أستاذ الفلسفة ومؤرخها يوسف كرم يشغل مكانة مرموقة بين أولئك النفر من المثقفين المصريين الذين اضطلعوا بمهمة جليلة كل الجلال هي نقل الفكر الغربي إلى لغتنا وثقافتنا العربية الحديثة ، مكانة يستحقها عن جدارة هو الذي لم يترك حقبة في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي إلا وكتب عنها شيئا وغالباً شيئا قيما متقناً.
كان يقرأ باللغتين الانجليزية والفرنسية إضافة إلى اللغتين الكلاسيكيتين اليونانية واللاتينية ، أربع لغات كان يجيدهم أيضا عبدالرحمن بدوي ويزيد عليهم اللغات : الألمانية والإيطالية والأسبانية والفارسية ، فيما لم يعرف زكي نجيب محمود غير الإنجليزية .

لكن معرفة اللغات الأجنبية في حد ذاته ليس أكثر من مؤشر على الفرص المتاحة للمعرفة ويبقى أمر تحصيل المعرفة وهضمها رهناً بعوامل أخرى إضافية مثل الاستعداد لبذل الجهد المطلوب والجلد والمثابرة والقدرات الفكرية ومستوى الذكاء وما شابه ، بمعنى أن إجادة لغة أجنبية أو أكثر يفتح طريقا للمعرفة لكن السير في هذا الطريق يحتاج لشروط إضافية ، أقول ذلك وفي ذهني رجل مثل أنيس منصور يعرف عدة لغات أجنبية يحسد عليها ويقال عنه ـ ويشيع عن نفسه ـ أنه قارئ موسوعي نهم ورغم ذلك كان هو من أهدر حبرا وورقا كثيرا في إشاعة الخرافات عن الأطباق الطائرة والذين هبطوا من السماء وعفاريت شارع صلاح سالم وهلم جرا .

موضوعنا هنا عن يوسف كرم وتحديدا عن جانب مثير وطريف في آن في شخصيته وهو إيمانه العميق كمسيحي (ماروني ) ، هذا الإيمان الذي يخرجه في كثير من الأحيان عن رصانته بل وأحيانا عن أدبه فيصيح ويرغي ويزبد وربما يشتم ، لكن دون أن يقلل ذلك كثيرا من قيمته وقيمة إنتاجه العلمي فالرجل قدم عرضا مركزا ودقيقاً لأهم مسائل الفلسفة وأهم الفلاسفة الغربيين في كل العصور في عدد من الكتب أهمها ـ في رأيي ـ ثلاثة : "تاريخ الفلسفة اليونانية" و "تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط" و "تاريخ الفلسفة الحديثة" ، يضاف إليهم كتاب رابع مهم بعنوان "الطبيعة وما بعد الطبيعة" وإن كنت أوصي باقتناء كل كتبه لمن لم يقتنها بعد .
أسلوبه في الكتابة وعرض مسائل الفلسفة على درجة من التعقيد الأكاديمي وتتطلب قارئا على شيء من الدراية المسبقة برطانة الفلسفة وبالتالي مؤلفاته لا تصلح للمبتدئين وشذاذ الأفاق :rolleyes: ، ويجب أن أذكر أن الفصل الخاص بكانط في كتابه "تاريخ الفلسفة الحديثة" يعتبر من أجمل وأمتع ما قرأت عن هذا الفيلسوف الملحمي .

والآن تعالوا نرى ـ في ثلاثة نماذج مع ثلاثة من الزنادقة ـ ما ذا يمكن أن يفعله الإيمان الديني برجل على هذه الدرجة من الثقافة فيخرجه قليلا أو كثيرا عن وقاره العلمي ، مع ملاحظة أنني أنقل الاقتباسات من كتابه المذكور عن الفلسفة الحديثة وألتمس العذر عن أي أخطاء إملائية او غيرها في النقل .

الفقرة التالية يختتم بها تناوله لنظرية التطور الداروينية ولن يفوتنا ملاحظة هجاءه الصريح لداروين وغيره ممن لا يروقون لمزاج كرم الإيماني :


" ما مذهبه (داروين) إلا المذهب المادي المعروف ، وقد خلع عليه حلة علمية شائقة ، ولكنها لا تخفي عيوبه عن النظر الثاقب . قلنا أن داروين عجب لتشابه أفراد النوع الواحد من حيث بنية الجسم وتوزعها أصنافاً تبعاً للبيئة وظروف المعيشة : فظاهر أن النوع ثابت من حيث الجوهر متغير من حيث العرض ، ولكن داروين اتخذ التغير العرضي معيارا وفسر الأنواع أنفسها كما تفسر الأصناف ، وقد نسلم بالتطور ثم نرانا مضطرين إلى اعتبار الإنسان نوعا قائما بذاته بسبب ما يختص به من علم ولغة وفن وصناعة وخلق ودين ، وهي مظاهر للعقل لا نظير لها ولا أصل في سائر الحيوان ، وقد نسلم بالتطور ثم نرانا مضطرين إلى الإقرار بموجد للمادة موجه لها ، لقصور المادة عن تنظيم نفسها . ولكن من العلماء والفلاسفة من يفكرون كالعامة دون العقل فيسيغون المحالات ، وسنصادف نفراً منهم فيما يأتي من فصول ، يتخذون مذهب التطور سلاحاً يهاجمون به الدين والروحانيات إطلاقاً ."


في تعليقه على فلسفة كارل ماركس يكاد يوسف كرم يفقد أعصابه ويتدنى بلغته إلى مستوى وعظي هابط ، وربما كون إلحاد ماركس ليس كأي إلحاد من حيث تأثيره في حركة التاريخ وفي الثقافة الإنسانية عموما (كان الاتحاد السوفيتي ملء السمع والبصر حين كتب كرم سطوره) ، كونه كذلك استفز الحس الإيماني عند "أبي حجاج" .
بعد أن اعتبر أن منطق الجدل الماركسي ( الديالكتيك) "باطل من جميع الوجوه" و " باطل في أساسه المادي وفي محاولته (الديالكتيك) استخراج الموجودات على اختلاف أنواعها من المادة البحتة " ، يقول يوسف كرم :


"قال كارل ماركس أن الدين أفيون الشعب يجب منعه عنه لكي ينفض التسليم والخنوع وينهض للمطالبة بحقه ، ولكنه لم يفطن إلى ما ينتج عن الإلحاد من الهبوط بالإنسان إلى درك البهيمة بل إلى أدنى ، إذ أن الإنسان حينذاك يجري مع غرائزه مطلقاً من القيد الطبيعي الذي نشاهده في البهيمة والذي يقفها عند حد الاعتدال فلا يعرف رادعا سوى الخوف من بطش الأفراد والجماعة ، وإذا كان الشيوعيون يشبعون الجسم كما يعتقدون ، ويأملون أن يستغنى الإنسان الشبعان عن الدين فإنهم واهمون : إن الحاجة إلى الدين أصيلة في النفس لا يمكن اجتثاثها ، و "ليس يحيا الإنسان بالخبز وحده بل بكل كلمة تخرج من فم الله"


مع نيتشه يبدو يوسف كرم أكثر هدوءاً ويكتفي بالتقليل من شأنه ووصف فلسفته ـ أو الجديد في فلسفته ـ بأنها مجرد "ضجيج يقال له أدب" وهذا بعد فاصل وعظي قصير كالعادة ، يقول :

"لو أن نيتشه دقق في تحليله لأدرك جمال الحلم والوداعة ، وأنهما عبارة عن المضي مع طبيعة الإنسان العاقلة على النهاية ، بل لأدرك أنهما يتطلبان من القوة أكثر مما يبذل في الغضب والقسوة : فإن القسوة والغضب انقياد للغريزة الحيوانية الجامحة ، على حين أن كظم الغيظ أصعب من إعلانه وأن الصفح أصعب من الانتقام ، وهذا هو الخلاف الدائم بين الحسية والعقلية ، بين مذهب لا يرى في الإنسان سوى أنه حيوان راق فيأخذ بأخلاق الوثنية القائمة على اعتبار القوة والمقسمة البشر إلى قوي وضعيف ، وبين مذهب يلحظ روحانية الإنسان قبل حيوانيته فيرسم له أخلاق العدالة والمحبة ، فلم يأت نيتشى بشيء جديد من الوجهة الفلسفية ، وكل الجديد عنده ذلك الضجيج الذي يقال له أدب . "


يتبع باقتباس أخير .

وهذه مقدمته لنفس الكتاب المقتبس منه (تاريخ الفلسفة الحديثة ) أو معظم المقدمة بمعنى أدق ، وفيها كما سترون بأنفسكم عرض مكثف لمقدمات عصر النهضة ، وكالعادة لن يخلو الأمر من سخط على الإلحاد الذي أتت به النهضة الأوربية ، سخط يتشارك فيه سيد قطب مع يوسف كرم مع آخرين بالطبع :

( أ ) إذا كان المؤرخون يعتبرون فتح الترك للقسطنطينية سنة 1453 ، وما تبعه من انهيار الامبراطورية البيزنطية وهجرة علمائها إلى إيطاليا ، نقطة التحول من العصر الوسيط إلى العصر الحديث فما ذلك إلا لظهور هذه الأحداث وآثارها في جملة الأحداث التي كونت نسيج التطور الجديد . إن التدرج قانون التحول الاجتماعي ، تعمل على هذا التحول أسباب لطيفة عملا متصلا حتى يجيء يوم وإذا به قد تم وبرز لعيان ، وقد بينا في "تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط" أن الانقضاض على القديم بدأ بابتداء القرن الرابع عشر فما كاد ينصرم حتى كانت الفلسفة الاسمية قد نضجت في انجلترا وفرنسا وقضت في بعض الأذهان على جهود المدرسيين في سبيل إقامة فلسفة تتفق مع الدين وحطمت العلم الطبيعي الأرسطوطالي في جامعة باريس ، وظاهرت الأمراء في تمردهم على السلطة البابوية . وكانت بين إيطاليا وبيزنطة علاقات ثقافية ترجع إلى القرن الثالث عشر إذ كانت إيطاليا منقسمة على جمهوريات وكان أمراؤها يستقدمون الأدباء والعلماء من البيزنطيين ، وتوثقت هذه العلاقة في القرن التالي من جراء نشاط التجارة بين البلدين ومحاولات التقريب بين الكنيسة اللاتينية والكنيسة اليونانية فنشط تعلم اليونانية والنقل منها إلى اللاتينية ، وتكاثر في إيطاليا عدد الأدباء والعلماء البيزنطيين بعد ضياع ملكهم حتى صار الشغف بالأدب القديم عاما في القرن الخامس عشر ، وكان الإيطاليون كأنهم يعودون إلى أدبهم السالف ، الأدب اللاتيني الملقح باليونانية، ومن إيطاليا انتشر الأدبان إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا وهولندا ، وأسرع انتشارهما بفضل اختراع الطباعة في منتصف القرن فكانت "نهضة" حقيقتها أنها عودة إلى الثقافة القديمة وثورة على ما استحدث العصر الوسيط من أدب وفلسفة وفن وعلم ودين ، وأسباب الحياة السياسية والاقتصادية .

(ب) هذه الثقافة القديمة تنضح بالوثنية من كل جانب ، فانتشرت الوثنية في الأفكار والأخلاق ، رأى فيها فريق كبير من الغربيين صورة إنسان الفطرة والطبيعة واعتبروا دراسة القدماء كفيلة وحدها بتكوين الإنسان بمعنى الكلمة فسميت هذه النزعة بالإنسانية أي المذهب الإنساني ، وسميت الآداب القديمة بالإنسانيات .
وجاءت كشوف كولومبوس وفاسكو دي جاما وماجلان ودريك ، في أواخر القرن ، بمعلومات كثيرة عن شعوب كانت بمعزل عن المسيحية وكان لها أديان وأخلاق فظهرت فكرة الدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية ، وهكذا تكونت في الغرب المسيحي نظرية جديدة في الإنسان تقنع بما يسمى بالطبيعة وتستغني عما فوق الطبيعة ، كأنها تقول لله : نشكرك اللهم على نعمتك ولكننا بغير حاجة إليها ! ولسنا نرى إلا أن هذه النظرية تعتمد على إحدى وجهتين للثقافة القديمة ، وتغفل عن الوجهة الأخرى ، فقد كانت المدنية اليونانية والرومانية تقوم على علاقة وثيقة بين المواطنين والآلهة ، وكانت العقول مشغولة بالقدر والغيب ، وبقيت "الأسرار" ناشطة طوال عهد الفلسفة وتأثر بها أعاظم الفلاسفة حتى تحسر أفلاطون على أن وحياً إلهياً لم ينزل بخلود النفس فيقطع التردد والقلق ، وحتى رأى رجال الأفلوطينية الجديدة أن كمال الفلسفة في كمال الدين والتصوف ، ويقال مثل هذا في جميع الشعوب القديمة : كان الدين أظهر مظاهر حياتهم ، يتناولها في جميع نواحيها وينظمها أدق تنظيم . وإذن فقد أخطأ الإنانيون إدراك روح اليونان والرومان وغيرهم من الأمم ، وخدعهم عن هذه الروح بعض الشعراء الماجنين والفلاسفة الماديين ، ولكن هكذا كان فنجمت نتائج خطيرة .

(ج) كان من آثار المذهب الإنساني العمل على سلخ الفلسفة عن الدين أو بعبارة أدق العمل على إقامة الفلسفة خصيمة للدين ، والحملة على الفلسفة المدرسية بالتهكم على لغتها وبحوثها وطريقة استدلالها ، بل الحملة على العصر الوسيط بجميع مظاهره ورميه بالجهل والغباوة والبربرية ، وكان ما هو أخطر من هذا : كان أن تسرب المذهب الإنساني إلى المسيحية نفسها وأخذ يعمل على تقويضها من الداخل ، فما كانت البروتستانتية في البدء إلا "احتجاجاً على الغفرانات" ودعوى إصلاح في الإدارة والكنيسة والعبادة ، ثم زعمت أن الدين يقوم على "الفحص الحر" أي الفهم الخاص للكتاب المقدس ، وعلى التجربة الشخصية ، بغير حاجة إلى سلطة تحدد معاني الكتاب ، ثم تناولت العقائد بالفحص الحر فذهبت فيها كل مذهب ، وبددت علم اللاهوت غير محتفظة إلا بعاطفة دينية عاطلة عن كل موضوع . قام لوثر (1483 – 1546 ) وزفنجل (1484 – 1531 ) وكلفن (1509 – 1547 ) يزعزعون العقيدة السلفية وينشئون الكنائس المستقلة وقام هنري الثامن ( 1509 – 1547 ) يقهر الإنجليز على إنكار الكثلكة ، وقام غيره من الملوك والأمراء يناصرون المبتدعة قضاءً لمآربهم الخاصة ، فكان القرن السادس عشر من أشد القرون اضطراباً وفوضى ، انحلت فيه الروابط الدينية والعائلية والاجتماعية ، وعنفت الأهواء القومية ، فنشبت الحروب من أجل الدين والسياسة جميعا ، وعنفت الأهواء القومية ، فنشبت الحروب من أجل الدين والسياسة جميعا ، واستبيح فيها كل محرم بحجة سلامة الأمير أو الدولة .

( د ) وكان الأمراء الإيطاليون يطلبون أسباب القوة والترف فسجعوا الفنون والصناعة فاندفع الأهلون إلى الابتكار والإتقان ، وتنافست المدن في هذا المضمار ، حتى غالت في الاستئثار بالمخترعات والآلات الجديدة ، وكان من استخدام القوى الطبيعية أن زاد في معرفة أفاعيلها ، وحفز الهمم إلى البحث عن قوانينها ، فخرج العلم الآلي من ازدهار الصناعات ، ونبغ علماء وفنانون من الطراز الأول ، ومن المعلوم أن العمل الساذج يسبق النظر ، أو أن الفن يسبق العلم ، ثم يخرج من النظر عمل جديد ، ومن العلم فن جديد أغنى وأكثر إحكاماً ، وكان العلم بأرشميدس في القرن السادس عشر ، ذلك العالم الذي طبق النظر على العمل خير معوان على إقامة ميكانيكا جديدة أرضية وسماوية . فازداد سلطان الإنسان على الأرض ، واتسعت السماء أمام ناظريه بفضل اختراع التلسكوب ، فأحس من الكبرياء والطموح ما لم يحسه من قبل ، والتقى هذا الإحساس في نفسه بما أوحى به المذهب الإنساني في الأدب والدين وبما نفخ فيه النضال السياسي من إحساس ثوي بالاستقلال ، فشعر كأنه رب نفسه ليس فوقه رب .

( هـ ) تلك خصائص عصر النهضة ، وهي هي خصائص العصر الحديث على أيامنا ، نستطيع أن نردها إلى اثنين : الفردية العنيفة في الأدب والدين والسياسة والعناية البالغة بالعلم الآلي وتطبيقاته العلمية الرامية إلى توسيع سلطان الإنسان على الطبيعة والزيادة في رخائه ، وسيكون لكل هذا صدى قوي في الفلسفة : ستستقل الفلسفة عن الدين ، فتكون هناك فلسفة إلحادية ، وتكون فلسفة تشيد بالعلم الآلي وتحصر مجالها على قدر مجاله ، أو تجنمع هذه الوجهات المختلفة في بعض المذاهب مع تفاوت بينها ، وتظل الأجيال إلى الآن حائرة مترددة ، تعتنق المذاهب وتخلعها الواحد بعد الآخر ، وتستبدل نظاما من الحياة بنظام .

اقتباس:موضوعنا هنا عن يوسف كرم وتحديدا عن جانب مثير وطريف في آن في شخصيته وهو إيمانه العميق كمسيحي (ماروني ) ، هذا الإيمان الذي يخرجه في كثير من الأحيان عن رصانته بل وأحيانا عن أدبه فيصيح ويرغي ويزبد وربما يشتم ، لكن دون أن يقلل ذلك كثيرا من قيمته وقيمة إنتاجه العلمي فالرجل قدم عرضا مركزا ودقيقاً لأهم مسائل الفلسفة وأهم الفلاسفة الغربيين في كل العصور في عدد من الكتب أهمها ـ في رأيي ـ ثلاثة : "تاريخ الفلسفة اليونانية" و "تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط" و "تاريخ الفلسفة الحديثة" ، يضاف إليهم كتاب رابع مهم بعنوان "الطبيعة وما بعد الطبيعة" وإن كنت أوصي باقتناء كل كتبه لمن لم يقتنها بعد .

أولا، أعجز عن شكرك صديقي آمون على هذا الموضوع القيم والذي كثيرا ما راودني وأنا أبحث عن مؤرخين للفلسفة وممن يهونون على أنفسهم ويضعون دينهم جانباً ويخلصون للعمل لذاته. أعتبر أن ما قام به يوسف كرم في حشر إيمانه في دراساته الفلسفية هو نوع من استغفال القاريء أو الباحث وكأن الناس لا يعرفون من المراجع سوى ما لدى يوسف كرم أن يقوله وأن قوله حق وسؤاله صدق مثل سؤال الملكين. نعم، هو يطالبنا أن نؤمن بما يصل إليه فيفترض المسلمة أو الفرض ويبني عليه ويصل دون ما يدع مجالاً للتوجس أو الريبة للحقيقة المطلقة ثم يتطاير الشرر من أنفه وعينيه ويصرخ في القاريء: ما بالكم لا تؤمنون؟ مابالكم لا تبصرون؟ حقاً، لهم عيون ولا يبصرون وآذان ولا يفهمون. جيل شرير وفاسق.

وبأي حق أقتني كتابه "الطبيعة وما بعد الطبيعة" يا صديقي؟ هذا الكتاب هو أبسط نموذج لإقحامه الفكرة وفرضها فرضاً على القاريء أعمى البصر والبصيرة والذي لم يؤمن بالله بعد! أهكذا يكون التحقيق الفلسفي؟! الحقيقة يا آمون أني وجدت هذا الكتاب تحديداً تافه كل التفاهة وهو من الأسباب الرئيسية التي ستدفعني لقراءته بحذر شديد لو أتيحت لي فرصة الاضطلاع على مراجعه كلها. لكن أمامنا رجل لبناني آخر ومسيحي واسمه جميل صليبا. وأين هذا من ذاك؟! جميل صليبا يضع الحقائق كما هي. لا أنسب له الموضوعية المطلقة فهي صفة مستحيلة ولكنه في كتابه تاريخ الفلسفة العربية كان أكثر تجرد وأكثر احترام لعقلي كقاريء ناقد من يوسف كرم. ما كنت أخشاه أن يوسف كرم "يهبدني قلمين" على تجرأي لمجرد الشك في وجود الله! الرجل يا آمون فعلا يتعامل مع من لا يؤمن بالله وكأنه "حمار". هل رأيت استهبال أكثر من هذا؟! نعم إنتاجه الغزير ومساهماته ستلقى منا التقدير ولا نقلل منها ولكن سنقرأه بحذر شديد وعينين واعيتين وعدم ثقة في قدرته على الحياد.

تقدر أن تقنعني بعكس ذلك؟ (f)

شكراً على الموضوع الجميل, وتعليقاتك بين الاقتباسات

اقتباس:  آمون   كتب/كتبت  
 
مع نيتشه يبدو يوسف كرم أكثر هدوءاً ويكتفي بالتقليل من شأنه ووصف فلسفته ـ أو الجديد في فلسفته ـ بأنها مجرد "ضجيج يقال له أدب" وهذا بعد فاصل وعظي قصير كالعادة ، يقول :

"لو أن نيتشه دقق في تحليله لأدرك جمال الحلم والوداعة ، وأنهما عبارة عن المضي مع طبيعة الإنسان العاقلة على النهاية ، بل لأدرك أنهما يتطلبان من القوة أكثر مما يبذل في الغضب والقسوة : فإن القسوة والغضب انقياد للغريزة الحيوانية الجامحة ، على حين أن كظم الغيظ أصعب من إعلانه وأن الصفح أصعب من الانتقام ، وهذا هو الخلاف الدائم بين الحسية والعقلية ، بين مذهب لا يرى في الإنسان سوى أنه حيوان راق فيأخذ بأخلاق الوثنية القائمة على اعتبار القوة والمقسمة البشر إلى قوي وضعيف ، وبين مذهب يلحظ روحانية الإنسان قبل حيوانيته فيرسم له أخلاق العدالة والمحبة ، فلم يأت نيتشة بشيء جديد من الوجهة الفلسفية ، وكل الجديد عنده ذلك الضجيج الذي يقال له أدب . "        


يتبع باقتباس أخير .

وأنا ما بعرف ليش حسيت" نقده" أيضاً ضجيج بلاغي سمي نقداً!!! أو سمي تأريخاً بشكل أصح -تقيداً بعنوان الموضوع..
شو يعني مثلآ جمال الحلم والوداعة فلسفيآ!!أليس شكل ومعنى العبارة هنا هو مجرد زخرف أدبي؟
وما مقام عبارة( فإن القسوة والغضب انقياد للغريزة الحيوانية الجامحة ) علمياً , خصوصاًأنه أنكر في الفقرة التي تسبق حول الداورينينة نظرية التطور, وأكد اعتباره للأنسان كنوع أصيل لم يتطور عن سلف حيواني

ربما الأفضل لو بدأ أو اكتفى بالـتأريخ التوصيفي- ولا أظنه يملك أدواته ومصادره حتى, أو على الأقل لن يستطيع الإضافة لآلاف الدراسات التأريخية للفلسفات, يصف ويقارب مفاهيم الفلسفات وسياقها التاريخي.. دون أن يدلي بدلوه لشكل شخصي جدأ ومباشر, استلابي للقارئ- الذي أتخيله من نمط خاص

هاي براهيم أند سكبتك

استرشادا بما قاله السلف الصالح من أن "كل يؤخذ منه ويرد إليه..." سيجد المطالع لمؤلفات يوسف كرم أن ما يمكن أن يؤخذ منه أكثر وأهم بما لا يقاس بما يمكن أن يرد إليه .

الرجل قدّم تأريخا للفلسفة الغربية على درجة كبيرة جدا من التركيز والاتقان ، وعلى أقل تقدير وضع بين أيدينا وبلغتنا العربية خارطة بالخطوط العريضة للفكر الفلسفي الغربي ، أما مداخلاته الإيمانية فلم تزد عن عدة صفحات في كتاب مثل "تاريخ الفلسفة الحديثة" يقع في حوالي 500 صفحة ، وتأتي في صورة تعقيبات قصيرة يمكن تجاهلها .

بالنسبة لكتاب "الطبيعة وما وراء الطبيعة" فلا أجد سببا لكل هذا السخط منك عليه يا إبراهيم ، يمكنك أن تقرأه كعرض فلسفي للرؤية الإيمانية بمختلف ادعاءاتها ، ويوسف كرم أو غير يوسف كرم لا يستطيع أن يفرض على أحد شيئاً في أمور الفكر والإيمان .
وعن نفسي لم أر في كتابات الرجل شيئاً يمكن اعتبارها إهانة لعقلية القارىء ، غاية الأمر أن مشاعره الإيمانية المتدفقة تغلب عليه أحيانا وتأخذ قلمه من طابعه العام الرصين ، في نهاية الأمر هو ـ في رأيي ـ مؤرخ قدير للفلسفة لكن دون أن يخلو من بعض العيوب ، والكمال لله كما تعلم .

أستاذ آمون بما أنك أتحفتنا بمقتطفات من فلسفة يوسف كرم ، هل يمكن أن أجد كتاب تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم على النت ؟

والله طلب حلو كثير (f)
واضم صوتي لصوتك

للأسف أيها الزميلان الكريمان ، أسقف مكة ومالك ، ليس لدي أي فكرة عن توفر الكتاب على النت من عدمه ، أما النسخة المطبوعة فصادرة عن "دار المعارف" بالقاهرة .
كم يؤسفني أن أعجز عن المساعدة ! :emb: