلاحظ التغير إلا عندما يصبح من الضخامة بحيث يحدد للانتباه موقفا جديدا
فليس هناك فارق بين الانتقال من حالة إلي أخري والبقاء في حالة واحدة فالتغير موجود ومستمر والتقطع المستمر الذي نزعمه للحالات يرجع إلي أننا نثبت انتباهنا علي التغير الذي يبلغ من الشدة درجة تثير انتباهنا ولكن الحقيقة أن الحالات ليست عناصر منفصلة بل يتصل بعضها ببعض في تيار مستمر يسيل إلي مالانهاية

دور الزمن في الديمومة هو أن الديمومة هي التقدم المستمر للماضي الذي ينخر في المستقبل والماضي يحتفظ بالبقاء من تلقاء نفسه ويتراكم دون توقف ويتبعنا في كل لجظة فكل ما شعرنا به وفكرنا فيه منذ طفولتنا ماثل أمامنا ولكن الجهاز الدماغي صنع بحيث يطرد جميع الذكريات إلي اللاشعور ولا يسمح بدخول ذكريات من اللاشعور إلي الشعور إلا التي تلقي ضوءا علي الموقف الراهن ونحتاج إليها في العمل النافع لنا الآن, وما نحن في النهاية وطباعنا وشخصيتنا سوي هذا المزيج المركز للتاريخ الذي عشناه منذ ولادتنا وحتي قبل ولادتنا
ويترتب علي وجود هذا الماضي أننا لا نمر بحالة نفسية أو شعور مرتين بنفس الكيفية أو الشدة بل في كل مرة يختلف الشعور أو الحالة النفسية فشخصينا التي تتغير تحول دون تكرار حالة نفسية سابقة من حيث العمق رغم أن الحالة النفسية الجديدة قد تبدو مماثلة للحالة النفسية السابقة من حيث السطح
والحالات النفسية المتعاقبة التي تمر بنا تصنع شخصيتنا علي الدوام بما تضيفه لتجربتنا أو تعدله منها فنحن نخلق أنفسنا خلقا مستمرا
( أرجو أن تلاحظوا العلاقة بين هذه الفكرة والأفكار الأساسية في الفلسفة الوجودية ) وربما نتعرض يوما ما للعلاقة بين برجسون وسارتر
فمثلا نفس المقدمات قد تملي علي أشخاص مختلفين تصرفات معينة تختلف باختلاف الأشخاص وربما علي نفس الشخص تصرفا يختلف عن تصرف سابق بنفس المقدمات وما ذلك إلا لاختلاف الحالة النفسية عن السابقة بفعل التجربة وتراكم الماضي السابق
وبذلك فنحن لا نستطيع أن نحل للآخرين مشاكلهم إذ يجب أن يحلوها هم بحلول منبثقة من داخلهم ولحسابهم الخاص


كوكو

اقتباس:هناك مذهبان تقليديان حاول بهما الفلاسفة تفسير الحياة : المذهب الميكانيكي والمذهب الغائي وكلاهما في رأي برجسون علي خطأ سواء بسواء

ممكن لو سمحت تفسر لي معنى "المذهب الغائي"؟ ما التعبير الإنكليزي إنْ أمكن؟ لازلت هذه الأيام أتعب على تجهيز النسخة العربية و أشكر لك صبرك. أيضا سأسألك من وقت لآخر أن تشرح لي بعض المصطلحات العربية. شكرا جزيلا.

عزيزي / إبراهيم

كتبت
( ممكن لو سمحت تفسر لي معنى "المذهب الغائي"؟ ما التعبير الإنكليزي إنْ أمكن؟ )



آسف علي تأخيري ولكن هجمت مشاغل فجأة وكنت أظنها لا تهجم :no:
سؤالك يستلزم ردا طويلا
سوف أعاود فيما بعد وأحيلك مؤقتا إلي هذا الرابط من الوكبيديا

http://en.wikipedia.org/wiki/Teleology

ولما كان لديك كتاب قصة الفلسفة اليونانية كما ألمحت سابقا فيمكن الرجوع بأصل الفكرة إلي أرسطو حيث قسم العلل إلي أربع منها العلة الغائية وسوف تري هناك مناقشة د. زكي نجيب محمود لمفهوم التطور عند أرسطو والفارق بينه وبين رأي سبنسر في التطور وفيلسوفنا برجسون كان علي رأي سبنسر في أولياته حسبما يقرر يوسف كرم في كتاب تاريخ الفلسفة الحديثة ثم هاجمه في كتاب التطور الخالق وفند أفكاره
راجع قصة الفلسفة اليونانية من ص 190 حتي 202

وسوف أوضح بعد ذلك أدلة برجسون في رفض الغائية والميكانيكة معا في تفسير التطور إن سمح الوقت
كما أشكرك علي ما تفضلت به علي من صفحات الكتاب وما يهمني هو الفصل الأخير علي وجه الخصوص

كوكو

عذراٌ للتأخير هذه بعض تعليقاتي على الكتاب

المطلق ليس في متناولنا , نكتفي بمحاكاة الواقع .
هذا كلام دقيق .

الآلية والغائية غير كافيين لتعليل حركة التطور .
أولا ٌ ليس هناك غائية
ثانياٌ مفهوم للآلية عند برغسون غير دقيق لأنه كان في وقته الكثير من المعارف لم تنضج بعد لتوضحه بشكل جيد , أما الآن فإنه في رأي غالبية علماء الأحياء إن لم يكن كلهم يؤمنون أن الآية كافية لتعليل حركة التطور.

نحن ندرك ذواتنا إدراكاٌ داخلياٌ وعميقاٌ بينما تتمثل معاني الأشياء تمثلاٌ خارجياٌ سطحياٌ .
في رأي ليس هناك فرق كبير فكلها أحاسيس , فإدراكنا ذاتنا هو إحساس عن ما تم تخزينه في ذاكرتنا . وهو متغير وليس ثابت ,

إن شخصيتنا التي تبنى في كل آن بما تدخره من التجارب لا تكف عن التغير ..... لذلك ديمومتنا غير قابلة للعكس .
هذا دقيق فذاتنا متطورة ومتغيرة وليست شيء ثابت .

إن قوام التنبؤ إسقاط ما تم ادراكه ( أضيف وتسجيله في الذاكرة ) في الماضي على صفحة المستقبل .
ومعنى التنبؤ بها إحداثها ( أضف فكرياٌ ) قبل حدوثها بالفعل
هذا دقيق

وإذاٌ يحق لنا أن نقول أن ما نفعله رهن بما نحن عليه ......
هذا دقيق

وأننا نبدع ذواتنا إبداعاٌ مستمراٌ ( أضيف أين تأثير الموروث البيولوجي والثقافي , وتأثير الواقع علينا , إننا حلقة متوسطة في سلسة ).
إن الأسباب نفسها وإن كانت متساوية المعقولية ( أضيف لا يوجد أسباب متساوية بشكل مطلق ) قد تملي على الأشخاص المختلفين أو على الشخص نفسه في لحظات مختلفة أفعال عظيمة التباين .
هذا دقيق.

لن نقف في النهاية إلا عند الشيء الذي لا يتغير .
هذا الكلام هام جدا ودقيق , فهو أساس عمل دماغنا .

للمادة نزوعاٌ إلى تأليف منظومات معزولة يمكن بحثها بطرق هندسية ( أو رياضية)
هذا كلام دقيق .

إن المنظومات ( أضيف الفيزيائية والكيميائية والحيوية وأغلب العلوم الوضعية ) التي يتناولها العلم موجودة في حاضر آني
أما بقاء الماضي في الحاضر ( أي الذاكرة البشرية الواعية) فهي التي تنتج الديمومة الواعية ( وهي التي تنتج التاريخ أو تفتح الزمن ) .
هذا الكلام دقيق وهام جداٌ

ليس سمة شيء يمنعنا من أن ننسب إلى ( بعض ) المنظومات التي يعزلها العلم ديمومة ذات صورة من الوجود مماثلة لوجودنا .
ممكن

هناك تيار حيوي مرئي شديد الوضوح حدث في لحظة معينة من الزمن . وفي نقطة محددة من المكان .
إن هذا التيار الذي أخترق الأجسام وعضاها واحد بعد الآخر وانتقل من جيل إلى آخر . قد انقسم بين الأنواع وتبدد بين الأفراد ولكنه لم يفقد بانقسامه هذا شيئاٌ من قوته .
بل كان كلما مضى في طريقه قدماٌ ازداد بالأحرى شدة
هذا كلام رائع

إن لعقلنا كما صاغه تطور الحياة وظيفة ذاتية , وهي إضاءة سلوكنا وإعداد تأثيرنا في الأشياء .
والتنبؤ في المواقف المعينة بالحوادث الملائمة أو غير الملائمة التي يمكن أن تنتج منه .
عند هذا يقوم تنبؤ ( الحس السليم ؟؟ ) بالمستقبل . والعلم بلغ بهذه العملية أعلى درجة ممكنة من الضبط والدقة فهو لا يستطيع أن يتناول إذن إلا أشياء من شأنها أن تتكرر .
أيضاٌ رائع

يتبع

مع تحياتي ل كوكو وإبراهم

اقتباس:هناك مذهبان تقليديان حاول بهما الفلاسفة تفسير الحياة : المذهب الميكانيكي والمذهب الغائي وكلاهما في رأي برجسون علي خطأ سواء بسواء

عزيز كوكو:
أرجو أن تسامحني على تأخيري و أرجو أنك لم تمل أو تيأس من استمرار هذا الموضوع. ظروفي في الشهور الفائتة كانت عرضة لشيء أو لآخر و لكني مصمم على استمرار النقاش في هذا الموضوع و أقدّر لك بشدة تضحيتك بالوقت و فتحك لهذا الموضوع المهم جدا و الذي يشغلني كثيرا في تفكيري.

بالنظر لاقتباس من كلامك أعلاه، يتبادر لذهني فوراً أن برجسون رفض الميكانيكية و الغائية على حد سواء. و عند قراءتي لمقدمة كتابه أجده يقول: "فقد حاولنا في الفصل الأول منه الباس حركة التطور ثوبين مجُّهزين يجدهما العقل في متناوله و هما الآلية و الغائية". هنا برجسون ترزي بلدي إن جاز لي التعبير و هذا الترزي يريد أن يُلبس التطور بدلة افرنجي جاهزة و هي من شقين هما الآلية و الغائية. ثم يوضح لنا برجسون في الجملة اللاحقة لذلك أن ما سوف يلبس التطور إيه لن يستخدمه للتعليل أي لتعليل حركة التطور. إذا، هو لا يلغي، يا عزيزي، أياً من المذهبين.
إلى الآن أنا صح؟
تحياتي لك (f)

يا شباب و يا أستاذات: من يريد الدخول في الموضوع أشجعه/ أشجعها بشدة على الانضمام و سوف أحرص على توفير مادة القراءة حتى ما نكون جميعاً على موجة واحدة.:wr: هذا موضوع هام و حيوي و خطير... تصور مثلا واحد يحصر كل شي في العقل و يقول لك بدون العقل لن يناقشك.. هل العقل وحده يكفي؟ برجسون يجيبكم.

we try on the evolutionary progress the two ready-made garments that our understanding puts at our disposal, mechanism and finality;[1] we show that they do not fit, neither the one nor the other, but that one of them might be recut and resewn, and in this new form fit less badly than the other. In order to transcend the point of view of the understanding, we try, in our second chapter, to reconstruct the main lines of evolution along which life


http://spartan.ac.brocku.ca/~lward/Bergson...n_1911_00b.html


و هنا موقع شامل عن برجسون للجميع بمن فيهم أنا:
http://en.wikipedia.org/wiki/Henri_Bergson