وديع فلسطين يكتب عن الرجل الذى كان ظاهرة فريدة
إسماعيل أدهم.. الناقد العبقرى الذى كتب كتاب «لماذا أنا ملحد».. وجدد منهج النقد الأدبى.. وانتحر وهو فى التاسعة والعشرين!
> كتب سلسلة من الدراسات النقدية الرائدة عن أحمد زكى ابوشادى وإسماعيل مظهر وطه حسين وميخائيل نعيمة وتوفيق الحكيم، وخليل مطران، مصطى صادق الرافعى، يقول إن كتاباته النقدية لو عرفت على حقيقتها لوجهت النقد الأدبى إلى وجهته الصحيحة، وسلامة موسى يقول: لو كنا ندرك مغزى النهضة الحديثة لكافانا إسماعيل أدهم حتى يتفرغ للكتابة ويلقح أدبنا بالأساليب العلمية > خليل مطران يرثيه بقصيدة فى ديوانه.. ويقول: ما كتبه عن شعرى لم يكتب مثله فى العربية قبله >
فى صبيحة يوم 23 يوليو 1940 انتشلت من شاطىء جليم بالإسكندرية جثة لشاب فى التاسعة والعشرين من عمره، عُثر فى جيبه عى وريقة تعلن أن صاحبها إسماعيل أحمد أدهم انتحر تخلصا من الحياة.
فمن هو إسماعيل أحمد أدهم الذى قد يكون مجهولا لكثيرين من المعاصرين على الرغم من أنه خلف فى عمره القصير دراسات أدبية وعلمية نفيسة ضربت عليها عوادى الأيام.
ولد إسماعيل أحمد أدهم فى حى الجمرك الشعبى فى الإسكندرية فى 17 فبراير 1911 لأب تركى وأم ألمانية وكان رأس الأسرة إبراهيم أدهم باشا من الأعيان فاختاره محمد على باشا محافظا للقاهرة ووزيرا للمعارف والحربية.
فى الإسكندرية التحق إسماعيل بالمدارس الابتدائية والثانوية، ولكنه اعتمد بعد ذلك على نفسه فى التثقيف الذاتى، فأجاد اللغة الانجليزية إلى جانب التركية والألمانية، وهما لغة التخاطب مع أبيه وأمه فى المنزل. وشغف بالقراءة فى مجالات الأدب والتاريخ والرياضيات، ويشهد شقيقه إبراهيم أدهم بأنه «كان يجلس إلى المائدة لتناول الطعام والكتاب بين يديه، وينام والكتاب معه، ويقرأ وهو يسير فى الطريق، وكان يردد دائما عبارة «اجعل الكتاب صديقك».. ولم يكن الناس يرونه إلا وتحت إبطه رزمة من الكتب والصحف».
الرحيل إلى روسيا
اختفى إسماعيل أدهم من مصر، وتبين أنه سافر إلى تركيا وألمانيا وروسيا بقصد الاتصال بالمعاهد العلمية ومراسلة المستشرقين. وفى تركيا قام بتدريس الرياضيات العالية فى معهد أتاتورك، ونشر كتابا عنوانه «الرياضة والطبيعة» وكتابا بالتركية عنوانه «تاريخ الإسلام» فى ثلاثة أجزاء وأشرف على طبع كتاب «محمد» للمستشرق الألمانى سبرنجر مع تعليقات وملاحظات. وتواصل مع المعاهد العلمية فى ألمانيا.. وفى روسيا حصل على درجة الدكتوراة وقام بتدريس الرياضيات البحتة. فى بطرسبرج واختير عضوا فى أكاديمية العلوم الروسية ووكيلا للمعهد الروسى للدراسات الإسلامية. وألف كتابا باللغة الروسية.
عاد إلى الإسكندرية بعد هذه الجولة الخارجية فى عام 1934، وتوسع فى نشاطه الأدبى فصار ينشر دراسات مسلسلة ومقالات فى مجلات «المقتطف» و«الرسالة» و«المجلة الجديدة» عدا صحف الإسكندرية «كالبصير» و«السفير» وراسل مجلة «الحديث» فى حلب التى نشرت له دراسات مطولة وأصدرت عددا خاصا عنه عند وفاته.
وعندما انتقل الدكتور أحمد زكى أبوشادى ـ رائد أبولو ـ إلى الإسكندرية للعمل فى القسم البكتيريولوجى فى المستشفى الحكومى، احتضن إسماعيل أدهم كمحرر فى المجلات التى أصدرها هناك وهى «الإمام» و«أدبى» و«مملكة النحل»، ولعله لم يلق من الرعاية والترحيب مثل ما لقيه من أبى شادى.
ومع أن إسماعيل أحمد أدهم كان يمثل ظاهرة فريدة فى حياته وأدبه، فإنه لم يسلم من تساؤلات حول «عبقريته» حتى زعم البعض أن هناك من يؤلف له كتبه. والدكتور بشر فارس تشكك فى حصوله على درجة الدكتوراة من روسيا، كما تشكك فى بعض مراجعه المنسوبة إلى مجلات وهمية فى فرنسا.
وكنت صديقا للأديب الكبير على أدهم الذى عاش فترة من الزمن فى الإسكندرية، فسألته إن كانت هناك صلة عائلية بينه وبين إسماعيل أدهم، فنفى ذلك تماما، ثم سألته عما إذا كان قد التقى به فقال إن إسماعيل كان يغشى بعض المنتديات الأدبية فى الثغر السكندرى، وكنت أراه يجلس صامتا لا يبين، فأين هى العبقرية المنسوبة إليه مادام لا يعبر عنها وهو يجلس بين الأدباء.
كان إسماعيل أحمد أدهم يراسل عددا من المستشرقين فأرسل لحيته تشبها بهم كيما يحسب بين المستشرقين والمستعربين.
أما مؤلفاته، عدا ما ورد فى السياق المتقدم فهى:
- دراسة عن أبى شادى باللغة العربية وأخرى باللغة الانجليزية عنوانها «إضاءة الدرب» Blazing The Trail وقد شكك النقاد فى نسبة هذه الدراسة الانجليزية إلى أدهم وقالوا إن أبو شادى هو مؤلفها. ولكننى سألت صديقى الدكتور أحمد زكى أبو شادى فأكد لى أن أدهم هو صاحبها.
- دراسة عن «إسماعيل مظهر المفكر المصرى».
- دراسة عن طه حسين نشرت فى عدد خاص من مجلة «الحديث» الحلبية فى ابريل 1938.
- دراسة عن «توفيق الحكيم الفنان الحائر» أعدها للنشر فى مجلة «الحديث» ولكن سامى الكيالى صاحب المجلة ارتأى أن يستكتب الشاعر إبراهيم ناجى دراسة تكميلية من الناحية النفسية، فصدر الكتاب بعد ذلك باعتباره من تأليف أدهم وناجى.
- دراسة عن الأديب المهجرى ميخائيل نعيمة.
- دراسة عن عبدالحق حامد شاعر تركيا الأعظم.
- دراسة بعنوان «خليل مطران شاعر العربية الإبداعى» وقد نشرها مسلسلة فى مجلة «المقتطف» وكان من عادة جميع المجلات الأدبية ألا تدفع مكافآت للكتاب، ولكنها كانت تهديهم بضع عشرات من النسخ من كتبهم تطبعها مستقلة وتقدمها إليهم.
رثاء مطران ومقدمته
وعندما عملت فى «دار المقتطف» و«المقطم» بين عامى 1945 و1952، جاءنى أمين المخزن وأخبرنى أن هناك ملازم سائبة فى المخزن ولعلها تمثل كتابا نشر مسلسلا فى «المقتطف» فطلبت الاطلاع عليها، وأدركت أنها تتعلق بكتاب خليل مطران لأدهم، وكانت مخصصة لتقديمها إلى المؤلف لولا انتحاره. فطلبت من أمين المخزن أن يجهز أى عدد من هذه الملازم ويقوم بتجليدها. وأمكننا بذلك استنقاذ عشر نسخ، تقاسمنا فى الدار خمس نسخ وحملت النسخ الخمس الأخرى بنفسى إلى صديقى الشاعر خليل مطران الذى أعرب عن تأثره للوفاة المبكرة لهذا الأديب، وقال إنه أعد هذه الدراسة دون أن يلتقى به، وقال إنه فجع بوفاته المأساوية فرثاه بقصيدة فى ديوانه الذى كان تحت الطبع، وقال إننى أوصيت اللجنة المسئولة عن نشر ديوانى بأن تهديك نسخة منه بعد اكتماله لأننى لن أعيش حتى أراه مطبوعا. وفعلا توفى مطران فى عام 1949 قبل ظهور ديوانه، وعندما تلقيت نسختى التى أوصى باهدائها إلى بحثت عن رثائه لإسماعيل أحمد أدهم وألفيته منشورا فى الجزء الرابع من «ديوان الخليل» بمقدمة مسهبة خلا الديوان من مقدمات مماثلة. وجاء فى المقدمة:
«كان من أنبغ وأبلغ أدباء جيلة. نشر فى «المقتطف» دراسة لشخصى وشعرى لم يكتب مثلها فى العربية قبله، ثم جمعت هذه الفصول فى كتاب فخم، وهذا قبل أن أعرفه والتقى به.. وقد حظيت بأن رأيته مرة فى الإسكندرية فرأيت مصداقا لما كنت قد سمعت عن سجاياه القويمة الأبية العجيبة. وبعد أشهر قليلة من تعارفنا نعى إلىّ، وقيل إنه عجل القضاء لزهده فى متاعب حياة لم تطقها نفسه «رحمه الله».
ومن مؤلفات أدهم «بحث فى نظرية النسبية» نشره مسلسلا فى مجلة «الرسالة» وبحث عن حرية الفكر نشرة فى مجلة «أدبى».
أما الرسالة التى نشرها وفاجأت الناس بعنوانها وفحواها فهى الموسوعة «لماذا أنا ملحد» وقد نشرها فى مجلة «الإمام» فى عدد أغسطس 1937 فرد عليها محمد فريد وجدى برسالة عنوانها «لماذا أنا مؤمن» ورد عليها أبوشادى برسالة عنوانها «لماذا أنا مسلم».
هذا وقد عنى الدكتور أحمد إبراهيم الهوادى أستاذ النقد الأدبى بجامعة الزقازيق بنشر المجموعة الكاملة لآثار إسماعيل أحمد أدهم فى كتاب من ثلاثة أجزاء، عنوان الجزء الأول منه «أدباء معاصرون» وعنوان الثانى «شعراء معاصرون» وعنوان الثالث «قضايا أدبية»
ولأدهم دراسات مخطوطة لم تنشر، ويبدو أنها فقدت.
تنويه المستشرقين والكتاب
وقد نوه بعض المستشرقين والكتاب عن فضل إسماعيل أحمد أدهم فقال عنه مصطفى صادق الرافعى متحدثا عن إحدى دراساته «هذه دراسة لا أشك لحظة فى أنها لو عرفت على حقيقتها لوجهت النقد فى الأدب العربى إلى وجهه الصحيح وأقامته على الطريق المستوية». وقال عنه سلامة موسى «لو أننا كنا ندرك مغزى النهضة الحديثة والتقدم البشرى فى القرن العشرين لكافأنا الدكتور أدهم بأحسن ما يكفافأ به كاتب، لكى لا ينقطع عن الكتابة فى تلقيح أدبنا بالأساليب العلمية، وتعيين الطرائق للرقى بأنفسنا وآدابنا».
وقال المستشرق جوج كمبغامير: «لاتجد بين كتب المستشرقين ودراساتهم عن الأدب المعاصر ما يقف إلى جانب دراسات أدهم من وجهة تذوقها للروح العربية وتشربها جو الآداب العربية».
وقال الدكتور أحمد زكى أبوشادى: «العبرة فى دراسات الدكتور أدهم بالمنهج الدراسى نفسه وبكيفية تناوله لموضوعاته بما ليس معهودا من قبل فى الأدب العربى».
وقال صديقه «نقولا يوسف» ناشر سيرته بالتفصيل سواء فى كتابه «أعلام الإسكندرية» أو فى مقالين ضافيين نشرهما فى مجلة «الأديب» اللبنانية فى عام 1965: «إن حياة الكاتب إسماعيل أدهم قد شابهت الشهاب الساطع والسريع الانطفاء. ومادمنا نجد فى المقالات والتعليقات التى نشرها عنه النقاد قبل وفاته وبعدها من المتناقضات والروايات المعتمدة على السماع ما ضاع خلاله الكثير من الحقائق، فقد كان علينا أن نبحث عن المراجع التى يكشف فيها الكاتب عن مكنونات نفسه، أعنى المذكرات الشخصية والاعترافات». ومن أسف أن هذه المذكرات والاعترافات التى بثها أدهم فى كثير من رسائله إلى الأدباء أبى شادى والشاعر حسن كامل الصيرفى والأديب محمد أمين حسونة وكثيرين من المستشرقين لم يتسن الحصول عليها.
كان إسماعيل أحمد أدهم يعانى دائما من أمراض الصدر ومن حمى الدنج، وكان يغالب أوجاعه ليؤدى رسالته. ولأنه كان يعيش فى زمن الحرب العالمية الثانية، فقد نالته بسبب انتماءاته التركية والألمانية وكذلك الروسية شكوك وريب، كما تغالظت عليه الحملة بعد صدور رسالته الصادمة «لماذا أنا ملحد» فقرر التخلص من الحياة مودعا أعوامه التسعة والعشرين، ولم يمش فى جنازته إلا خمسة من الأصدقاء منهم أبوشادى وشقيقه إبراهيم.
لم يتسن لى أن أعرف إسماعيل أحمد أدهم، فكنت عند وفاته فى عام 1940 مازلت طالبا جامعيا، فاعتمدت فى الوقائع الخاصة بحياته على ما سمعته من معاصريه ولاسيما الشاعر خليل مطران والدكتور أحمد زكى ابوشادى، والأديب على أدهم، وعلى ماسجّله صديقه نقولا يوسف.
http://www.alkaheranews.gov.eg/