تحياتي يا شيخنا العلماني
إسمح لي أن أقتبس بعضا مما ورد في مقالك وأعلّق عليه..
اقتباس:مجال الأخلاق (الصدق والشجاعة والحلم والصبر ...إلخ) إذاً هذه الدنيا، ولا علاقة لها "بحياة أخرى". لذلك، "فالدين"، بشقه الذي يتعرض لعلاقة الانسان بربه وبالماورائيات، لا رابط بينه وبين الأخلاق ولا عرى ولا علاقات.
في الدين يا عزيزي ترتبط الأخلاق ارتباطا وثيقا ب"الماورائيات" وب"الحياة الآخرة"، لأن "من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" والأعمال هنا لم ترتبط بما فرضه "الإله" على البشر وإنما ما فرضه البشرُ على أنفسهم من "مكارم الأخلاق" كما تفضّلت حضرتك...
اقتباس:ولكن ما هو "الدين" (ما دمنا قد تعرضنا إلى هذا المصطلح)؟
الدين (ولنهتم هنا بما يسمى "بالديانات السماوية") هو عبارة عن القواعد والأحكام الصادرة – أساساً - عن "قوى ما ورائية"، والتي تُعنى – أكثر ما تُعنى- "بالحياة الأخرى".
صحيح، الدين يعنى ايضاً "بالحياة على الأرض"، ولكن هدفه الاساسي هو "الآخرة". إذ لا معنى "لسعادة وشقاء الإنسان" على هذه الأرض. فدنيانا هذه هي "فانية" ولا يهم إن عانينا بها أو قاسينا كثيراً، فما يهم هو أن نصل إلى هناك "حيث الصديقون يستريحون" (حسب التعبير المسيحي) أو إلى "جوار الله" (حسب التعبير الإسلامي) حيث أنهار اللبن والعسل والحور العين والغلمان المخلدين. فالهدف الأسمى للدين هو أن يحقق للإنسان "ملكوت السماوات" (عند المسيحيين) و"دخول الجنات التي تجري من تحتها الأنهار" (عند المسلمين)، لذلك فهذه الأرض في الفكر الديني هي "الفانية" وهي "الدنيا" بينما الآخرة هي "الباقية" وهي "العليا".
فهمك هنا للدين بعيد كل البُعدِ عن فهمنا نحن "المتديّنون" له ... فالدين لم يعن بالآخرة أكثر من الدّنيا كما لم يعن بالدّنيا أكثر من الآخرة، هناك توازن يا عزيزي بين هذه وتلك لأن أحكام الدنيا تختلف عن أحكام الآخرة .... الدين معني بالدنيا من حيث وضع القوانين التي تُنظم حياة الفرد والجماعة بهدف تحقيق السعادة للبشر، وهو مرتبط بالآخرة من حيث تحقيق السعادة في الآخرة أيضا، لكن ارتباط هذه القوانين بإرادة البشر جعلها رهنا بالبشر أنفسهم....
اقتباس:الحياة على الأرض في المفهوم الديني هي حياة "دنيا"، عذابها له أجر عند الله لو صبر عليه الانسان. أما سعادة الإنسان فيها فهي "تفصيل من التفاصيل الهامشية"، فالمهم أصلاً ليس سعادة الإنسان ولكن تنفيذ أوامر الله على الأرض حتى تكون "الأرض كلها لله".
مرّة أخرى يا زميل تعود لتُفصّل الدين كما تراه أنت من وجهة نظرك "الرافضة" له، بالتالي أنت تنظر إلى ما قد يكون "النصف الفارغ" من الكأس ....
المؤمن عندما يوقن بوجود "الأجر الأخروي" على الشقاء في الدنيا فهذا سبب وجيه جدا للرضا ولنقل عدم الدخول في دوامات فارغة من الأفكار التي تؤدي إلى اليأس، ونحن نعلم عدد حالات الانتحار الناجم عن اليأس في العالم، مؤخرا سمعت أن مليون حالة انتحار في العالم تحصل سنويا ... بالتالي أين الإلحاد من هذه الأمور وهل يُقدّم أي حلول أو حتى مجرّد أمل؟؟؟ المؤمن لديه الأمل في الآخرة إن انقطعت كل الآمال في الدنيا أما المُلحد فليس له إلا الأمل في الدنيا وإن انقطع فلم يعُد لهذه الدنيا أي هدف أو فائدة!!! ... وطبعا الأمثلة كثيرة أيضا...
اقتباس:يجعجع رجال الدين كثيراً بالنسبة لقيمة الحياة والانسان في الديانات، ولكن أي محاولة بسيطة للتفكير تدفعنا إلى القول بأن "الدين" (الإسلامي والمسيحي على وجه الخصوص) يحتفر هذه الحياة ويحتقر الانسان فيها. فالانسان في الأدبيات الدينية "أوله نطفة وآخره جيفة" والدنيا إن هي إلا "متاع الغرور". ولعل احتقار الانسان والحياة الانسانية والأرض وطلب جوار الله والآخرة هو ما دفع أيضاً إلى تعظيم شأن "الروح" (الباقية) واحتقار الجسد (الفاني). بل والغض من شأن كل المتع الحسية الجسدية واعتبارها موبقات وذنوب تؤدي إلى غضب الله، وتجعل مرتكبيها وقوداً لنار جهنم.
مرة أخرى تتبع أسلوب "التسطيح" يا عزيزي في فهمك للنصوص الدينية (في الإسلام على الأقل)!!! فطبعا لو نظرنا إلى القرآن بنظرتك لن نجد أكثر من أن الإنسان يولد ثم يموت وخلصت وراحت!!! ... خطأ
الدنيا فعلا ما هي إلا "متاع الغرور" لكن إلى أي حد؟ هل هي كذلك إلى حد أن يرميها الإنسان وراء ظهره؟ لا أنكر أن هذه طبعا موجودة عند بعض المتديّنين لكن كما يُقال Exceptions Do Not Make Rules ....
ومن جديد تعود لتختزل كل مُتع الإنسان في مُتعٍ مُعيّنة نعرفها، بالتالي هنا تسطيح آخر لحياة البشر، فالمتع لا تُختزل في "الجنس" و"شرب المُسكر" و"لعب القمار" و و و و و !!!! بالتالي أنت هنا تحتقِرُ الإنسان لأنك حصرت رغباته كُلّها في بضع نقاط بسيطة لا تُشكّلُ 1% من مجموع الرغبات!!!
الدين لم يُلغِ الأخلاق التي تؤدي إلى سعادة البشريّة يا سندي ولو نظرت نظرة "أعمق" قليلا لوجدت الكثير....
الأديان "فعلا" تبنّت مكارم الأخلاق وهذا دليل كبير عدم انفصال الأديان عن الأخلاق الإنسانية، لكنّك طبعا تقول أن الأديان نسبت هذا إلى نفسها، لكن من قال هذا؟ .... قد يكون المُتديّنون قد نسبوها إلى الأديان لكنّك تُحاسب الأديان بذنوب مُتّبعيها وهذا خطأ.....
اقتباس:"الرسالات السماوية" التي نعرفها (وعلى رأسها المسيحية والاسلام) هي رسالات "متأخرة" على "المنظومة الخلقية السائدة". "فالأخلاق" موجودة قبل هذه جميعها، وهي صادرة – كما أسلفنا – عن "العقل" بالتفاعل مع التجربة و"الاجتماع الانساني" و"أحلام البشر وطموحاتهم" منذ أو وجدوا على هذه الأرض.
الرسالات السماوية ليست "مُتأخرة" عن هذه المنظومات الأخلاقية وإنما هي جزء من عجلة التطوّر الحضاري للإنسان ولا نستطيع أن نقول أنها ناقصة أو زائدة، لو أردنا ذلك سأقول أن العلماني متأخر أيضا عن هذه المنظومات الأخلاقية وهو لم يأتِ بشيءٍ جديد إذن فهو "لا أخلاقي"!!! ... طبعا هذا لأنّكم تؤمنون أن الأديان من عند البشر ....
أما لو قلنا أن الأخلاق من عند "الإله" فقد أغفلنا أن الإله هو الذي وضع القدرة عند الإنسان لإبداع هذه الأخلاق، وبما أنه المصدر للأخلاق والأديان في آن واحد فأمر طبيعي أن يكمل أحدهما الآخر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جئتُ لأكمل مكارم الأخلاق" (أو كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام)....
وأما الباقي من كلامك عن "المتكلس" و"الصدء" فهو في رأيي عبارة عن هجوم غير موضوعي وغير مُبرّر يا زميل...
واسلم لنا (f)