الإسلام ليس وافدا على مصر، فمن وادي الطور في سيناء انبثق النور السماوي القديم، ونور السماء لم ينقطع عن البسيطة، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير...
على أنني لم أتكلم بهذا الاجتزاء المفتعل الذي تزعمه، فأنا لم أقل للحظة أن تاريخ مصر هو الإسلام، لأنني أعلم أن هذا لا يصدق في حق مصر ولا في أي بقعة...
نحن لا نتنكر للتاريخ ولا للجغرافيا كما يفعل غيرنا، ونبينا أعلن منذ اليوم الأول أنه إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، فلم يكفر معروفا سبق إليه، ولا أنكر كتابا أنزل على أمة سواه، بل كان من صميم عقيدته الإيمان بكل كتب الله وكل رسله لا نفرق بين أحد من رسله...
أما ما يقدمه المشروع الإسلامي للعالم وليس للمسلمين فحسب فهو السلام المطلق
وهنا دعني أتكلم عن المشروع الحضاري الإسلامي بعموم لأنك سألت بعموم حين تناولت في مداخلتك العقيدة الإسلامية لا المشروع الإخواني الاجتهادي البشري وحده!
المشروع الإسلامي يدعو للسلام التام والشامل والكامل بلا مثالية ولا رهبنة ولا نظريات أفلاطونية حالمة...
سلام حقيقي واقعي لم يعرفه البشر إلا في ظل دولة الإسلام، وخسروه اليوم يوم أن انحط المسلمون في درك التبعية والاستنساخ!
السلام شعار الإسلام وتحيته وجائزته لكل إنسان ومجتمع أصلح واتقى ...
لا صراع طبقي ولا عنصري ولا طائفي ولا ديني، ولا حتى صراع مع البيئة وثرواتها وكائناتها الحية يعتدي على التوازن السلمي الذي فطرها عليه سبحانه!
وفي الوقت الذي أصر الآخرون على تسمية حروبهم ضد حضارتنا بالحروب الصليبية، بقي المسلمون يسمونها بحروب الفرنجة لا غير، وربما اشترك معهم فيها بعض شركائهم في الأوطان ممن يحملون معتقدات الغزاة أنفسهم!!
(ادخلوا في السلم كافة)
سلام في العلاقات الاجتماعية فليست تقوم على القضاء والحقوق، بل على الواجبات والمسؤولية، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، ومن هنا فلم نعرف طوال تجربتنا الإسلامية على تعثراتها، مثل هذه النغمة المتصارعة على وتيرة التكالب على الحقوق ولو بغير وجه حق!
آفة بعض المتمسلمين من بني جلدتنا أنهم لا يدركون حتى الساعة الفرق بين دينهم الرباني، وبين الأديان الأخرى!
إذا كان الدين في المفهوم الكنسي يشكل عاملا يسهل فصله عن الحياة، بحيث يستطيع المتدين المسيحي أن يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وإذا كان مع تلك القابلية للفصل العلماني غير أنه يشكل أهم مكون من مكونات الحضارة كما يقول هنتجتون، فكيف يكون دور دين أراده الله منهج حياة، وشرعه شاملا لكل مناحيها، وأمر عباده بأن يدخلوا في سلمه كافة، وجعله حاكما على حياتهم العقدية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ونهاهم عن أن يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، فما عسى تأثيره على الثقافة يكون؟!
لا ريب أن جميع مكونات الثقافة تنعكس فيها خصائص الدين الذي يسري فيها، فأهمية الدين بالنسبة للثقافة كأهميته بالنسبة للإنسان.ونعرض فيما يلي لصور تبرز أثر الدين في الثقافة والحضارة
- قضية الخلق الأولى كما وردت في القرآن والكتاب المقدس أثرت في معطياتها المختلفة على الحضارتين الإسلامية والغربية (قديما وحديثا)!
فالسبب الذي أبعد فيه آدم وحواء من الجنة كان أكلهما من شجرة المعرفة، فبقي هاجس العداء بين العلم والدين قائما بينهم على تلك الخلفية حتى أثمر علمانية أصلها من أصلها منهم بناء على وصية المسيح في إحدى رسائله: (دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر)، فانظر أثر الدين في هذه الحضارة وما أفرز، وانظر إلى مقابله الإسلامي وكيف كان الدين سببا في انسجام واتساق، حيث أنه ورد في قصة الخلق نفسها أن الذي كرم لأجله آدم عليه السلام، حتى سجد له الملائكة، أنه تعلم! (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا..)، ومن هنا كان فقهاء الأمة في عصر نهضتها هم مفكريها وصناع الحياة فيها، حتى أن أستاذ الفلاسفة المسلمين هو هو الفقيه المجتهد المالكي صاحب مدونة بداية المجتهد والأصولي الأريب والقاضي الفطن.
لم تسمح البيئة الإسلامية في عصر نهضتها ببروز المفكرين والمبدعين إلا وهم أكثر فقها ويقينا في شؤون الدين منهم في شؤون الفلسفة، لأن رسالة (إقرأ) و (قل ربي زدني علما) لم تكن تحول بين التدين والعلم تحت أي ذريعة.
في قصة الخلق أيضا فلسفة مختلفة باختلاف الكتابين لدى المسلمين والغرب المسيحي، وتتعلق يعصيان آدم وزوجه وأكلهما من الشجرة المحرمة! ففي الكتاب المقدس أن حواء هي التي زينت لآدم معصيته، فكان من أثر ذلك أن اتخذها الفكر المسيحي الأول شيطانا رجيما، وبعد أن تملكت الحسرة آدم أن فقد ما فقد بسبب هذه المرأة المشؤومة كان لا بد من علاقة متوترة قائمة على الصراع، تغذى بقيمة البحث عن الحقوق وأخذها تأثرا بالفلسفة الغربية القائمة على فردانية الإنسان ابتداء!
أما القصة في القرآن فتجعل الهبوط أمر قدري أزلي لأن الله سبحانه خلقهما للأرض ابتداء: (قال إني جاعل في الأرض خليفة)، وإهباطهما كان بخطيئة ارتكباها معا، ويتحملان إثمها معا، ثم يتوبا معا، فيهبطا معا، لا إثم لواحد منهما على الآخر ولا مبرر لكل ذلك الصراع أن يستمر بينهما! (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما من الناصحين. فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). ومن هنا فما ثمة صراع حقوقي بين الرجل والمرأة متأصل في طرحنا الفكري.
بون شاسع بين ثقافة: (ادخلوا في السلم كافة) وبين ثقافة الصراع الشامل، صراع بين السلطة والمعارضة على الحقوق السياسية، وصراع بين الرجل والمرأة على الحقوق الزوجية، وصراع بين الدين والعلم في الحياة العامة!
إن ثقافة الصراع والتدمير والفتك ضربة لازب للثقافة الغربية التي نشأت في شقها الثقافي مؤسسة على الفكر الهلليني اليوناني الوثني ثم التوراتي فالإنجيلي الذين يكرسان حياة الصراع، الصراع بين الآلهة الرومانية والبشر (على النار المقدسة الذي سرقه احد آلهة اليونان من رب الأرباب، ثم تحدته)، ثم الصراع بين الإله وآدم على شجرة معرفة الخير والشر، وكذا مصارعة يعقوب والإله (كما في التوراة)، ثم يستمر الصراع في العهد الجديد، ويزعم الفكر النصراني المحرف أنهم هزموا الإله بصلبه.
ثم يستمر تكريس الصراع مع المخلوقات من البشر والحيوانات في نصوص كتابية كثيرة تدعو لقتل النساء والأطفال والحيوان، لذا لا عجب لهذه الحضارة أن تقيم حربين عالميتين، وتعد لثالثة، وفيما بينهما تفتك بكل من تقدر عليه، ...
قارن هذا بثقافة السلم الإسلامية، سلم مع الكون فلا عدوان على البيئة ولا تعد على الطبيعة، ولا أذى لبهيمة الأنعام وذر الحشرات وأخضر النبات، (لا تقتلوا امرأة ولا طفلا، لا تقطعوا شجرة)، (دخلت امرأة النار في هرة عذبتها)، وسلم مع قوانين الفطرة فلا شذوذ ولا مجاهرة، وسلم اجتماعي داخل الأسرة، فلهن مثل الذي عليهن، والنساء شقائق الرجال، ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، وبعضكم من بعض. وسلم مع الطوائف الدينية الأخرى في إطار التعايش الوطني، صوامعهم وكنائسهم وأديرتهم محترمة، ورهبانهم مرعيون، وهم آمنون على أنفسهم بأمان الله ورسوله، ومن آذاهم فقد آذاه صلى الله عليه وآله وسلم، أين هذا مما جرى في محاكم التفتيش القديمة والحديثة -في البوسنة وكوسوفا-؟!
سلم الإسلام مع الحاكم فلا صراع للصراع، ولا معارضة للمعارضة، بل دعوة للأمة أن تسمع وتطيع لمن تولى أمرها دون خروج ولا فتنة ما التزم بعقده مع الله والأمة.
سلم الإسلام مع العقل فهو مناط التكليف ومستودع الفقه ولا تعارض بين صريح المنقول وصحيح المعقول.
وسلمه للأمة كلها: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)
فهذا هو سلام الله على المسلم يتبادله في صلواته وجلواته وخلواته عشرات المرات كل يوم وليلة.. وهذا هو سلم الإسلام الذي دعى إليه سبحانه: (ادخلوا في السلم كافة)
- الفن في الحضارة الإسلامية أثمر فناً معمارياً راقياً ظهر في مساجد المسلمين وزخرفتها ، بينما الفن الغربي بموروثاته اليونانية أبدع في صناعة التماثيل والصلبان بأنواعها.
كذلك الشعر في مجتمعاتنا الإسلامية أثمر أغراضا حضارية لم تكن معهودة في الحقبة الجاهلية، ولا هي معهودة في شعر التشكيك والبعثرة والضياع المعاصر.
- أيضا (موضات) الملابس التي انتشرت في بلاد المسلمين تأثرت بالمفهوم الديني، مثلاً الكوفية الباكستانية مفتوحة من الأمام تلبية لحكم السجود على الجبهة عند الحنفية، البنطال الكردي والتركي العريض هو انعكاس للفهم الإسلامي للملابس. بينما أثمر الفهم المنحرف للدين المسيحي الذي ضمن الغفران للمن آمن إيمانا باهتا بالمسيح المخلص الذي صلب تكفيراً للخطاة عن خطاياهم، أثمر هذا التسطيح والاستخفاف بالمعصية إباحية منفلتة تستمد من قصص الكتاب المقدس وبعض ما جرى مع أكارم الأنبياء ضلالا فوق ضلال حتى وصلنا للفلسفات الليبرالية المطورة والوجودية البهيمية!الغربية أثر من آثار.
هذا طرح عام يتسق وسؤالك العائم!
غير أن مشروعنا الوطني القطري يتسم بخصوصية لم نجدها عند سوانا...
فمشروعنا على معاصرته مشروع أصيل، لم نستنسخه من شرق أو غرب، ولا فرض على أمتنا بسطوة انقلاب عسكري ندلسه على الشعب بيافطات الثورة والأحرار!!
مشروعنا على انفتاحه عصي على الذوبان في رموز وشعارات شرقية أو غربية!
مشروعنا يحافظ على الجذور ويرتفع بقامته فلا يرضى بما دون النجوم، كشجرة طيبة أصلها وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..
غير أن عارض من الضعف ألم بأمتنا، ندركه بواقعية، فلا نغمض عيوننا عن واقع الانحطاط الذي نعيشه، ولا نستسلم له كأنه قدر خالد تالد!!
إنما ننطلق على غربتنا بين بني جلدتنا لنبشر بما عندنا، ويرضينا من الأمة أنها برغم ما فرضته النظم الانقلابية والعميلة من حصار لمشروعنا، وتشويه لصورتنا، غير أنها باتت تميز بنضج بين الزبد وما ينفع الناس، بين الأوهام والحقيقة، بين الداعوة والدعاية، بين الإسلام والاستسلام
ولهذا فالنتائج التي تحظى بها الحركة الإسلامية العالمية هنا وهناك ترضينا جدا، ونعلم أنها في نماء مستمر بإذن الله
ونتفهم تماما أن لا يراها المتضررون غير ناتج من نواتج النكاية ببعضهم!
لن نضيع أوقات الناس سدى بهذا العبث الذي يستغرق ويشغل أوقات الناس بتفسير ظاهرة إشراق الأرض بنور ربها، فهي فطرة الله التي غفل عنها من ولد في الظلام ولم يدرك بأن ساعات الفجر تولد من رحم أشد ساعات الليل حلكة.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ }آل عمران26-27
http://www.alasr.ws/index.cfm?method=home....&contentid=8553
:redrose: